المنتقى من كتاب " إحياء علوم الدين " للإمام الغزالي - ذم الغضب

منذ 2022-01-20

قوة الغضب محلها القلب, ومعناها غليان دم القلب بطلب الانتقام, والناس في هذه القوة على درجات ثلاث, من: التفريط, والإفراط, والاعتدال.

الغضب شعلة نار, ويستكبرها الكبر الدفين في قلب كل جبار عنيد, كاستخراج الحجر النار من الحديد, ومن نتائج الغضب: الحقد, والحسد, وبهما هلك من هلك, وفسد من فسد. وإذا كان الحقد والحسد والغضب, مما يسوق العبد إلى مواطن العطب, فما أحوجه إلى معرفة معاطبه ومساويه ! ليحذر ذلك ويتقيه, ويميطه عن القلب إن كان وينفيه, ويعالجه إن رسخ في قلبه ويداويه, فإن من لا يعرف الشر يقع فيه, ومن عرفة فالمعرفة لا تكفيه, ما لم يعرف الطريق الذي به يدفع الشر ويقصيه.

الغضب:

عن عكرمة في قوله تعالى: {(وسيداً وحصوراً ) } [آل عمران:39] قال: السيد الذي لا يغلبه الغضب

«روى أبو هريرة أن رجلاً قال: يا رسول الله, مرني بعمل وأقلل, فقال: ( لا تغضب ) ثم أعاد عليه, فقال: ( لا تغضب ) وقال عليه الصلاة والسلام: ( ليس الشديد بالصرعة, وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ) »

وقال سليمان بن داود عليهما السلام: يا بني, إياك وكثرة الغضب, فإن كثرة الغضب تستخف فؤاد الرجل الحليم.

قال بعضهم: إياك والغضب, فإنه يصيرك إلى ذلة الاعتذار.

قيل لعبدالله بن المبارك: أجمل لنا حسن الخلق في كلمة. قال: لا تغضب.

وقد قيل: الغضب عدو العقل, والغضب غول العقل.

قيل لحكيم: ما أملك فلانا لنفسه ! قال: إذا لا تذله الشهوة, ولا يصرعه الهوى, ولا يغلبه الغضب.

 

حقيقة الغضب ودرجاته:

قوة الغضب محلها القلب, ومعناها غليان دم القلب بطلب الانتقام, والناس في هذه القوة على درجات ثلاث, من: التفريط, والإفراط, والاعتدال.

أما التفريط: فبفقد هذه القوة أو ضعفها, وذلك مذموم, وهو الذي يُقال فيه: إنه لا حمية له. ولذلك قال الشافعي رحمه الله: من استغضب فلم يغضب فهو حمار.

وأما الإفراط: فهو أن تغلب هذه الصفة حتى تخرج عن سياسة العقل والدين وطاعته ولا يبقى للمرء معها بصيرة ونظر وفكرة ولا اختيار.

وسبب غلبته أمور غريزية, وأمور اعتياديه, فرب إنسان هو بالفطرة مستعد لسرعة الغضب, حتى كأن صورته في الفطرة صورة غضبان, ويعين على ذلك حرارة مزاج القلب, لأن الغضب من النار. وأما الأسباب الاعتيادية: فهو أن يخالط قوما يتبجحون بتشفي الغيظ, وطاعة الغضب, ويسمون ذلك شجاعة ورجولة.

ومن آثار هذا الغضب في الظاهر: تغير اللون, وشدة الرعدة في الأطراف, وخروج الأفعال عن الترتيب والنظام, واضطراب الحركة والكلام, حتي يظهر الزبد على الأشداق, وتحمر الأحداق, وتنقلب المناخر, وتستحيل الخلقة, ولو رأى الغضبان في حالة غضبه قبح صورته لسكن غضبه, حياء من قبح صورته, واستحالة خلقته, وقبح باطنه أعظم من قبح ظاهره, فإن الظاهر عنوان الباطن.

وأما أثره في اللسان فانطلاقه بالشتم والفحش من الكلام الذي يستحيى منه ذو العقل. ويستحيى منه قائله عند فتور الغضب.

وأما أثره على الأعضاء فالضرب والتهجم والتمزيق والقتل والجرح عند التمكن.

وأما أثره في القلب مع المغضوب عليه فالحقد والحسد وإضمار السوء.

فمن مال غضبه إلى الفتور حتى أحس من نفسه بضعف الغيرة, وخسة النفس في احتمال الذل والضيم في غير محله, فينبغي أن يعالج نفسه حتى يقوى غضبه. ومن مال غضبه إلى لإفراط حتى جره إلى التهور, واقتحام الفواحش, فينبغي أن يعالج نفسه لينقص من سورة الغضب, ويقف على الوسط بين الطرفين, فهو الصراط المستقيم, فإن عجز عنه فليطلب القرب منه, فليس كل من عجز عن الاتيان بالخير كله, ينبغي أن يأتي بالشر, ولكن بعض الشر أهون من بعض, وبعض الخير أرفع من بعض, فهذه حقيقة الغضب, ودرجاته, نسال الله حسن التوفيق لما يرضيه.

بيان الأسباب المهيجة للغضب وطرق علاجها:

الأسباب المهيجة للغضب: الزهو, والعجب, والمزاح, والمماراة, والغدر, وشدة الحرص على فضول المال والجاه, وهي بأجمعها أخلاق رديئة, ومذمومة شرعاً, ولا خلاص من الغضب مع بقاء هذه الأسباب فلا بد من إزالة هذه الأسباب بأضدادها

وكل خلق من هذه الأخلاق, وصفة من هذه الصفات, يفتقر في علاجه إلى رياضة وتحمل مشقة, والمواظبة على مباشرة أضدادها مدة مديدة حتى تصير بالعادة مألوفة هينة على النفس, فإذا انمحت عن النفس فقد زكت وتطهرت عن هذه الرذائل, وتخلصت من الغضب الذي يتولد منها.

علاج الغضب بعد هيجانه:

يعالج الغضب بعد هيجانه بمعجون العلم والعمل, أما العلم فبأمور:

الأول: أن يتفكر في الأخبار في فضل كظم الغيظ, والحلم, والاحتمال, والعفو, فيرغب في ثوابه, فتمنعه شدة الحرص على ثواب الكظم عن التشفي, والانتقام, وينطفئ عنه غيظه.    

الثاني: أن يخوف نفسه بعقاب الله, وهو أن يقول: قدرة الله علي أعظم من قدرتي على هذا الإنسان, فلو أمضيت غضبي عليه, لم آمن أن يمضي الله غضبه عليّ يوم القيامة أحوج ما أكون إلى العفو.

الثالث: أن يحذر نفسه عاقبة العداوة والانتقام, وتشمر العدو لمقابلته, والسعي في هدم أغراضه, والشماتة بمصائبه, وهو لا يخلو من المصائب, فيخوف نفسه بعواقب الغضب في الدنيا إن كان لا يخاف من الآخرة.

الرابع: أن يتفكر في قبح صورته عند الغضب, بأن يتذكر صورة غيره عند الغضب.

الخامس: أن يتفكر في السبب الذي يدعوه إلى الانتقام, ويمنعه من كظم الغيظ, ولا بد أن يكون له سبب, مثل: قول الشيطان له: إن هذا يحمل منك على العجز, وصغر النفس, والذل, والمهانة, وتصير حقيراً في أعين الناس ! فيقول لنفسه: ما أعجبك !, تأنفين من الاحتمال الآن, ولا تأنفين من خزى يوم القيامة.

أما العمل: فأن تقول بلسانك: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم, فإن لم يزل بذلك فاجلس إن كنت قائماً, واضطجع إن كنت جالساً, واقرب من الأرض التي منها خلقت لتعرف بذلك ذل نفسك, واطلب بالجلوس والاضطجاع السكون, فإن سبب الغضب الحرارة, وسبب الحرارة الحركة.

فضيلة كظم الغيظ:

قال الله تعالى: ( والكاظمين الغيظ  ) [آل عمران: 134] وذكر ذلك في معرض المدح.

وقال لقمان لابنه: يا بني, لا تذهب ماء وجهك بالمسألة, ولا تشف غيظك بفضيحتك, واعرف قدرك تنفعك معيشتك.

 

بيان فضيلة الحلم:

اعلم أن الحلم أفضل من كظم الغيظ, لأن كظم الغيظ عبارة عن التحلم إلى تكلف الحلم, ولا يحتاج إلى كظم الغيظ إلا من هاج غيظه, ويحتاج فيه إلى مجاهدة شديدة, ولكن إذا تعود ذلك مدة, صار ذلك اعتياداً, فلا يهيج الغيظ, وإن هاج فلا يكون في كظمه تعب, وهو الحلم الطبيعي. وهو دلالة كمال العقل, واستيلائه وانكسار قوة الغضب وخضوعها للعقل.

وعن الحسن في قوله تعالى: ( وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً ) [الفرقان:63] قال: حلماء, إن جهل عليهم لم يجهلوا.

قال أبو هريرة: إن رجلاً قال: يا رسول, إن لي قرابة أصلهم ويقطعون, وأحسن إليهم ويسيئون, ويجهلون علي وأحلم عنهم. قال: ( إن كان كما تقول, فكأنما تسفهم المل, ولا يزال معك من الله ظهير ما دمت على ذلك.) وقال عليه الصلاة والسلام: ( إن فيك يا أشج خلقين يحبهما الله ورسوله, الحلم والأناة)

وقال عمر رضي الله عنه: تعلموا العلم, وتعلموا للعلم السكينة والحلم.

وقال علي رضي الله عنه: ليس الخير أن يكثر مالك وولدك, ولكن الخير أن يكثر علمك ويعظم حلمك. وقال: إن أول عوض الحليم من حلمه, أن الناس كلهم أعوانه على الجاهل. وقال معاوية رضي الله عنه: لا يبلغ العبد مبلغ الرأي حتى يغلب حلمه جهله. وقال أكثم بن صيفي: دعامة العقل الحلم, وجماع الأمر الصبر.

وقال أيوب: حلم ساعة يدع شراً كثيراً.

وقال الأحنف بن قيس: لست بحليم, ولكني أتحلم.

وقال بعض العلماء: إن الحلم أرفع من العقل, لأن الله تعالى تسمى به.

          كتبه / فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ

المقال السابق
آفات اللسان (3)
المقال التالي
ذم الحقد