بناء الأخلاق

منذ 2022-02-13

المقصودُ من العبادات والغاية منها هو تربية الأخْلاق في النفْسِ وتنْميتها؛ لكي تَحْسُنَ المعامَلات والعقود التي تجري مع الناس تبعًا لسنَّة الحياة وناموس الطبيعة الإنسانيَّة الاجتماعيَّة.

إنَّ الأخْلاقَ التي تنمِّيها العباداتُ في النفْس ليس المقصود منها أن تكونَ أخلاقًا أنانيَّة ذاتيَّة للشخص نفْسِه فحسب، ولكنَّ المقصودَ منها أن تكونَ أخلاقًا اجتماعيَّة يتعامل بها مع الناس؛ لهذا كانَ المقصودُ من العبادات والغاية منها هو تربية الأخْلاق في النفْسِ وتنْميتها؛ لكي تَحْسُنَ المعامَلات والعقود التي تجري مع الناس تبعًا لسنَّة الحياة وناموس الطبيعة الإنسانيَّة الاجتماعيَّة.

 

فالأخلاقُ الاجتماعيَّة التي تنمِّيها الصلاة في النفْسِ كثيرة؛ منها: المساواة والشكر، والخوف والمراقبة المستمرة، والمواظَبة على العمل، فالمساواة في الصلاة بين الناس مَهْمَا اختلفتْ أجناسُهم وتباينتْ منازلُهم، وتنوَّعتْ ألوانُهم - فالجميع يقفُ أمامَ الله في صفٍّ واحدٍ، تنتفي فيه فوارقُ الثراءِ وتمايز الدمِ، وتذوبُ الألوانُ، فيشعر الفردُ بأنَّه من الجماعة، وتتوثَّق الروابط الأخَويَّة التي تُعين على التعاوُن في مجالات الحياة المختلفة، وفي مجال المعاملات الاقتصاديَّة التي هي في أشدِّ الحاجة إليها، وهي الشعورُ بالمساواة والإخاء، والصلاة في ذاتها إنَّما هي عملٌ خالصٌ في الشكر والثناء لله - سبحانه - وبالمتابعة في الصلاة والمواظَبة عليها تنمو في النفْسِ غريزة الشكر التي سيكون لها دورٌ كبيرٌ في العقود والمعامَلات، فتقوم المعاملات على أساسٍ من الاحْترام؛ مما يكون له أثرٌ كبير في مجال الاقتصاد الإسلامي.

 

والصلاة تُنمِّي في نفْس المسلم غريزة الخوف من الله - عز وجل - دائمًا، وما أحوج العقود والمعاملات بيننا إلى غريزةِ الخوف والمراقبة لله - عز وجل - فتنْأَى النفسُ عن السرقة والغصب، والغش والاخْتلاس، والغبن والغَرر.

 

جاء في كتاب "القرآن معجزة العصور": تنمِّي الصلاةُ في النفْس غريزةَ المواظبة عليها خَمْسَ مرَّات في اليوم والليلة، وما أحوج المعاملات والعمل إلى المواظبة والاستمرار؛ فبهما يتضاعفُ الدَّخْلُ ويتزايد الإنتاجُ وينمو الاقتصادُ.

 

هذه الغرائزُ كلُّها تربِّي في نفْس المؤْمن وضميره المراقبةَ لله في السرور والعَلن، فتستقيم على الجادة، وتتجنَّب الفواحشَ، وتأْمُر بالمعروف وتَنْهى عن المنكر؛ قال - تعالى -: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45].

 

أمَّا الأخْلاقُ الاجتماعيَّة التي تنمِّيها الزكاة، فهي عديدة؛ منها: تطهير الغَنِي من الشُّحِّ والبُخْلِ والحِرْص المدمِّر، فإذا تجردتِ النفْسُ عن هذه الرذائل أَلِفَتِ السماحة في البذْل والمعاملة، ورسول الهدى - عليه الصلاة والسلام - يقول: «رَحِمَ الله رجلاً سَمْحًا إذا باعَ وإذا اشْتَرى وإذا اقْتَضَى»؛ كما في صحيح البخاري.

 

فالزكاة تطهيرٌ للغَني من الشُّحِّ والبُخْل؛ يقول - سبحانه -: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103].

ولذلك وصفَ الله - سبحانه - النفسَ السمحة التي تغلَّبتْ على شُحِّها بالفلاح والفوز؛ يقول - عز وجل -: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9].

كما تطهِّرِ الزكاةُ الفقيرَ من الحِقْد والحسد والبغضاء، وتطبعُ نفسَه على المحبَّة والسماحة، والأخلاق الاقتصاديَّة التي تنمّيها الزكاةُ كثيرة؛ منها: الحثُّ على الاستثمار والاستهلاك، وكلاهما ضروريّ في مجال العقود والمعاملات، فتحصيلُ الزكاةِ من الأغنياء يدفعُهم إلى استثمار أموالِهم وإلا تآكلتْ من الزكاة.

 

وكذلك تحثُّ الزكاةُ على الاستهلاك، فالذين يَحْصُلون على الزكاة يستهلكونها في قضاءِ حوائجهم؛ مما يؤدِّي إلى زيادةِ الاستهلاك، وهذا يؤدِّي بدورِه لزيادة الاسْتثمار، وسداد ديون الغارمين من الزكاة يشجِّعُ الأغنياءَ والفقراء على القرْض والاقْتِراض لضمان السداد من سهْم الغارمين إذا عجزَ الفقيرُ عن أداءِ الدَّيْن، وهذا بدوره يؤدِّي إلى الاسْتثمار.

كذا فالزكاةُ تحثُّ على العمل وتشغيلِ رؤوس الأموال والعاطلين، فحينما يقضي الفقيرُ حاجاته يؤدِّي إلى كثرة الاستثمار والاستهلاك؛ مما يؤدي إلى الحثِّ على العمل وتشغيل العاطلين.

أما الأخلاقُ الاجتماعيَّة التي تنمِّيها فريضةُ الصوم: فهي الصبرُ وقوة العزيمة، وأسْمَى أنواع الأمانات، وكلُّها من مبادئ الأخْلاقِ في العقود والمعاملات، فالصبر يغرسُ في النفْس احتمالَ الجوع والعطش وهما من ضروريَّات حياتها وبقائها، والصبر على الضروريَّات من أشدِّ ما تكابِدُه النفْسُ وتُعانيه، وبهذا يكون الصبرُ عليها أقوى وأشدَّ.

 

والصبرُ الذي يغرسُه الصومُ له دورٌ فعَّال في مجال العقود والمعاملات، فهو سلاحٌ قويٌّ يقاومُ الشططَ في الأسواق، ويحاربُ شهوات النفْس في حُبِّها للمال وجمعِه بشتَّى الوسائل، ويوزن التصرُّفات الماليَّة على أساسٍ من الحِكْمة والاتِّزان، ووضْع الأمورِ في نصابها الصحيح، وإذا كان أحدُ المتعاقدين صابرًا يضبط نفسَه، فإنَّ النجاحَ والتوفيق يكونان حَليفَي المتعاقدين في العقود والتصرُّفات والمعامَلات.

 

وكذلك الصومُ يربِّي في النفسِ أسْمى أنواع الأمانات، وما أحوجنا في العقود والمعاملات إلى هذا النوعِ السامي من الأمانةِ التي يغرسُها الصيامُ في النفس، بحيث يتعامل الناسُ فيما بينهم ابتغاءَ مرضاة الله - عز وجل - وتحت مُراقبته، فلا تَظَالُم ولا أكْل لأموالِ الناس بالباطلِ ولا هَوى، ولا رِيَاء ولا مظاهر كاذبة.

 

وعن طريق مشاعرِ الحجِّ تُنَمَّى الأخلاقُ الاجتماعيَّة بما يغرسُه الحجُّ في النفسِ من مبادئ سامية، أهمها التكافلُ الاقتصاديُّ بين شعوب الأمة الإسلاميَّة، فتتَّحد كلمةُ المسلمين على الوقوف بجانب البلاد الفقيرة؛ لتغطِّي حاجاتها وتتعاون في سبيلِ النهوض بتلك البلاد جميع البلاد الإسلاميَّة.

ولا عجبَ؛ ففي الحجِّ منافعُ رُوحيَّة وماديَّة واجتماعيَّة واقتصاديَّة، دُنيويَّة وأُخرويَّة، لا تقتصرُ على الأفراد أو الجماعات، بل تمتدُّ لتشملَ البشريَّة.

 

لقد نظَّمتِ الشريعة الإسلاميَّة الفقهَ في المعاملات والعقود، فوضعت له منْهجًا عامًّا يسلكه الأفرادُ في معاملاتهم المختلفة لبناء أخلاقِهم؛ من خلال قضاء حاجاتهم وتحقيق أغراضِهم، وهذا المنهج الإسلامي في بناء الأخلاقِ اقتضَى أن يكونَ الأساسُ في عقود المعاملات هو مصالح المجتمع ومقاصدُ الأفْرادِ.

 

فلا عجبَ أن يكونَ من أخلاق الإسلام غَرْسُ التعاونِ والإخاء، والمحبَّة والتكافل، والرحمة والعَدْل، وما يؤدي إلى إزالةِ الفوارق الشاسعة بين الأفْراد، فلا إسْراف ولا تَرَف ولا تَبْذير، بحيث يبلغُ الغنيُّ حدَّ النعيم والرخاء المنْهِيِّ عنه، وينزل بالفقير الجوع والمسغبة؛ فما جاعَ فقيرٌ إلا بما بَخِلَ به أو مَنَعَ غَنِي، وكلُّ سَرفٍ، بإزائه حقٌّ مُضيَّع.

 

والله - تعالى جلَّ شأنُه - أكّدَ على القوام العدْلِ بقوله: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67]، وقال - سبحانه - محذِّرًا من التبذير: {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء: 26 - 27]، وقال - سبحانه - في شأنِ الترفِ هادمِ المجتمعات: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16].

 

بهذا المنهج القويم في بناءِ الإنسان المسلم جاءتْ سائرُ التعاليم والتوجيهات في مجال المعاملات والعقود؛ ذلك لأنَّ المعاملات والعقودَ عبادة، وحُقَّ لنا أن نقولَ: إن الاقتصادَ الإسلاميَّ هو المخْرِجُ للبشريَّة من أزماتها ومشكلاتها ونَكَبَاتها.

______________________________________________________
الكاتب: د. زيد بن محمد الرماني