وصية راحل

منذ 2022-05-11

الحياة قصيرة جدًّا، لا تستحقُّ الحقد، الحسد، البُغض، قطع الرحم، المخاصمة، غدًا سنكون ذكرى فقط، والموت لا يستأذن أحدًا، فابتسموا وسامحوا كلَّ من أساء إليكم..

جمْعٌ غفيرٌ شيَّعوه ولا ترى إلا الدموعَ تُخبِر عن مكنونات الصدور، تقرأ في الوجنات أشواقًا وأشواقًا:

وأرى الجموع توافَدوا في عَبــــــرة   ***   كل القلوب إلى وداعك يمَّمت 

صمت الجميع عن الحديث فلا ترى   ***   إلا دموعًا للدموع تكلمـــــــت 

 

وعند قبره تحدث أحد أصفيائه، وما أكثرهم! والدمع يتحدر على خديه، أُجزِم أنه عاجز عن منعه من الجريان، قال أبو عماد[1]: عاتبته مرة فقلت له: لقد استغل من تتعامل معهم طيبتك فضيَّعت كثيرًا من حقوقك، فقال رحمه الله[2]: يا أبا عماد، لا تستكثر من الأعداء، ما دام المال يمنع العداوات فإنه مخلوف.

 

يا الله! كم هزتني هذه العبارة! ليتك تدري أيها الراحل أن كثيرًا من الناس صنع المالُ بينهم ألفَ عداوة وعداوة، فرَّق بين الأخ وأخيه، والصديق وصديقه، والزوج وزوجه.

 

ما أجمل أن نأخذ هذه العبارة بمزيد عناية "لا تستكثر من الأعداء"! فأسوأ صناعة في الحياة هي صناعة الأعداء، لماذا؟ لأنها صناعة الشيطان، قال تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} [الإسراء: 53] وعَنْ جَابِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: {إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ}؛ (رواه مسلم).

 

وقد فعل الشيطان فعلته فأوغر صدور إخوة يوسف على أخيهم حتى خططوا لقتله، ثم ألقوه في غيابة الجب، ولحقه من مكرهم ما سطَّرَه الله في سورة يوسف: {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} [يوسف: 100].

 

فلنكن على حذر من كيد الشيطان ومكره، ولنتذكر "لا تستكثر من الأعداء"، ومن أسباب وقوع العداوات:

أولًا: التنافس على حطام الدنيا الزائل؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصحابته رضي الله عنهم: «... فَوَاللَّهِ لا الفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخَشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ»؛ (متفق عليه).

 

تأمل كيف صنع التنافس على الدنيا في الناس؛ كم إخوة تنازعوا على ميراث أبيهم ونشبت بينهم العداوات وماتوا وهم على الشحناء والبغضاء، فورَّثوا ذلك لأبنائهم من بعدهم! وكم من تعاملات أورثت الشقاق والنزاع والعداوات كان باعثها التنافس على الدنيا! وهل المال هو الذي يهب السعادة؟

 

من طرائف القصص أن ثريًّا مرَّ في أحد أحياء مصر -بسيارته الفارهة- ببعض العُمَّال البسطاء، فقال بعضهم بصوت مرتفع: (يا سلام على النعمة، هذه هي الحياة!)، طلب الثري من السائق أن يتوقف ونزل وقال للمتحدِّث: أنا أملك ثروة عظيمة ولكن دعني أسألك: هل لديك أبناء؟ قال: نعم، لدي أربعة من الأبناء، ثم قال: وهل أنت سليم من الأمراض؟ قال: نعم، قال له: أنا رغم ثروتي العظيمة تجاوزت الستين من عمري ولم أُرزَق بالذرية، فأنا عقيم لا أنجب، وأنا مريض بأمراض آخرها زراعة الكبد، ولا أستمتع بما أشتهي من الطعام والشراب، فهل تقبل أن أعطيك ما عندي وآخذ ما عندك؟ فقال بصوت واحد: لا الحمد لله، أنا في نعمة عظيمة.

 

ليتنا ندرك هذه الحقيقة وأن السعادة الحقيقية في الرضا والقناعة، وفي صفاء القلوب والألفة والمحبة والصحة، فالكثير من أصحاب المال رحلوا وخلفوه وراء ظهورهم، فلماذا نفسد حياتنا وأخوتنا وصداقتنا من أجله؟! مرَّ حكيم بإخوة يتخاصمون ويتشاحنون على الدنيا، فقال كلمة عجيبة: تراب يقتتلون على تراب وسيدفنون في التراب!

 

ثانيًا: سوء الظن بالآخرين؛ قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12] وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، وَلَا تَحَسَّسُوا، وَلَا تَجَسَّسُوا، وَلَا تَنَافَسُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا»؛ (رواه مسلم).

 

تأملوا عباد الله كيف أن الظن السيئ يجر إلى التجسس والتحاسد والتباغض والتدابُر وينافي الأخوة في الله، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ مُسْلِمٍ سَمِعَ مِنْ أَخِيهِ كَلِمَةً أَنْ يَظُنَّ بِهَا سُوءًا وَهُوَ يَجِدُ لَهَا فِي شَيْءٍ مِنَ الْخَيْرِ مخرجًا".

 

ثالثًا: الحكم على النيات والمقاصد، يريد بقوله كذا وكذا، يقصد بعمله كذا وكذا، إن الذي يحكم على نيات الناس ومقاصدهم إنما يدعي ما اختصَّ الله جل وعلا بعلمه، فعِلْمُ ما في الصدور من النيات والمقاصد لا يعلمه إلا الله، ومدعي ذلك واقعٌ في أمر عظيم، قال تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الملك: 13]، وقال تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19].

 

أرسل رسالة جماعية لأكثر من ألف رقم، وفي الصباح دخل مقر عمله وإذا بزميله وصديقه الذي يجلس إلى جواره متغير عليه، حاول أن يستكشف ما بداخله، وبعد إلحاح قال له: لمَ استمعت إلى كلام فلان وصدَّقت ما قاله عني؟ قال له: يشهد الله أنني لم أقابله ولم أتصل به، ولا أعلم ما الذي بينكما، قال: ولماذا أرسلت إلي البارحة تلك الرسالة التي كل حرف فيها موجّه إلي؟ فتح جواله وعرض له مجموعة من الأسماء التي وصلتهم الرسالة، وقال: هذه رسالة جماعية أرسلتها لجميع المضافين لدي ولم أقصدك بها، هكذا يصنع الشيطان بكثير من الناس ليزرع بينهم العداوات والشحناء والبغضاء.

 

رحل صاحبنا رحمه الله والقلوب تهتف بحبه وتلهج بالدعاء له، وقد طبق مقولته وجعلها واقعًا ملموسًا في حياته: "لا تستكثر من الأعداء"، ما أجمل القلوب النقية الصافية السليمة التي لا تنطوي على الغل والشحناء والبغضاء لأحد من الناس! قال تعالى: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88، 89].

 

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ، صَدُوقِ اللِّسَانِ»، قَالُوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ، نَعْرِفُهُ، فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟ قَالَ: «هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ، لَا إِثْمَ فِيهِ، وَلَا بَغْيَ، وَلَا غِلَّ، وَلَا حَسَدَ»؛ (رواه ابن ماجه، وصحَّحه الألباني).

 

ديننا الإسلامي العظيم يدعو أتباعه إلى الأخوة والمحبة، تأملوا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «وكونوا عباد الله إخوانًا» واسمعوا هذه البشارة النبوية لمن تحابُّوا في الله عز وجل؛ فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن من عباد الله لأناسًا ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله تعالى»، قالوا: يا رسول الله، تخبرنا من هم؟ قال: «هم قوم تحابُّوا بروح الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لنور، وإنهم على نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس» وقرأ هذه الآية {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62]؛ رواه أبو داود وصححه الألباني.

 

علينا أن نستمتع بمن نحب ونستغل لحظة بقائهم لنُسعِدهم ونسعد بهم "تمسَّكوا بأحبتكم جيدًا، وعبِّروا لهم عن حبكم، واغفروا زلاتهم، فقد ترحلون أو يرحلون يومًا.. وفي القَلب لهم حديث وشوق.. فالحياة قصيرة جدًّا، لا تستحقُّ الحقد، الحسد، البُغض، قطع الرحم، المخاصمة، غدًا سنكون ذكرى فقط، والموت لا يستأذن أحدًا، فابتسموا وسامحوا كلَّ من أساء إليكم"[3]، ولا تستكثروا من الأعداء وخاصة الأقارب والأرحام والأصدقاء الأصفياء. اللهم ارزقنا قلوبًا مخمومة طيبة سليمة، اللهم ألِّف بيننا واسلل سخيمة قلوبنا يا حي يا قيوم.

 


[1] أ. د. عمر الراشدي ‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏أستاذ الدراسات العليا، جامعة أم القرى، عضو هيئة التدريس بقسم الدورات التدريبي، رئيس جمعية البر بالمظيلف.

[2] المربي القدير مناجي أبو طالب الغبيشي، مستشار أسري وعضو لجنة المصالحة في مركز غراس، ومدرب معتمد في مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني، رئيس مكتب التعليم بالقوز سابقًا، ورئيس لجنة التنمية الاجتماعية بحلي، رحمه الله.

[3] من أقوال الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله.

_______________________________________________________
الكاتب: أ. شائع محمد الغبيشي