العصرانية - (4) العصرانيون ومفاجأة الصحوة الإسلامية
تصور العصرانيون في العالم العربي والإسلامي أن دين الإسلام قد انحسر عن التأثير في الحياة، وأن أهله قد انكمشوا للأبد، وأنه في طريقه إلى النسيان الأبدي.
تصور العصرانيون في العالم العربي والإسلامي أن دين الإسلام قد انحسر عن التأثير في الحياة، وأن أهله قد انكمشوا للأبد، وأنه في طريقه إلى النسيان الأبدي.
وربما كان التسائل الوارد بينهم هو: هل لَفَطَ الدين أنفاسه الأخيرة، هل تطاير رماده بعد احتراقه، أو لا؟
تصوروا ذلك نتيجة حتمية لتلك العوامل المتظاهرة في نشر العصرانية المناوئة له، وغرسها في أرض المجتمع الإسلامي، ولِما قدَّموه من إغراءات ومشروعات نهضوية مستغربة، وما أغرقوا به المجتمع من مشكلات معقدة – إقتصادية، وإجتماعية وترفيهية –، وما شّنوه من حرب فكرية وعملية على الدين وعلمائه المتحمسين له.
ولكن الله خيب آمالهم.
فقد فاجأتهم الصحوة الإسلامية وهم يتلذذون بأحلامهم تَهُدَّ ما بنوه، وتسفه ما نصبوه من أصنام، وتقدم نفسها بديلاً أصيلاً لقيادة هذه الأمة بعدما انكشف زيف كل الشعارات والطروحات التي قدمها العصرانيون.
وكان وقع هذه الصحوة عليهم شديداً مذهلاً.
* فبعضهم أنكرها وأدعى أنها خيال لا حقيقة له، وأنها أحلام وهمية طرب إليها المتدينون من الواقع الذي يمقتونه[34].
* وآخرون اعترفوا بوجودها وبانتشارها السرطاني – كما يصفه بعضهم – ومن ثم ذهب هؤلاء يندبون حظهم، نادمين على أن الإسلام لم يستأصل كلياً من التربية العربية، حينما كان كل شيء بأيديهم.
* ويلوم أناس منهم أنفسهم، لأنهم عاشوا في خيال، نتيجة استلابهم لقوانين اجتماعية تلقوها من الغرب على أنها حتميات مطلقة، لا يندّ عنها شيء، ومن ثم طبقوها على مجتمعاتهم وانتظروا نتيجتها المحتومة – قبولاً من الأمة لعصرانيتهم واستدباراً للدين – فراعهم أنها انعكست إلى ضد ما كانوا يأملون.
يقول د.علي الكنز: "إن التحليل السوسيولوجي الذي جاء به عبدالله العروي وتبنيناه نحن ما هو في نهاية الأمر إلا مغالطة لا يمكن أن تشاهد في التاريخ"[35].
ويقصد الكنز هنا ما نقله العروي عن الفلسفة الماركسية من أن بروز الرجل التقني – رجل الصناعة – متناسب مع إختفاء رجل الدين.
كلما ازداد بروز الأول زاد اختفاء الثاني، حتى ينسحب الدين نهائياً من المجتمع إذا سادته الروح التقنية.
ويصور (برهان غليون) الصعقة التي أحدثتها الصحوة فيهم فأفسدت عليهم ثويماتهم المغرقة في الفناء في عصرانيتهم، فيقول بعد كلامه عن تيار التحديث الجارف ونضاله الشامل المستميت الذي انحسر أمامه التراث والشعور الديني وهيمنة علماء الدين – هذا التيار الذي يتمثل في نظم، وأحزاب، ومؤسسات إعلامية، وثقافية، واتجاهات فكرية – يقول بعد هذا: "وفجأة تغير الوضع والمشكلة – مشكلة – إقصاء الدين عن الحياة – التي بدت محسومة منذ أكثرمن نصف قرن برزت من جديد أقوى من أي حقبة أخرى حتى لقد تحولت في العديد من البلاد العربية إلى موضوع الجدال الأول في الحياة العامة الثقافية والسياسية"[36].
ثم ماذا؟
ما هو الموقف الذي أتخذته العمرانية تجاه هذه الصحوة؟
أغلب العصرانيين – على اختلاف مشاربهم – لا يرى خيراً للأمة من هذه الصحوة، بل يراها حجر عثرة في مسيرة النهوض العربي.
وسبب ذلك أن جيل الصحوة واضح المبدأ في حركته وهو الرجوع إلى الكتاب والسنة في معالجة المشكلات التي تطرحها علاقة الإنسان بالعالم والطبيعة، والفكر، والفن، والمجتمع، بحيث لا يجعل للثقافة العصرية الأوروبية أي دور معياري في معالجة تلك المشكلات[37].
أي أن سبب إخفاقها – لديهم – عدم عصرانيتها.
لكن هذه الصحوة فرضت نفسها على الواقع الإجتماعي، وامتدت فاعليتها إلى الجوانب الحيوية من هذا الواقع – الإعلام، التعليم، السياسة – ومن ثم كان لا بر للاتجاه العصراني من اتخاذ هوقف حركي من هذا التحدي الذي تمثله الصحوة.
إذا تركنا جانباً[38] الذين يرون ضرورة مواصلة إغراق المجتمع المسلم بالتحديث والعصرنة، وتجاهل هذه الصحوة، أو السخرية بها، والإغراء بسحقها، وتهويل عواقب فتح المجال لها بين الناس، وفي مجال الحكم.
إذا تركنا هذا الصنف جانباً، فإننا نجد أن الموقف التكتيكي للاتجاه العمراني إزاء الصحوة يتمثل في الانفتاح عليها، ومغازلتها، والاعتراف بها كواقع ينبغي أن يكون له دور في تشكيل المجتمع، وأن تسمع له الاتجاهات الأخرى، لكن ذلك كله عَرْضٌ تُغْري به الصحوة لا يمكن أن يمارس إلا في إطار تنازل من الصحوة عن رفضها المبدئي للحداثة والليبرالية الفكرية، وأسس المنهجية العصرانية.
وقد يقدم بعض هؤلاء نصائح وتوجهات لها كي يقبلوهـا، وتشارك من ثم بناء المجتمع.
يرى – مثلاً – الدكتور عابد الجابري وهو يتحدث عن المغرب العربي والحركة الإسلامية فيه: أن هذه الحركة لن تنجح في تأسيس وجودها وسط الجماهير كقوة محركة للتاريخ إلا إذا تبنت أهدافاً سياسية، واجتماعية تستجيب لمطلب الجماهير ومطامحها المادية والمعنوية معاً، وإذا فعلت ذلك فإنها ستتحول لا محالة إلى حركة سياسية، ويالتالي سيتوقف نجاحها على مدى تكييفها للدين مع السياسة[39].
وهذه الدعوة التي قد تبدو منصفة ومتهيئة لسماع الحق من أهله دعوة خبيثة – وإن أخلص بعض دعاتها – لأن ثمرتها وقوع الصحوة في فلك العصرانية، أي: أنهما تتحرك مشدودة بخيوط الفكر العصراني ومشكلاته النابتة – أصلاً – في حضارة غير – حضارتها. وهذه الدعوة هي ما تعرف بحالة الإستقطاب الفكري التي كثرت دعوة العصرانيين لأهل الصحوة إلى الوقوع في شركهـا من خلال مطالبتهم بتقديم مناهج ورؤى حول المشكلات التي يعاني منها العالم المعاصر، والتي لم تخرج في تصورهم عن التعلق بأحد الحلول التي سبق الغرب إلى تجربتها.
وقد يكون بعضهم طيب النية في دعوته، ولكن انغلاقه في دائرة الفكر المعاصر بتصوراته الوجودية، ونظرياته الإجتماعية بعيداً عن دينه يبعده عن تخيل أن الإسلام يمثل منظومة مذهبية متكاملة لها أساسها العقدي ونظمها الشاملة المترابطة وتطلعاتها المتميزة[40].
كذلك يرى العصرانيون في مواجهة الصحوة ضرورة تنويع البحث في عملية اختراق البنية الإسلامية.
فإن كان الإغراء بالثقافة الغربية المعاصرة، وتكريس قيمتها في المجتمع المسلم، وفرض نُظمها بالقوة لم يحقق هدفه المنشود، وهو: إنفصال المجتمع الإسلامي عن تراثه الذي يمثل جاذبية تشده عن الإندماج في خضارة العصر، فإنه ينبغي أن تستبدل به أو تشرك معه جهد آخر، وهو: النقد المركز للتراث حتى ينهدم الأساس الذي تركن إليه هذه الصحوة.
يرى بعض هؤلاء أن هذا النقد ينبغي ألا يكون سبباً مباشراً للتراث، لأن هذا قد يزيد من تشبث الناس به، وإنما يتم بإعلان إحترام التراث والدعوة للرجوع إليه، من خلال نقدٍ واعٍ له بعقليتنا المعاصرة، خاصة أسس هذا التراث المنهجية التي قام عليها.
هذا هو ما يركز بعض العصرانيين البارزين اليوم عليه:
مثل: محمد أركون صاحب الدعوة إلى الرجوع للقرآن الكريم لدراسته وفق المنهجية الألسنية.
وحسن حنفي الذي يسعى لبعث مبدأ تقديم العقل على النقل، والذي يرى أن الدواسة المعمقة للقرآن الكريم تبين أنه علماني المنحى، وإنما حوله المسلمون إلى وجهة دينية[41].
ومحمد عابد الجابري الذي يرى أنه لكي نؤمن بفاعلية المنهج العلمي الغربي لابد أن ننقد المناهج التي قام عليها التراث عند المسلمين، لنكشف قيمتها في دائرة المنهجية القائمة اليوم[42].
وهناك من اتجه إلى التراث ليتكئ عليه في ترويج عصرانيته، من خلال عملية انتقاء لبعض عناصره التي تقبلها منهجية الفكر المعاصرة أو من خلال بعض رموزه المنحرفة عن الإسلام، أو ذات الشذوذ في فكرها مثل: ما فعل د.زكي نجيب محمود في (تجديد الفكر العربي)، ود.حسن صعب في تحديث العقل العربي.
وهناك فضلاً عن هؤلاء آخرون كانت لهم مواقف تتسم باتزان وعدل، حيث ينادون بضرورة أن ينقد العصرانيون مناهجهم، وأن يعترفوا بأن ظهور الصحوة ناتج عن إخفاق[43] مشروعاتهم، وأن يتأملوا في الصحوة، ويعرفوا ما عندها على حقيقته، لا من خلال مناظير مستعارة، وقد أعرب بعضهم عن رغبته في التعرف على حقيقة فكر الصحوة ودعوتها من أهلها.
ولعل ما يلحظ من تحسن في كتابات بعضهم، أو تراجع عن بعض مقولاتهم السابقة نتيجة لمراجعة ذاتية سببها هذه الصحوة التي هزت السفينة التي ظنوها سكنت على الشاطىء الذي يهوون بعد أن أوثقوها بحبالهم عليه.
_______________________________________________________________
34 - محاضرات الموسم الثقاقي لمركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية لعام 406 – 1407هـ الطبعة الأولى 1411هـ طبع مركز الملك فيصل – الرياض.
35 - المسثشرقون – نجيب العقيقي – ط4 دار المعارف القاهرة.
36 - المسيحية – من سلسلة مقارنة الأديان – د.أحمد شلبي ط9/1995م مكتبة النهضة المصرية – القاهرة.
37 - المسيحية – نشأتها وتطورها – شارل جنيبر – ترجمة د.عبدالحليم محمود – المكتبة العصرية بيروت.
38 - معالم الثقافة الإسلامية – عبدالكريم عثمان – ط4/1394هـ مؤسسة الأنوار – الرياض.
39 - المغرب المعاصر – د.محمد عابد الجابري – ط1/1988م مؤسسة بنشرة – الدار البيضاء.
40 - مفهوم تجديد الدين – بسطامي سعيد – ط1 دار الدعوة – الكويت.
41 - الملك عبدالعزيز والتعليم – د.عبدالله أبو راس – وبدر الدين الديب ط1/1407هـ.
42 - مواقف من تاربخ الكنيسة – رولاند بينتون – ترجمة القس عبدالنور ميخائيل – ط2 دار الثقافة القاهرة.
43 - نقد العقل الوضعي – عاطف أحمد – ط1 دار الطليعة بيروت.
عبد الرحمن بن زيد الزنيدي
الأستاذ بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
- التصنيف: