شعائرنا وشعائرهم

منذ 2021-12-26

يبقى الدين في الناس ما بقيت فيهم شعائره، ويزولُ بزوال شعائره أو إبدال غيرها بها، وقد يزول الدين بالكليَّة، وتبقى في الناس بعض الشعائر التي توارثوها؛ كما زال دين الحنيفية من مكة وبقيت فيهم بعض شعائر الخليل - عليه السلام - يؤدُّونها وهم على شركهم.

يبقى الدين في الناس ما بقيت فيهم شعائره، ويزولُ بزوال شعائره أو إبدال غيرها بها، وقد يزول الدين بالكليَّة، وتبقى في الناس بعض الشعائر التي توارثوها؛ كما زال دين الحنيفية من مكة وبقيت فيهم بعض شعائر الخليل - عليه السلام - يؤدُّونها وهم على شركهم.

والشعائرُ هي أعلام الدين الظاهرة، وتُطلَقُ على الزمان، ومنه الأشهر الحرم، وتطلق على المكان، ومنه المساجد الثلاثة، والمشعر الحرام، وتطلق على الذوات، ومنه الهدي والقلائد؛ قال الله – تعالى – فيها: {وَالبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ الله} [الحج:36]، وذلك لأنها تُشعر وتقلد وتساق للبيت، وتذبح قربانًا لله – تعالى - وقد نهى - سبحانه وتعالى - عن استحلال شعائره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ الله} [المائدة:2]، وجعل تعظيمها من التقوى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ} [الحج:32]، كما تطلق الشعائر على العبادات، قوليَّة كانت أم فعليَّة؛ فشعار العيد التكبير، وشعار الحج التلبية؛ كما في حديث زَيْدِ بن خَالِدٍ الجهني - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله: «جاءني جِبْرِيلُ - عليه السَّلاَمُ - فقال: يا محمد، مُرْ أَصْحَابَكَ فَلْيَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ؛ فَإِنَّهَا من شَعَائِرِ الْحَجِّ»؛ (رواه أحمد)، وأعمال الحج تُسمَّى: مناسك الحج وشعائره.

وتكرَّر ذكر الشعائر في القرآن خمس مرات، كلها تتناول الحج ومناسكه، وسبب ذلك - والله تعالى أعلم - أنَّ الحجَّ أظهر الشعائر في الإسلام، وما فيه من مناسك كلها شعائر ظاهرة مُعْلَنَة، بل تجتمع العبادات الظاهرة كلها فيه.

والعجيب أنَّ أركان الإسلام الأخرى فيها من الشعائر الظاهرة ما يمنع تحريفها أو تبديلها؛ فالشهادتان اللتان هما شرط الإسلام معلنتان في كل أذان وإقامة، في كل يوم وليلة، والصلاة شعارها الأذان، ويجتمع الناس في المساجد لأدائها، فمن أصبح يغدو إلى المسجد، فكأنَّه يرفع أعلام الإيمان، ويُظهر شعائر الإسلام، ويُوهن أمر المخالفين، وفي الصلاة الليلية يُجهَر بالقرآن، وهذا من أسباب حفظ القرآن؛ لأنه يطرقُ الأسماع باستمرار، فلا يمكنُ لأحدٍ أن يزيدَ فيه أو ينقص منه، وإلاَّ لاحتسب عليه مجموع الأمة وردُّوه عن غيِّه، ومُضيِّعُ الصلاة مُضيِّع لأعظم الشعائر، قال الأوزاعي - رحمه الله - تعالى: "كتب عمر - رضي الله عنه - إلى عُمَّاله: اجتنبوا الاشتغال عند حضرة الصلاة، فمن أضاعها، فهو لما سواها من شعائر الإسلام أشد تضييعًا".

وفي الزكاة نجدُ صدقة الفطر شعيرة مُعلنَة، يُشترى فيها الطعام ويُكال ويُنقل ويُعطى علنًا، والصيام مُعلَّق برؤية الهلال، وهو شعار ظاهر يستوي الناس في تحرِّيه ورؤيته، وهذا التحري والسؤال عن الرؤية سببٌ في إظهار شعيرة الصيام وإعلانها والحديث عنها، وكذلك ربط الفطر من رمضان بالعيد، حتى سُمي به إشهارًا لشعيرة الصيام؛ لأنَّ العيد من أبين الشعائر وأظهرها؛ فالفرائض شُرعتْ لإشادة الدين، وإظهار شعائر الإِسلام؛ ولذا كانت جديرة بأن تُؤدى على رؤوس الأشهاد.

إن الله – تعالى - قد تكفَّل بحفظ الإسلام من التبديل والتحريف، وجعل من الأسباب الشرعية لذلك هذه الشعائر الظاهرة التي توارثتها الأمة عمليًّا من عهد النبي إلى يومنا هذا.

إنها شعائر مُعلَنة، منها اليومي المتكرر كالأذان والصلاة، ومنها الأسبوعي وهي صلاة الجمعة، وقد شُرع الجهرُ فيها مع أنها نهاريَّة؛ لأنها شعيرة ظاهرة يَجتمع لها الجمع الكثير من الناس، ومن الشعائر شعائر حوليَّة، وهي الصيام وصدقة الفطر والعيدان والحج.

ومن أهمية الشعائر في الإسلام وظهورها: أن الإنسانَ يُحكَم عليه بها؛ فمن أظهرها حُكِمَ بإسلامه والله يتولى سريرته؛ كما في حديث أَنَسِ بن مَالِكٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله: «مَنْ صلَّى صَلَاتَنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا، فَذَلِكَ الْمُسْلِمُ الذي له ذِمَّةُ الله وَذِمَّةُ رَسُولِهِ»؛ (رواه البخاري)، وهذه الأعمال المذكورة في الحديث هي من الشعائر الظاهرة، وفي تفضيل الخُلطة على العُزلة ذكر العلماء أن من أسباب التفضيل شهود شعائر الإسلام.

وفي الجانب الاجتماعيِّ نجدُ أنَّ إعلان النكاح وإشهاره هو شعاره؛ كما جاء في الحديث: فَصْلُ ما بين الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ: الدُّفُّ وَالصَّوْتُ في النِّكَاحِ؛ رواه النسائيُّ،  وذكر ابن القيم - رحمه الله تعالى -: أنَّ ختانَ الصبي من أظهر الشعائر التي يُفرَّق بها بين المسلم والنصراني، واللحى شعار الرجال في الإسلام؛ ولذا أُمروا بإعفائها وإكرامها، كما أن الحجاب هو شعار النساء فأمرنَ بالتزامه.

إنَّ الدين لا يَبقى إلا ببقاء شعائره وإظهارها، وعند المسلمين من تَعدُّد الشعائر وإظهارها ما ليس عند أصحاب الديانات الأخرى، وأعداء الإسلام من الكفار والمنافقين يجتهدون في توهين هذه الشعائر في قلوب المسلمين؛ لأنه لا سبيل إلى صرفهم عن دينهم إلا بإلغاء شعائرهم، أو تحريفها، أو إفراغها من معانيها الإيمانية؛ لتكونَ تقاليد عرفيَّة ليس لها أثر عليهم.

ومن أوائل الشعائر التي حاربها الأعداء: اللغة العربية؛ لأنها شعار الإسلام ووعاؤه، والتاريخ الهجري؛ لأنَّ فيه تَميُّزًا عن الأمم الأخرى في مواقيتها.

أما اللغة العربية، فحاربوها أيام الاستعمار والتغريب، ولا يزالون، وأحلُّوا لغة المستعمر محلها، وزاحموها باللغات الأجنبية وباللهجات العاميَّة، ونفَّروا الناس من فنونها وآدابها، ومن حماتها ودعاتها ومدرسيها، وقلصوا منهاجها؛ حتى خرَّجتْ بلادُ العرب مَنْ يحملون شهادات عُليا إذا تكلم كثير منهم كسروا لغة القرآن ولحنوا فيها، وبعضهم لا يستطيع أن يركِّبَ جملة مفيدة.

وأما التاريخ الهجري، فالمساومة عليه قديمة؛ إذ طَلبتْ الدولة العثمانية قبل قرنين مساعدة من فرنسا وألمانيا وانجلترا، فوافقوا بشروط، كان منها: إلغاء التقويم الهجري في الدولة، وفي القرن الماضي طلب خديوي مصر من فرنسا وإنجلترا قرضًا لحفر قناة السويس، فاشترطوا شروطًا، كان منها: إبدال التقويم الميلادي بالتقويم الهجري بعد إلغائه.

وفي أكثر دول الغرب - إن لم يكن كلها - يُمنع الجهر بالأذان في مكبِّرات الصوت بحجة الإزعاج، بينما نواقيس الكنائس تُوقِظ النيام بإزعاجها في يوم الأحد، والموسيقى الصاخبة تصمُّ الآذان في الأسواق والأماكن العامة ولا تُمنع! مع أنَّها بلاد تدَّعي حرية ممارسة الشعائر لجميع الأديان دون تحيز، وقبل أيام مُنعتْ المآذن في سويسرا، وربما تَبِعَتْها مستقبلاً دول أخرى؛ لأنَّ المآذنَ دليل على المساجد، والمساجد موضع الصلاة، وهي شعيرة يومية ظاهرة.

والحرب على شعيرة حجاب المرأة ونقابها على أشدها، ومَنْ منعوه في بلاد الغرب صرَّحوا بأنه رمز ديني، بينما تركوا رموز الديانات الأخرى وشعائرها الظاهرة ولم يتعرضوا لها؛ لنوقنَ أنَّ هذه الشعائر الظاهرة التي قصدها الشارع الحكيم كانت سببًا قويًّا في هداية كثير من الغربيين للإسلام، حتى أضحى الإسلام ظاهرة ترعبهم، بينما لم تؤثِّر شعائر أصحاب الديانات الأخرى فيهم، ومهما عملوا لتبديل الإسلام، أو صرف الناس عنه، فلن يفلحوا؛ فإنَّ دين الله – تعالى - أقوى من أديان الشيطان، وسيغلبُ حقُّنا باطلهم بإذن الله - تعالى.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ} [التوبة:32 – 33].


أما بعد:
فاتقوا الله - تعالى - وعَظِّموا شعائره، وفاخروا بشريعته، واعتزوا بدينه؛ فإنها من ربِّنا، ولا عزَّة لنا إلا بها؛ {وَلله العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8].

أيها المسلمون:
كلُّ دين سواء كان حقًّا أم كان باطلاً، لا بُدَّ أن تكونَ له غاية، وشعائره ومراسمه تتمحور حول هذه الغاية وتكرِّسها، وتدعو إليها، ولما كانت غاية الإسلام تعبيد الناس لله - تعالى - وحده لا شريك له، كانت شعائره كلها لتعظيم الله – تعالى - وذكره وشكره، وكلَّما كانت الشعيرة أعظم كان تعظيم الله – تعالى - فيها أكبر، وذكره أكثر، وأظهر الشعائر في الإسلام وأكثرها جمعًا الحجُّ والعيدان، وفيها من توحيد الله – تعالى - وذكره وتعظيمه والثناء عليه ما ليس في غيرها.

ولو نظرنا في أكبر أمة ضالة عن الهدى في هذا العصر وهم النصارى، لوجدنا أن أكبر شعار في دينهم يتفقون عليه هو الصليب، الذي يعتقدون أن المسيح صُلِبَ عليه، وصومهم الكبير يتخلله أسبوع الآلام، والعشاء الأخير الذي تُقرَّبُ فيه القرابين ويُسمَّى عيد الفصح، ثم يوم الصَّلب، فعيدُ القيامة الذي يزعمون أنَّ المسيح قام بعد صلبه ورفع للسماء، وهذه الشعائر تمتدُّ إلى خمسين يومًا، وهي مبنيَّة على أساس أن المسيح ابن الله – تعالى - وأنه مصلوب؛ ليتحمَّلَ الآلام والخطايا عن البشرية، فهي شعائر تكرِّس الشرك بالله - تعالى - وعبادة غيره معه؛ لأنَّ الغاية عبادة المسيح مع الله – تعالى -  ثم لو نظرنا إلى أكبر طائفة بدعيَّة في الإسلام وهي الإمامية الاثني عشرية، فإنهم فعلوا مع الحسين - رضي الله عنه - ما فعلت النصارى مع المسيح - عليه السلام - وجعلوا الحسين - رضي الله عنهم - هو غاية دينهم، وحوَّلوا يوم قتله إلى مأتم نسجوا له كمًّا كبيرًا من الشعائر البدعية، من اللطم والبكاء والنوح، والإدماء والزحف والتَّغني بالمراثي، واختراع القصص في الحسين وآله - رضي الله عنهم - على غرار اختراع النصارى في آلام المسيح ونهايته عندهم.

ومن نَظَرَ إلى حال هاتين الأمتين: النصرانيَّة والإمامية، بَانَ له لِمَ عُظِّمت شعائر الله – تعالى - في الإسلام، ولِمَ كان التشديد في النهي عن التشبه بالكفار، وعن الابتداع في الدين؟ إذ إنَّ التشبه يقود المسلمين إلى شعائر النصارى، والابتداع في الدين يجعلهم كالإمامية في شعائرها المبتدعة، وكلُّ ذلك ممنوع؛ لأنه يؤدي إلى ظهور الشعائر الكفرية والبدعية، وبه تضمحلُّ الشعائر الشرعية التي ارتضاها الله - تعالى - لنا دينًا، وجعلها لنا شِرعة ومنهاجًا.

وفي هذه الأيام تَجتمع أعياد الأمة النصرانية بميلاد المسيح ورأس السنة مع مآتم الإمامية في قتل الحسين - رضي الله عنه - وتُنقلُ هذه الشعائر للمسلمين في كثير من الفضائيات والإذاعات، فيُخشى على جُهَّال المسلمين من التأثر بها، والمشاركة فيها، أو التهنئة بها، وكلُّ ذلك من المشاركة في شعائر الكفر، والرضا بها، ولا يجتمع في قلب واحد تعظيم شعائر الله – تعالى - وتعظيم شعائر الكفر أو البدعة.

ويُوافقُ ذلك صيام المسلمين ليوم عاشوراء، وهو سُنَّة، ويُكفِّر سَنة، والسُنَّة صيام التاسع معه مخالفة لليهود؛ كما جاءت بذلك الأحاديث، فاحرصوا على صيامه، واشكروا الله – تعالى - إذ هداكم للشعائر الشرعية التي تقربكم منه، وقد ضلَّ غيركم، فهم في شعائرهم يجتهدون ولا تزيدهم من الله –تعالى - إلا بُعدًا وبُغضًا؛ {ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:104]، ومِنْ شُكر الله – تعالى - بُغْضُ شعائر الكفر والبدعة، وتحذيرُ الناس منها، وبيان بطلانها؛ ليكونَ الدين كله لله - سبحانه وتعالى.

وصلَّوا وسلَّموا.