صفات المؤمنين في القرآن الكريم

منذ 2022-01-02

الإيمانُ ليسَ بالتمني، ولكنَّ الإيمانَ ما وقرَ في القلبِ وصدقَهُ العملُ، الإيمانُ ليس كلمةً ترددُهُا الألسنةُ فحسب أنا مؤمنٌ أنا موحدٌ، إنَّما الإيمانُ قولٌ باللسانِ وتصديقٌ بالجنانِ وعملٌ بالجوارحِ والأركانِ

بدايةً ما أحوجَنَا في هذه الدقائقِ المعدودةِ إلى أنْ يكونَ حديثُنَا عن صفاتِ المؤمنين، ونحن نعيشُ زمانًا انتكستْ فيه الفطرةُ وقلَّ الإيمانُ عندَ الكثيرِ من الناسِ، وانتشرَ فيه المادياتُ والشهواتُ، وخاصةً أنَّ كلَّ واحدٍ منَّا يحتاجُ أنْ يجددَ إيمانَهُ قبلَ فواتِ الأوانِ قبلَ أنْ يأتي يومٌ لا ينفعُ فيه الندمُ، ولا ينفعُ فيه مالٌ ولا بنونَ، إلا مَن أتي اللهَ بقلبٍ سليمٍ، وخاصةً ونحن نعيشُ زمانًا طغتْ فيه المادياتُ والشهواتُ، وانشغلَ فيه العبادُ عن ربِّ العبادِ، وقلَّ فيه الخوفُ من علامِ الغيوبِ وستيرِ العيوبِ، ولا حولَ ولا قوةَ إلا باللهِ.

 

أولًا: الإيمانُ ليسَ بالتمني:

أيُّها السادةُ، الإيمانُ ليسَ بالتمني، ولكنَّ الإيمانَ ما وقرَ في القلبِ وصدقَهُ العملُ، الإيمانُ ليس كلمةً ترددُهُا الألسنةُ فحسب أنا مؤمنٌ أنا موحدٌ، إنَّما الإيمانُ قولٌ باللسانِ وتصديقٌ بالجنانِ وعملٌ بالجوارحِ والأركانِ، إنّه الإيمانُ يا سادةٌ الذي جعلَ الأعرابيَّ يقولُ لرسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: إِنَّا لَا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ}، «وَلَكِنْ امْضِ وَنَحْنُ مَعَكَ مقاتلون»؛ (رواه البخاري).

 

إنّه الإيمانُ أعظمُ نعمةٍ على الإنسان، لا تُدانِيها نعمةٌ، ولا تُوازِيهَا منَّةٌ، بهِ تتحقَّقُ سعادةُ الدنيا والآخرة؛ قال ربُّنَا: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:1] ).

 

إنّه نورٌ يحيي القلوبَ من المماتِ ونورٌ يضيئُ الحياةَ من الظلامِ، إنّه نورُ الإيمانِ، قال جلّ وعلا: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 122].

 

الإيمانُ كما في صحيحِ مسلمٍ من حديثِ عمرَ بن الخطابِ رضى اللهُ عنه قال النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم: الإيمانُ أنْ تُؤْمِنَ باللَّهِ، ومَلائِكَتِهِ، وكُتُبِهِ، ورُسُلِهِ، والْيَومِ الآخِرِ، وتُؤْمِنَ بالقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ، الإيمانُ كما في حديث ِأَبِى هُرَيْرَةَ رضي اللهُ عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى اللهُ عليه وسلم): «الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ»؛ (صحيح مسلم)، والإيمانُ باللهِ (عزّ وجلّ) مرتبطٌ بالعملِ الصالحِ قرينًا، لا ينفكُّ أحدهُمَا عن الآخر؛ كما جاء في كتابِ ربِّنَا: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 82]، وفي قولِهِ عزّ وجلّ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ}[يونس: 9]، وقولِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا}  [الكهف: 107].

 

إِيمَانُنَا عَقْدٌ وَقَوْلٌ وَعَمَلْ   ***   يَزِيدُهُ البِرُّ وَيَنْقُصْهُ الزَّلَلْ 

 

ثانيًا: مِن أبرزِ صفاتِ المؤمنينَ في كتابِ اللهِ:

أيُّها السادةُ، صفاتُ المؤمنينَ كثيرةٌ وعديدةٌ لا يتسعُ الوقتُ لذكرِهَا وكيف لا؟ ولقد ذكرَ الحقُّ سبحانَهُ وتعالى في كتابهِ الحكيمِ صفاتٍ كثيرةً لعبادِهِ المؤمنينَ، منها: كمالُ الخشيةِ للهِ تعالى، إذ أنّ الخشيةَ مِن اللهِ تعالى مِن أعلى المقاماتِ وأجلِّهَا، قال ربُّنَا: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:2- 4].

 

والوجلُ هو كمالُ الخشيةِ للهِ تعالى، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:57 -60].

 

سَألتْ عائشةُ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ـ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن هذه الآيةِ {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ}. قالت: أهم الذين يَشرَبونَ الخَمرَ ويَسرِقونَ؟ قال: «لا يا بِنتَ الصِّديقِ، ولكِنَّهم الذين يصومون ويُصَلُّونَ ويتصَدَّقون وهم يخافون ألَّا تُقبَلَ منهم، أولئك الذين يسارِعونَ في الخيراتِ وهم لها سابِقونَ»؛ (رواه الترمذي).

 

ومِن صفاتِ المؤمنينَ التوكلُ على اللهِ (عزّ وجلّ)، والتوكلُ هو اعتمادُ القلبِ على اللهِ (عزّ وجلّ) في استجلابِ المصالحِ ودفعِ المضارِّ، وتفويضُ الأمورِ كلِّهَا إليه، مع اعتقاد أنّه لا يعطي ولا يمنعُ، ولا يضرُّ ولا ينفعُ سواهُ سبحانَهُ وتعالى، فالمؤمنُ يتوكلُ على اللهِ (عزّ وجلّ)، ويأخذُ بالأسبابِ المؤديةِ لإتمامِ الأعمالِ دونَ الاعتمادِ عليها، فالأخذُ بالأسبابِ لا يُنافي التوكلَ, فعن عُمَرَ (رضي اللهُ عنه) قَالَ: سمعتُ رَسُولَ اللهِ (صلى اللهِ عليه وسلم) يقولُ: «لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا»؛ (رواه الترمذي)، فمَن وثقَ في اللهِ نجَّاهُ، ومَن توكلَ عليه كفَاهُ، ومَن فوَّضَ إليه الأمرَ هدَاهُ، ومَن سألَهَ أعطَاهُ {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ....} [الزمر: 36].

 

ومِن صفاتِ المؤمنين: المحافظةُ على الصلاةِ والخشوعُ فيها، قال جلّ وعلَا: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ}، فالصلاةُ هي شعارُ الإسلاِم والصلاةُ عمادُ الدينِ، وجوهرُ الإسلامِ, وهي الفرقانُ بين الكفرِ والإيمانِ، وهي رأسُ القرباتِ والعباداتِ, وهي مصدرُ البرِّ, ومبعثُ الخيرِ, وطهرةٌ للقلبِ من أدرانِ الذنوبِ والمعاصي والآثامِ، فبصلاحِهَا يصلحُ العملُ كلُّه، وبفسادِهَا يفسدُ العملُ كلُّه، ومما يدلُّ على وجوبِ الخشوعِ في الصلاةِ‏‏ ما رواه أنسُ بنُ مالكٍ (رضي اللّهُ عنه) قال‏:‏ قال رسولُ اللّهِ (صلى اللهُ عليه وسلم):‏ ‏«مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي صَلاَتِهِمْ، فَاشْتَدَّ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ حَتَّى قَالَ: لَيَنْتَهُنَّ عَنْ ذَلِكَ، أَوْ لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ» (صحيح البخاري).

 

ومِن صفاتِ المؤمنينَ: الإنفاقُ في سبيلِ اللهِ تعالى بمفهومِهِ الأعمِّ، ويشملُ الزكاةَ المفروضةَ وصدقاتِ التطوعِ، فعن ابنِ عمرَ (رضي اللهُ عنهما) عن النَّبي (صلى اللهُ عليه وسلم) قَالَ: «اليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأ بِمَنْ تَعُولُ، وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنىً، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ»؛ (صحيح البخاري)، وعن عَدِىِّ بْنِ حَاتِمٍ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه ـ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: « «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ سَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلاَ يَرَى إِلاَّ مَا قَدَّمَ وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلاَ يَرَى إِلاَّ مَا قَدَّمَ وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلاَ يَرَى إِلاَّ النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ» »؛ (رواه مسلم).

 

أيُّها السادةُ، لقد أشارَ القرآنُ الكريمِ إلى صفاتٍ أخرى للمؤمنينَ إضافةً إلى ما ذكرَ، منها على سبيلِ المثالِ لا الحصرِ: أنَّهُم عن اللغوِ معرضون، وللأماناتِ والعهودِ راعون ومحافظون، قال جلّ وعلا عن صفاتِ المؤمنين المفلحين: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:1-11].

 

فبَيَّنت الآياتُ أن الفلاحَ والفوزَ لِمَن اتصفَ بهذه الصفاتِ من خشوعٍ في الصلاةِ، وإعراضٍ عن اللغوِ، وإيتاءٍ للزكاةِ، وحفظٍ للفروجِ عن الحرامِ، والحفاظِ على الأماناتِ وتأديتِهَا لأصحابِهَا، والوفاءِ بالعهودِ، كلُّ ذلك عدَّهُ القرآنُ من صفاتِ المؤمنينَ وأخلاقِهِم.


فحريٌّ بكلِّ مسلمٍ أنْ يتخلقَ بهذه الأخلاقِ الواردةِ في القرآنِ الكريمِ بحقِّ أهلِ الإيمانِ ليضمنَ لنفسِهِ النجاةَ في الدنيا والآخرةِ، فالإيمانُ إذا تحققَ في قلبِ العبدِ كما ينبغي صانَهُ عن كلِّ صورِ الانحرافِ والتشددِ والتعصبِ، وجعلَهُ محبًّا للخيرِ لنفسِهِ ولغيرِهِ، ومتجنبًا لشهادةِ الزورِ والكذبِ ومجالسِ اللغوِ، ويسعى لتحقيقِ الخيرِ والصلاحِ لمجتمعِهِ ووطنِهِ، أمَّا مَن ادعى الإيمانَ وانحرفَ بأخلاقِهِ وتصرفاتِهِ عن الوجهةِ الشرعيةِ الصحيحةِ فلم يكتملْ إيمانُهُ؛ لأن الإيمانَ لا بدَّ لهُ من حقيقةٍ تدلُّ عليه، فعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (رضي اللهُ عنه) أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) خَرَجَ يَوْمًا فَاسْتَقْبَلَهُ شَابٌّ مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ: حَارِثَةُ بْنُ النُّعْمَانِ، فَقَالَ لَهُ: «كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا حَارِثَةُ» ؟ قَالَ: أَصْبَحْتُ مُؤْمِنًا حَقًّا، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): «انْظُرْ مَا تَقُولُ، فَإِنَّ لِكُلِّ حَقٍّ حَقِيقَةً، فَمَا حَقِيقَةُ إِيمَانِكَ» ؟ قَالَ: فَقَالَ: عَزَفَتْ نَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا، فَأَسْهَرْتُ لِيَلِي وَأَظْمَأْتُ نَهَارِي، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَرْشِ رَبِّي بَارِزًا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ كَيْفَ يَتَزَاوَرُونَ فِيهَا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ النَّارِ كَيْفَ يَتَعَادَوْنَ فِيهَا، فَقَالَ: فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): «أَبْصَرْتَ فَالْزَمْ»، مَرَّتَيْنِ، عَبْدٌ نَوَّرَ اللهُ الْإِيمَانَ فِي قَلْبِهِ؛ (شعب الإيمان).

 

وعلى أنَّ المؤمنَ إنَّما يتصفُ بكلِّ الصفاتِ الكريمةِ من الصدقِ، والأمانةِ، والوفاءِ بالعهدِ، والكرمِ والحياءِ، والاستقامةِ، والرحمةِ، والسماحةِ، والتواضعِ، والعدلِ، والإحسانِ، والإيثارِ، وسائرِ مكارمِ الأخلاقِ التي حثَّ عليها القرآنُ الكريمُ، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119]، وقال سبحانَهُ: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المعارج: 32]، وقال في علاماتِ الصادقينَ المتَّقينَ: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177].

 

وقد أعدَّ الله تعالى للمؤمنين المتصفين بكريمِ الأخلاقِ جنَّةً عرضُهَا السماواتِ والأرض، قال جلّ وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} [الكهف: 107- 109].

 

إِلَهي لا تُعَذِّبني فَإِنّـــــــــي   ***   مُقِرٌّ بِالَّذي قَد كانَ مِنّـــــــي 

فَكَم مِن زِلَّةٍ لي في البَرايا   ***   وَأَنتَ عَلَيَّ ذو فَضلٍ وَمَــــنِّ 

يَظُنُّ الناسُ بي خَيرًا وَإِنّي   ***   لَشَرُّ الناسِ إِن لَم تَعفُ عَنّي 

 

ثالثًا: تعالَوا نجددُ الإيمانَ في قلوبِنَا:

أيُّها السادةُ، اعلموا يقينًا أنّ الإيمانَ يزيدُ وينقصُ، يزيدُ بالطاعاتِ وينقصُ بالعصيانِ والزلاتِ قال ربُّنَا: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4]، وفي الصحيحين من حديثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ».

 

فاحذرْ مِن الذنوبِ والمعاصي علي الإيمانِ؛ لأنّ المعصيةَ سوادٌ في الوجهِ وظلمةٌ في القلبِ والقبرِ وضيقٌ في الرزقِ ووهنٌ في البدنِ وبغضٌ في قلوبِ الخلائقِ، على العكسِ من الطاعةِ فإنّها نورٌ في الوجهِ ونورٌ في القلبِ والقبرِ، وسَعَةً في الرزقِ وقوةٌ في البدنِ، ومحبةٌ في قلوبِ الخلائقِ؛ كما قال ابنُ عباسٍ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ـ فالإيمانُ يزيدُ بالطاعاتِ وينقصُ بالعصيانِ والزلاتِ، ولابدَّ من تجديدِ الإيمـانِ في القلبِ وزيادَتِهِ مِن آنٍ لآخـر، فالقلوبُ تتأثرُ بالطاعاتِ كما تتأثرُ بالذنوبِ والمعاصي فعن حُذَيْفَةَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه ـ قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا، فَلاَ تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ، وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لاَ يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلاَ يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلاَّ مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاه»  (رواه مسلم).

 

فجدد الإيمانَ في قلبِكَ بقراءةِ القرآنِ، فباللهِ عليكم مَن مِنَّا قرأَ القرآنَ بعدَ رمضان ولو مرةً واحدةً، وذكرَ الرحمنَ، وصـلّى على النبيِّ المختارِ، فتاةٌ في ريعانِ الشبابِ تري النبيَّ كلَّ ليلةٍ ولما سُئِلتْ قالتْ: أُكثرُ من الصلاةِ على رسولِ اللهِ، تَخيل أُخي، تُصلي على الرسولِ أكثرَ من عشرةِ آلافِ مرةٍ في اليوم، فاستحقتْ أنْ تراهُ صلى اللهُ عليه وسلم كلَّ ليلةٍ.

 

أخي جددْ إيمانَكَ بالاستغفارِ، وزيارةِ القبـورِ، وزيارةِ المرضى والمحافظـةِ على الصلواتِ في جماعةٍ بالمساجدِ، والإنفاقِ على الفقراءِ والمساكين، والإحسانِ إلى الأراملِ واليتامى والمحرومين.

 

فجددْ إيمانَكَ في قلبِكَ بالعملِ الصالحِ والتوبةِ والنوبةِ والعودةِ إلى علامِ الغيوبِ، وستيرِ العيوبِ، فبابُ التوبةِ مفتوحٌ لا يُغلقُ أبدًا يبسطُ ربُّنَا يدَهُ بالليلِ ليتوبَ مسيءُ النهارِ، ويبسطُ يدَهُ بالنهارِ ليتوبَ مسيءُ الليلِ، فما دمتَ في وقتِ المهلةِ فبابُ التوبةِ مفتوحٌ، قال: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا» (رواه مسلم).

 

وفي روايةٍ للترمذي وحسَّنَهُ وعَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ)؛ رواه الترمذي.

 

فالبدارَ البدارَ قبلَ فواتِ الأوانِ، البدارَ البدارَ قبلَ الندمِ والحسرةِ على ما فاتَ، فأصلحْ بالتوبةِ ما هو آتٍ، واندمْ يا مسكينُ على ما فات، واستعد لليومِ الثقيلِ والهولِ الكبيرِ والخطبِ الجليلِ، والعذابِ الشديدِ آهٍ لنفسٍ لا تعقلُ آمرَهَا ثم جهلتْ قدرَهَا وتُضَيِّعُ في المعاصي عمرَهَا..

 

أبَتْ نَفْسِي تَتُوبُ فَمَا احْتِيَالِي   ***   إذَا بَرَزَ العِبَادُ لِذِي الجَــــــــــــلالِ 

بأوزارٍ كأمثالِ الجبــــــــــــــالِ   ***   وقامُوا من قبورِهم سُـكـــــــارى 

فمنهم من يكبُّ على الشمــالِ   ***   وقد نصبُ الصراطُ لِكَي يَجُوزوا 

تلقاهُ العرائسُ بالغوانــــــــــي   ***   ومنهم من يسيرّ لدار عــــــــــدنٍ 

غفرتُ لك الذنوبَ فلا تُبالـــي   ***   يقولُ له المهيمنُ يا ولــــــــــــــيَّ 

__________________________________________________
الكاتب: د. محمد حرز