فوائد من رسالة: فضل علم السلف على علم الخلف لابن رجب

منذ 2022-03-03

وخرج النسائي من حديث جابر, أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: «اللهم إني أسألك علماً نافعاً, وأعوذ بك من علم لا ينفع»


الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين...أما بعد: فمن مصنفات الحافظ ابن رجب رحمه الله, رسالته " فضل علم السلف على علم الخلف " وقد حوت الكثير من الفوائد, وقد يسر الله الكريم لي فاخترت بعضاً منها, أسأل الله أن ينفعني والقرّاء بها.

سؤال الله العلم النافع:

جاءت السنة بتقسيم العلم إلى نافع وإلى غير نافع, والاستعاذة من العلم الذي لا ينفع, وسؤال العلم النافع. ففي صحيح مسلم عن زيد بن أرقم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: « اللهم إني أعوذُ بك من علم لا ينفع, ومن قلب لا يخشع, ومن نفس لا تشبع, ومن دعوة لا يستجاب لها »

وخرج النسائي من حديث جابر, أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: «اللهم إني أسألك علماً نافعاً, وأعوذ بك من علم لا ينفع» 

التوسع في بعض العلوم:

التوسع في علم الأنساب هو مما لا يحتاج إليه, وقد سبق عن عمر, وغيره, النهي عنه, مع أن طائفة من الصحابة والتابعين كانوا يعرفونه ويعتنون به.

وكذلك التوسع في علم العربية لغة ونحواً هو مما يشغل عن العلم الأهم, والوقوف معه يحرم علماً نافعاً. وكره أحمد التوسع في معرفة الله وغريبها, وأنكر على أبي عبيد توسعه في ذلك, وقال: هو يشغل عما هو أهم منه.

ولهذا يقال: إن العربية في الكلام كالملح في الطعام, يعني: أنه يؤخذ منها ما يصلح الكلام, كما يؤخذ من الملح ما يصلح الطعام, وما زاد على ذلك فإنه يفسده.  

العلوم المحدثة:

وما أُحدث بعد الصحابة من العلوم الجديدة على الشرع التي توسع فيها أهلها, وسموها علوماً, وظنوا أن من لم يكن بها عالماً بها فهو جاهل أو ضال, فكلها بدعة, وهي من محدثات الأمور المنهي عنها.

فمن ذلك ما أحدثته المعتزلة من الكلام في القدر,...ومن الكلام في ذات لله تعالى وصفاته بأدلة العقول, وهو أشد خطراً من الكلام في القدر, لأن الكلام في القدر كلام في أفعاله تعالى, وهذا كلام في ذاته وصفاته تعالى.

ومن ذلك_ أعني محدثات العلوم_ ما أحدثه فقهاء أهل الرأي من ضوابط وقواعد عقلية, وردّ فروع الفقه إليها, وسواء أخالفت السنن أم وافقتها, طرداً لتلك القواعد المقررة.

ذم الخصام والجدال والمراء:

ومما أنكره أئمة السلف: الجدال والخصام والمراء في مسائل الحلال والحرام أيضاً, ولم يكن ذلك طريقة أئمة الإسلام, وإنما أُحدث ذلك بعدهم.

قال بعض السلف: إذا أراد الله بعبد خيراً, فتح له باب العمل, وأغلق عنه باب الجدل, وإذا أراد الله بعبده شراً, أغلق عنه باب العمل, وفتح له باب الجدل.

قال مالك: المراء والجدال في العلم يُذهب بنور العلم.

وقال: المراء في العلم يُقسي القلب ويورث الضغن

فما سكت من سكت_ عن كثرة الخصام والجدال من سلف الأمة_ جهلاً ولا عجزاً, ولكن سكتوا عن علم وخشية لله. وما تكلم من تكلم وتوسع من توسع بعدهم لاختصاصه بعلم دونهم. ولكن حباً للكلام وقلة ورع.

وقد فتن كثير من المتأخرين بهذا, فظنوا أن من كثُر كلامه وجداله وخصامه في مسائل الدين, فهو أعلم ممن ليس كذلك, وهذا جهل محض.

وأنظر إلى أكابر الصحابة وعلمائهم كأبي بكر وعمر وعلي ومعاذ وابن مسعود وزيد بن ثابت كيف كانوا؟ كلامهم أقل من كلام ابن عباس, وهم أعلم منه.  

وكذلك كلام التابعين أكثر من كلام الصحابة, والصحابة أعلم منهم.

وكذلك تابعو التابعين كلامهم أكثر من كلام التابعين, والتابعون أعلم منهم.

فليس العلم بكثرة الرواية, ولا بكثرة المقال, ولكنه نور يقذف في القلب يفهم به العبدُ الحقَّ, ويميز به بينه وبين الباطل, ويعبر عن ذلك بعبارات وجيزة محصلة للمقاصد.  

أفضل العلوم ما كان مأثوراً عن الصحابة والتابعين:

فأفضل العلوم في تفسير القرآن, ومعاني الحديث, والكلام في الحلال والحرام: ما كان مأثوراً عن الصحابة والتابعين وتابعيهم إلى أن ينتهي إلى زمن أئمة الإسلام المشهورين المقتدى بهم.

وما حدث بعدهم من التوسع لا خير في كثير منه, إلا أن يكون شرحاً يتعلق بكلامهم, وأما ما كان مخالفاً لكلامهم فأكثره باطل, أو لا منفعة فيه, وفي كلامهم في ذلك كفاية وزيادة, فلا يوجد في كلام من بعدهم من حق, إلا وهو في كلامهم موجود بأوجز لفظ وأخصر عبارة.

ولا يوجد في كلام من بعدهم من باطل إلا في كلامهم ما يبين بطلانه, لمن فهمه وتأمله.

ويوجد في كلامهم من المعاني البديعة, والمآخذ الدقيقة ما لا يهتدي إليه من بعدهم ولا يُلم به.

فمن لم يأخذ العلم من كلامهم, فاته ذلك الخير كله, مع ما يقع في كثير من الباطل متابعة لمن تأخر عنهم.

العلم النافع ما أثمر خشية الله ومحبته وإجلاله:

العلم ثمرته: خشية الله كما قال عز وجل: {إنَّمَا يَخْشَى اللَّـهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } [فاطر:28] قال ابن مسعود وغيره: كفى بخشية الله علماً, وكفى بالاغترار بالله جهلاً.وقال بعض السلف: ليس العلم بكثرة الرواية, ولكن العلم الخشية. وكلامهم في هذا المعنى كثير جداً. وسبب ذلك النافع يدل على أمرين:

أحدهما: على معرفة الله وما يستحقه من الأسماء الحسنى والصفات العلى والأفعال الباهرة. وذلك يستلزم إجلاله وإعظامه وخشيته ومهابته ومحبته ورجاءه والتوكل عليه والرضا بقضائه والصبر على بلائه.

والأمر الثاني: المعرفة بما يحبه ويرضاه, وما يكرهه ويُسخطه من الاعتقادات والأعمال الظاهرة والباطنة والأقوال.

فإذا أثمر العلم لصاحبه هذا فهو علم نافع.

علامة العلم النافع:

من علامات العلم النافع: أنه يدل صاحبه على الهرب من الدنيا, وأعظمها الرياسة والشهرة, والمدح, فالتباعد عن ذلك والاجتهاد في مجانبته من علامات العلم النافع. فإذا وقع شيء من ذلك من غير قصد واختيار كان صاحبه في خوف شديد من عاقبته, بحيث يخشى أن يكون مكراً واستدراجاً, كما كان الإمام أحمد يخاف ذلك على نفسه عند اشتهار اسمه وبعد صيته.

ومن علامات العلم النافع: أن صاحبه لا يدعي العلم ولا يفخر به على أحد, ولا ينسب غيره إلى الجهل, إلا من خالف السنة وأهلها, فإنه يتكلم فيه غضباً لله, لا غضباً لنفسه, ولا قصداً لرفعتها على أحد.

وأهل العلم النافع...يسيئون الظن بأنفسهم ويُحسنون الظن بمن سلف من العلماء, ويُقرُّون بقلوبهم وأنفسهم بفضل من سلف عليهم, وبعجزهم عن بلوغ مراتبهم والوصول إليها أو مقاربتها

علامة العلم الذي لا ينفع:

وعلامة هذا العلم الذي لا ينفع أن يُكسب صاحبه الزهو والفخر والخيلاء, وطلب العلو والرفعة في الدنيا والمنافسة فيها, وطلب مباهاة العلماء ومماراة السفهاء وصرف وجوه الناس إليه. وهذا بخلاف ما كان عليه السلف من احتقار نفوسهم, وازدرائها باطناً وظاهراً.

ومن علامات ذلك: عدم قبول الحق والانقياد إليه, والتكبر على من يقول الحق.

ومن علمه غير نافع فليس له شغل سوى التكبر بعلمه على الناس, وإظهار فضل علمه عليهم, ونسبتهم إلى الجهل, وتنقصهم ليرتفع بذلك عليهم. وهذا من أقبح الخصال وأردئها. 

فنسأل الله تعالى علماً نافعاً, ونعوذ به من علم لا ينفع, ومن قلب لا يخشع, ومن نفس لا تشبع, ومن دعاء لا يسمع. اللهم إنا نعوذ بك من هؤلاء الأربع.

       كتبه / فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ