وماذا بعد رمضان؟

منذ 2022-05-05

مع نهاية شهر رمضان عزَلَ نفسَه، وبَعُدَ عن صُحْبة الأخيار، وسمح لجسده بالتوقُّف عن العمل، وفتح باب قلبه لعدوِّ الإنسان، سمح لشيطانه أن يغويَه ويُبْعِدَه عن طريق الصلاح والهداية والقُرْب من الله

 

نظلُّ ثلاثين يومًا نعمل بجدٍّ، نتسابَقُ إلى الله عز وجل بالطاعات، فها هي الفرائض والسُّنَن في أوقاتها، نتحمَّل الجوع والعطش؛ ليشعُرَ جسدُنا بمعاناة غيرنا، فنُخرِج الزكاةَ والصَّدَقةَ، ونقوم الليل للمناجاة والدُّعاء، وطَلَبِ الرحمة والمغفرة والعفو، والعِتْق من النار، وكثيرٌ منَّا يستطيع أن يُعدِّد من ختماته للقرآن خلال هذا الشهر الفضيل، نمنع أنفسنا كذلك عن الكثير من الذنوب والمعاصي، ونبتعد عن كلِّ ما حرَّم الله علينا، نروِّض أنفُسَنا في ثلاثين يومًا، فتكون وكأنها في مضمار سِباقٍ عظيمٍ، تُريد الفَوْزَ بكُلِّ شيءٍ، واغتنام الليلة تلوَ الأخرى؛ فهي أيامٌ معدوداتٌ، كلٌّ منَّا يُريد أن يتسابَقَ في اغتنامها والفَوْز بها.

وبهذا يخرج الإنسان من هذا الشهر بقَلْبٍ نقيٍّ جديدٍ، فلقد طهَّرَ جسده بالكامل خلال ثلاثين يومًا، في كل يوم يُعلِي من هِمَّتِه، ويتسابق لإرضاء الله عز وجل، يُريد أن يخرج بعبادات ثابتة، يُريد أن تكون نفسُه وقَلْبُه كما كانا في نهار وليل رمضان؛ ولكن ما يحدُث مع بداية أيام جديدة في شهر شوال أن النفس تبدأ في التراخي والتباطُؤ عن العبادات، ويشعُر بِثِقَلِ جسده يزداد يومًا بعد يوم، ويأتي الفَرْضُ على الفرض بغير إدراك منه، يسمع صوت الأذان، ولا يعرف كيف يُلبِّي نداء الرحمن؛ بل الأكثر من هذا أن مَنْ كان يذهب إلى المسجد، ويعتكف به، أصبح لا يُرى فيه إلا ما بين الحين والحين، وأصبح هاجرًا للقرآن، وهو بالأمس القريب كان يبكي مع كل آية من آيات العذاب والوعيد، بالأمس كان يبتسم من شِدَّة فرحه بآيات الفوز، وما أعدَّه اللهُ له من نعيمٍ دائمٍ، أصبح لديه فتورٌ شديدٌ في عباداته، أصبح كالآلة التي تعمل ولا رُوحَ فيها، تكتفي نفسُه بأقلِّ القليل من الأعمال؛ فهِمَّتُه ليست كما كانت، ونفسُه أصبحت متراخيةً، ويظلُّ يبكي ويتساءل: كيف أصبحتُ هكذا، وأنا بالأمس القريب كنت أتذوَّق حلاوة الإيمان، وأتلذَّذ بنعمة القُرْب من الله؟! ويظلُّ يتساءل: مَنْ يكون؟ وماذا عليه أن يفعَل؛ ليعود كما كان في سابق عهده مع الله؟!

فنفسُه تشتاق للبكاء والقيام بين يدي ربِّه، يُريد الذَّهاب إلى المسجد؛ ولكنَّ جسدَه مُكبَّلٌ بسلاسل الكَسَل، يشتاق سَمْعُه وبَصَرُه إلى تلاوة القرآن، يظلُّ يبكي ويبكي على حال قلبه، فيبدأ في التذكُّر.

إنه مع نهاية شهر رمضان عزَلَ نفسَه، وبَعُدَ عن صُحْبة الأخيار، وسمح لجسده بالتوقُّف عن العمل، وفتح باب قلبه لعدوِّ الإنسان، سمح لشيطانه أن يغويَه ويُبْعِدَه عن طريق الصلاح والهداية والقُرْب من الله، تهاوى بجسده في بئر مُظْلِم لا يستطيع الحراكَ، كما أنه رجع إلى كل ما كان يفعل من ذنوب ومُحرَّمات.

نعم سيمضي رمضان، فإما أن تكون نفسُك ثابتةً، وإما أن تكون فريسةً سهلةً لمكايد الشيطان، وهنا أتساءل: أليس ربُّ رمضانَ ربَّ باقي الشهور، أنَعْبُدُه في ثلاثين يومًا، ونبتعد عنه ما تبقَّى من الأيام والشهور؟! والله إني لأتعجَّبُ ممَّن ذاقَ لذَّة القُرْب من الله، كيف له أن يبتعد عنه ولو لثوانٍ؟! كيف له بعد هذه اللذَّة أن يكون من الغافلين؟! كيف يكون في نعيم وراحة، ويذهب بنفسه طَوْعًا إلى البُعْد وكثرة المعاصي؟! كيف لمنِ ارْتَوى بحُبِّ الله والقُرْب منه أن يبتعد هكذا؟! كيف لمن أضاء ظُلْمةَ قلبه، وشدَّ من عزيمته، أن يكون هاجرًا لحُبِّ الله؟

اثْبُتُوا عبادَ الله، فلا نعلم متى نرحل، أتريد أن ترحل بكتابك وهو يفيض من كثرة حسناتك؟! أم تريد أن ترحل وكتابك خالٍ، ونفسُك ترتعد خوفًا؟! ولتجعل نفسَك دائمًا في طاعةٍ وتقرُّبٍ من الله سبحانه وتعالى، جاهِدْ نفسَك، واشحنْ قلبَك بحُبِّ الله، تَكُنْ من الفائزين، فنحن في دار عملٍ واجتهاد، فإما أن تكون من الفائزين؛ فتَنعَمَ بما أعدَّه الله لك، أو تكون من الخاسرين فتأتيَ يوم لا ينفَع الندم، تأتي ذليلًا نادمًا على ما فرَّطْتَ في حقِّ الله وحقِّ نفسك، فأنت فقط مَنْ سيُحدِّد مصيرَك، أنت فقط مَنْ سيُحاسَب، فكلُّ عملٍ كان سببًا في ابتعادك عن ربِّك، سيتبرَّأ منك، وستمضي يومَ حسابِكَ وحدَكَ، ولن ينفعَك بكاؤك أو حسرتُكَ على ما فَرَّطْتَ في حقِّ الله وحقِّ نفسك؛ إذًا رمضان هو فرصتك الحقيقية؛ لتنجوَ وتتداركَ ركْبَ الصالحين، اخرُجْ من رمضانَ بعبادات ثابتة تُعينك على نفسِك وقت الفتور والكسل، حدِّث نفسَك وقلبَك، وقُلْ: والله لن أُضيِّعَكم أبدًا.

ليَكُنْ رمضانُ هو انطلاقة حياتك نحو تغيير نفسك وسعادتها، لا شقائها؛ فمَن كان مع الله كان الله معه.

فاطمة الأمير

كاتبة أسعى للتغيير و الإصلاح، وهدفي الدعوة إلى الله، لدي بفضل الله العديد من المقالات وبعض الكتب منها: رمضان بداية حياة، هل يستويان؟!، حتى لا تغتال البراءة.