الصانع المتقن ..
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن خير ما أكل المرء من عمل يده وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده»
قبل أيام كان حديثنا عن أن الله تبارك وتعالى يسر على الناس أسباب المعاش وفتح لهم أبواب الكسب الحلال وانتظم حدثنا وقتها عن التجارة وعن ذلكم التاجر الأمين الذ ي يحشره الله تعالى يوم القيامة بصحبة النبيين والشهداء والصالحين ..
أما يومنا هذا فالحديث عن باب آخر من أبواب كسب المعاش وهو أن يكون للإنسان صنعة أن تكون له حرفة يتقنها ويتميز فيها يتكسب من ورائها وينفع بها نفسه وينفع الناس ...
وعند أبي يعلى من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه»
قال الله تعالى في شأن الجبال الشم الرواسي {وَتَرَى ٱلْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ ٱلسَّحَابِ ۚ صُنْعَ ٱللَّهِ ٱلَّذِىٓ أَتْقَنَ كُلَّ شَىْءٍ ۚ إِنَّهُۥ خَبِيرٌۢ بِمَا تَفْعَلُونَ}
وقال عز من قائل في شأن نوح { وَٱصْنَعِ ٱلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَٰطِبْنِى فِى ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓا۟ ۚ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ }
وقال سبحانه وتعالى في شأن داود عليه السلام {وَعَلَّمْنَٰهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّنۢ بَأْسِكُمْ ۖ فَهَلْ أَنتُمْ شَٰكِرُونَ}
الشاهد أيها الكرام : أن من أسباب المعاش التي يسرها الله تعالى للناس أن علمهم الصنعة وألهمهم كيف تكون فكان منهم النساج ومنهم الخواص ومنهم البناء ومنهم الحداد ومنهم النجار ومنهم الحجام ومنهم الجراح ومنهم الجبار ومنهم الحمال ومنهم الخياط ...
صنائع ومهن وحرف ألهمها الله تعالى للناس وعلمها لهم ..
ذلك ليصنع الإنسان بيديه ثوبا يستره ويواري سوءته ، ذلك ليصنع الإنسان من بنات فكره بيتا يأوي إليه ، ومستراحا يستريح فيه.. قلت وهذا من تكريم الله تعالى لابن آدم ومن تمام نعمته عليه ..
وبيان ذلك في سورة النحل وتحديداً في قول الله تعالى :
{ وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنۢ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ ٱلْأَنْعَٰمِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ ۙ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ أَثَٰثًا وَمَتَٰعًا إِلَىٰ حِينٍ ، وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلَٰلًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ ٱلْجِبَالِ أَكْنَٰنًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَٰبِيلَ تَقِيكُمُ ٱلْحَرَّ وَسَرَٰبِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ ۚ كَذَٰلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُۥ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ}
من أسباب المعاش التي يسرها الله تعالى للناس أن علمهم الصنعة
ليصنع الإنسان آلة تسهم في راحته وسعادته آله توفر الجهد والمال وتختصر الوقت وتقرب البعيد وربما تكون سبب نجاته من المهالك والأهوال يوما ما قال الله تعالى {وَيَصْنَعُ ٱلْفُلْكَ }
هنا الحديث عن السفينة ذات الألواح والدسر التي صنعها نوح عليه السلام بيديه ولم تنزل له من السماء ..
{وَيَصْنَعُ ٱلْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِّن قَوْمِهِۦ سَخِرُوا۟ مِنْهُ ۚ قَالَ إِن تَسْخَرُوا۟ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ ، فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ، حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ قُلْنَا ٱحْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ ٱلْقَوْلُ وَمَنْ ءَامَنَ ۚ وَمَآ ءَامَنَ مَعَهُۥٓ إِلَّا قَلِيلٌ ، وَقَالَ ٱرْكَبُوا۟ فِيهَا بِسْمِ ٱللَّهِ مَجْر۪ىٰهَا وَمُرْسَىٰهَآ ۚ إِنَّ رَبِّى لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ، وَهِىَ تَجْرِى بِهِمْ فِى مَوْجٍ كَٱلْجِبَالِ وَنَادَىٰ نُوحٌ ٱبْنَهُۥ وَكَانَ فِى مَعْزِلٍ يَٰبُنَىَّ ٱرْكَب مَّعَنَا وَلَا تَكُن مَّعَ ٱلْكَٰفِرِينَ ، قَالَ سَـَٔاوِىٓ إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِى مِنَ ٱلْمَآءِ ۚ قَالَ لَا عَاصِمَ ٱلْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ ۚ وَحَالَ بَيْنَهُمَا ٱلْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ ٱلْمُغْرَقِينَ }
من أسباب المعاش التي يسرها الله تعالى للناس أن علمهم الصنعة ليصنع الإنسان آلة تحمية من شرار الخلق في السلم تكون ردعا للعدو وفي وقت الحرب تكون حماية ووقاية من غشم العدو {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا دَاوُۥدَ مِنَّا فَضْلًا ۖ يَٰجِبَالُ أَوِّبِى مَعَهُۥ وَٱلطَّيْرَ ۖ وَأَلَنَّا لَهُ ٱلْحَدِيدَ ، أَنِ ٱعْمَلْ سَٰبِغَٰتٍ وَقَدِّرْ فِى ٱلسَّرْدِ ۖ وَٱعْمَلُوا۟ صَٰلِحًا ۖ إِنِّى بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}
هنا الحديث عن دروع الحرب وعن السيوف والحراب .. صنعة أوحى الله بها وألهمها وعلمها الله تعالى لداود عليه السلام
فأتقنها وبرع فيها وتميز بها فتكسب منها وأكل وشرب وتتصدق ولنا منه القدوة والأسوة عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم السلام .. أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوسع أرزاقنا وأن يرزقنا الخير كله عاجله وآجله ...
الخطبة الثانية
بقي لنا في ختام الحديث عن الصناعة كباب من أبواب الرزق وسبب من أسباب المعاش أن نقول :
يوم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل برجل يأكل من عمل يده ضرب المثل بداود عليه السلام ..
لماذا داوود ؟!
لأن داود كان نبياً ولأن داود كان ملكاً من ملوك بني إسرائيل فكيف ينفخ النار وكيف يضع السندان ويرفع المطرقة ويدق الحديد ..
هو اختار ذلك .. اختار أن يأكل من عمل يده حتى تتم فضائله عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم السلام ..
قال ابن عباس : صار الحديد بين يدي داود كالشمع . وقال الحسن : كالعجين ، فكان يعمله من غير نار . .
وقال السدي : كان الحديد في يد داود عليه السلام كالطين المبلول والعجين والشمع ، يصرفه ويمدده ويشكله كيف شاء ، من غير إدخال نار ولا ضرب بمطرقة .
وقاله مقاتل . وكان عليه السلام يفرغ من صنع الدرع في بعض اليوم أو بعض الليل ، ثم يبيعها بألف درهم .
وقيل : أعطي داود عليه السلام قوة يثني بها الحديد ..
ورد أن السبب وراء عمل داود بالحدادة وهو ملك من ملوك بني إسرائيل ونبي من أنبيائهم ، أن داود عليه السلام ، لما أوتي الملك على بني إسرائيل لقي ملكا من الملائكة وداود يظنه إنسانا ..
وداود يومها قد خرج متنكرا يسأل عن نفسه وسيرته في بني إسرائيل في خفاء ..
فلقي ملكا من الملائكة في صورة بشر وهو لا يعرف أنه ملك من الملائكة..
فقال داود لذلك الشخص الذي تمثل له : ( ما قولك في هذا الملك داود ) ؟
فقال له الملك ( نعم العبد داود لولا صفة فيه ) قال داود : ( وما هي ) ؟
قال : ( يرتزق من بيت المال ولو أكل من عمل يده لتمت فضائله ) .
فرجع إلى محرابه فدعا ربه أن يعلمه صنعة وأن يسهلها عليه ، فعلمه الله صنعة لبوس ..
فصنع الدروع ، فكان يصنع الدرع فيما بين يومه وليلته يساوي ألف درهم ، حتى ادخر منها مالاً كثيرا وتوسعت معيشته ، وتصدق على الفقراء والمساكين ، وكان ينفق ثلث المال في مصالح المسلمين ..
{وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا دَاوُۥدَ مِنَّا فَضْلًا ۖ يَٰجِبَالُ أَوِّبِى مَعَهُۥ وَٱلطَّيْرَ ۖ وَأَلَنَّا لَهُ ٱلْحَدِيدَ ، أَنِ ٱعْمَلْ سَٰبِغَٰتٍ وَقَدِّرْ فِى ٱلسَّرْدِ ۖ وَٱعْمَلُوا۟ صَٰلِحًا ۖ إِنِّى بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}
هذه الآية دليل واضح العنوان على أن تعلم أهل الفضل الصنائع ، لا ينتقص منهم ، بل ذلك زيادة في فضلهم وفضائلهم ..
إذ يحصل لهم التواضع في أنفسهم والاستغناء عن غيرهم ، وكسب الحلال الخالي عن الامتنان .
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن خير ما أكل المرء من عمل يده وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده»
محمد سيد حسين عبد الواحد
إمام وخطيب ومدرس أول.
- التصنيف: