صدقة من نوع خاص
الإنسان يُثاب على نيَّته، فمتى صدَق الإنسانُ في نيَّته آتاه اللهُ الأجر، وإنْ عرَض له عارضٌ فمنَعه عن ذلك العمل، فقال صلى الله عليه وسلم: (( «إِنَّ بِالْمَدِينَةِ لَرجَالًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ؛ حَبَسَهُمُ الْمَرَضُ».
الإنسان يُثاب على نيَّته، فمتى صدَق الإنسانُ في نيَّته آتاه اللهُ الأجر، وإنْ عرَض له عارضٌ فمنَعه عن ذلك العمل، ومِن هنا حَرَصَ الإسلامُ على أن يَستَحضر الإنسانُ دائمًا النيَّة الحسَنة؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ بِالْمَدِينَةِ لَرجَالًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ؛ حَبَسَهُمُ الْمَرَضُ» [2].
والجهاد في سبيل الله له عظيمُ الأجْر عند الله تعالى؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الصف: 10 - 12].
ومتى تَركَت الأمَّةُ أمْر الجهاد في سبيل الله، ونسيَتْه أو تناسَتْه، ألْبسها اللهُ تعالى ثوبَ الذِّلَّة والصَّغار، وتكالبتْ عليها أُمَمُ الأرض مِنْ كُل صوْب، تستلب ما في يديها مِن خيرات بلا تعَب ولا عناء؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: «يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ، كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا» ، قَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمِنْ قِلَّةٍ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: «لا، بَلْ أَنْتُمْ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزِعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، ولَيَقْذِفَنَّ اللهُ في قُلُوبِكُمُ الْوَهنُ» ، قَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْوَهنُ؟ قَالَ: «حُبُّ الدُّنْيَا، وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ» [3].
بل حرص الإسلامُ على أن يُعلِّم أبناءه استحضارَ الجهاد في سبيل الله تعالى، والمشاركة فيه، وألَّا يغيب هذا المعنى عنْ فكْرهم وخاطِرِهم، بل أَبعَد مِن هذا؛ جعَل الإسلامُ الإنسانَ إذا تناسَى هذا المعنى، وانمحى مِن نفسه، بَيَّنَ أنه فيه شُعبةٌ مِن النِّفاق؛ فعن النبي قال: «مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ، مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ» [4].
ولْنتأمَّل هذا الموقف؛ ففي غزوة تبوك وُجد مَن تخلَّف معذورًا؛ لأنه لَم يجدْ ما يحمله للجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولَم يكُنْ عند رسول الله ما يحْملهم عليه، وكان مِن بين هؤلاء البكَّائين صحابيٌّ جليل، يُسمَّى علبة بن زيد أخو بني حارثة، لَم يجدْ ما يَقوَى به على الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم للجهاد في سبيل الله، فخرج مِن الليل فصلَّى مِن ليلته ما شاء الله، ثم بكى، وقال: (اللهم، إنك أَمَرْتَ بالجهاد، ورَغَّبْتَ فيه، ثم لم تجعل عندي ما أتقوَّى به، ولم تجعَل في يدِ رسولك ما يحْملني عليه، وإني أتصدَّق على كل مسلم بكلِّ مَظلمة أصابني فيها في مال أو جسَد أو عِرض)، ثم أصبح مع الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أين المتصدِّق هذه الليلة» ؟، فلم يَقُمْ أحدٌ، ثُمَّ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أين المتصدِّق؟ فليقُم» ، فقام إليه علبة بن زيد فأخبر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بما كان مِن أَمْره، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَبْشِر، فوالذي نفسي بِيَدِهِ، لقد كُتِبَت في الزكاة المتقبَّلة».
ما يُستفاد مِن هذا الموْقِف مِن عِظات:
فضْل صدقة النِّيَّة والإخلاص:
نعم، والله إنها الصدقة التي توصل الإنسان بنيَّته ما لَم يَصِلْ إليه بعمله، إنَّه الإيمان الصادق الذي جعَل العينين يفيضان بالدَّمْع لِحرمانهم مِن هذا الفضل؛ فضْل الجهاد في سبيل الله، وشرَف الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أن الله قد رفَع عنهم الحرَج؛ فقال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة: 91، 92][5].
قال ابن كثير رحِمَه الله تعالى:
بيَّن تعالى الأعذارَ التي لا حَرَجَ على مَن قعَد فيها عنِ القتال، فذَكرَ منها ما هو لازمٌ للشخص لا ينفكُّ عنه، وهو الضَّعْف في التركيب الذي لا يَستَطيع معه الجِلَاد في الجهاد، ومنه العمَى والعَرَج ونحوهما، ولهذا بدأ به، وما هو عارضٌ بسبب مرض عَنَّ له في بَدَنِه، شغَله عن الخروج في سبيل الله، أو بسببِ فَقْرِه، لا يقْدر على التجهُّز للحرب، فليس على هؤلاء حَرَج إذا قعدوا ونصحوا في حال قُعُودهم، ولم يُرْجِفُوا بالناس، ولَم يُثَبِّطوهم، وهم مُحْسِنون في حالهم هذا؛ ولهذا قال: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 91][6].
والحمد لله رب العالمين.
[1] وهذه المقدمة تُسمَّى خطبة الحاجة، وقد أخرجها مسلم في صحيحه في كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة 2/ 593 ح (868) عن ابن عباس رضي الله عنه بقصة في أوله، وزيادة في آخره، ومختصرًا دون ذكر الآيات، وأخرجه النسائي في "الكبري" في كتاب النكاح، باب ما يُستحبُّ مِن الكلام عند الخطبة 6/ 89 ح (3278) مع ذكر الآيات، ورواه أحمد في "المسند" 1/ 350، وأشار محقِّقُه إلى أنَّ إسناده صحيح على شرْط مسلم.
وله شاهدٌ عن ابن مسعود، أخرجه أبو داود في سُننه في كتاب النكاح، باب في خطبة النكاح 1/ 644 ح (2118)، بتقديم آية النساء على آية آل عمران، وأخرجه الترمذي في سُنَنِه في نفس الكتاب السابق، باب ما جاء في خطبة النكاح 2/ 355 - 356 ح (1107)، وقال: حسَن صحيح.
[2] الحديث رواه مسلم في صحيحه في كتاب الإمارة، باب ثواب مَن حَبَسَهُ عن الغزو مرض أو عُذر آخر 3/ 1518 ح (1911)، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كنا في غَزَاةٍ فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فذكره.
[3] الحديث رواه أبو داود في سُننه في كتاب الملاحم، باب في تداعي الأمم على أهل الإسلام 2/ 514 ح (4297) عن ثوبان رضي الله عنه، ووقع في رواية البغوي في "شرح السُّنَّة" بدلًا مِن قوله: وليقذفنَّ في قلوبكم الوهن، قوله: ولتعرفُن في قلوبكم الوهن.
[4] رواه مسلم في صحيحه في كتاب الإمارة باب إثْم مَن مات ولَم يغْزُ، ولَم يحدثْ نفسه بالغزْو (3 / 1517) ح (1910/ 58).
[5] راجع "البداية والنهاية"؛ لابن كثير 5/ 5.
[6] راجع "تفسير ابن كثير" (4/ 198).
________________________________________________
الكاتب: د. محمد الرفاعي
- التصنيف:
- المصدر: