ملامحُ المشروع التربوي الناجح

منذ 2022-05-12

المشروعُ التربوي خيرُ مشروعٍ تخطّطُ لهُ الدولُ والمؤسسات التعليميّة؛ لأن نجاحَه نجاحٌ للمجتمع بأسره، وارتقاءٌ بكلّ أطيافه، فكلّما تألّقت التربيةُ تعافى المجتمع

المشروعُ التربوي خيرُ مشروعٍ تخطّطُ لهُ الدولُ والمؤسسات التعليميّة؛ لأن نجاحَه نجاحٌ للمجتمع بأسره، وارتقاءٌ بكلّ أطيافه، فكلّما تألّقت التربيةُ تعافى المجتمع، وإذا ما تعافى المجتمعُ دبَّتِ الحيويةُ في عُروقِه وأصبحَ قادراً على العطاءِ والإنتاج، وكلّما تقهقرت التربيةُ خبا بريق الأمة، ووجدنا أنفسَنا وجهاً لوجهٍ أمامَ خطرٍ يُنذرُ بتراجعِ الفكرِ، وانحسارِ الرؤية.

يقول الدكتور علي الجبتي: ((تتّجهُ المجتمعاتُ اليوم إلى البحثِ عن أفضلِ السُّبل التي توصلُها إلى تحقيقِ أهدافِها والقضاءِ على مشكلاتها، وتيسيرِ سُبُلِ العيش فيها.. وهناكَ إجماعٌ بأنّ التربيةَ هي الوسيلةُ التي تمتطيها تلك المجتمعاتُ للوصول إلى الأهداف))[1].

والتربيّةُ متلازمةٌ مع كُلّ نشاطٍ بشريّ، وموجِّهةٌ له، والحاجةُ إليها مُلحّة، وهي ضرورةٌ من ضرورات الحياة، وليست التربيةُ مشروعاً مؤقّتاً قد ينتهي بمئةِ عامٍ أو ألفِ عام، ولكنّها مشروعٌ مستمرٌّ وحيويٌّ ومتجدّد ما أشرقت الشمسُ، وكرَّ الجديدان.

يقولُ المفكّر الأمريكي جون ديوي: "التربيةُ مستمرةٌ، وليست جرعةً تُعطى مرّةً واحدةً إلى الأبد، بل هي بحاجةٍ إلى الاستمرارِ؛ لأن العلمَ لديه دائماً شيءٌ جديدٌ يُوافينا به"[2].

والتربيةُ ليست مجرّد وسيلةٍ للمعرفة فحسب، بل هي وسيلةٌ لتوليدِ وإبداعِ أدواتِ الإنتاج المعرفيَّة، ومع هذا، فإنّ التربيةَ لم تحظَ بالاهتمام المطلوب في كثيرٍ من مجتمعاتنا العربية على الرغم من أنّها المرتكزُ والأساس الذي تُشاد عليه هيبةُ الأمم وأمجادها وحاضرها ومستقبلها.

والمشروع التربوي لا يُكتبُ له النجاحُ إلا عندما يؤمنُ القائمون عليه بمقاصدهِ القريبة والبعيدة، مع بذْلِ قصارى الجهود في سبيلِ تحقيقه؛ يقول أرسطو: "جذورُ التربية مُرّة، ولكنّ ثمارها حلوة"[3].

وقيل: "من لم يصبر على ذلّ التعليم.. أمضى عمرَه في عماية الجهل، ومن صبرَ عليه آل أمره إلى عزّ الدنيا والآخرة".

ورحم الله الشاعر الذي قال:

ومن لم يَذُق مُرَّ التعلّم ساعةً        تجرّع ذُلّ الجهل طول حياته

 

فأول ملامح المشروع التربوي يتمثّل في الدور الذي ينبغي أن يقوم به رأس الهرم، وذلك بتجهيزِ المدارسِ المزوّدة بالوسائلِ التعليمية المتطوّرة التي تمكّنُ الأسرةَ التربوية من العملِ بأريحيّةٍ تكفُلُ لها تحقيق رسالتها، فضلاً عن توفيرِ المنهجِ المتكامل والمعاصر الذي يواكبُ كلّ جديد، ويلامسُ اهتمامات الطلاب الذين أُعِدّ من أجلهم.

فالمنهج أداةٌ رئيسةٌ في كلّ نهضة، والمنهجُ بنظر المعلمين البُناة دروعٌ واقية لنسيجِ الأمة المتين، ومناجمُ ذهبٍ متدفّقة توفّرُ لهم الحياة الرّغيدة، ولأبنائهم المستقبلَ الآمنَ الواعد، ومكتباتٌ عامرةٌ تزخرُ بالبحوث العلمية والمؤلّفات الثريّة التي تقدّمُ للإنسانيةِ النفعَ والفائدة.

والسؤال الذي يقفزُ إلى الذهن: هل المنهجُ الملائمُ وحدَه يحققُ أهدافَ التربية؟ والجواب لا؛ لأنَّ المنهجَ السليمَ يحتاجُ إلى معلمٍ حاذقٍ مخلصٍ مؤمنٍ برسالتهِ يحوّل المنهجَ إلى روضةٍ غنّاء تفوحُ منها الطيوبُ، وتهفو إليها قلوبُ الطلاب وتنشدّ إليها عيونُهم..

وهنا تبرُزُ مهمّة جديدة منوطة برأس الهرم التربوي (وزارات التربية والتعليم) وهي إعداد المعلمين الأكفاء.

يقول هاورد جاردنر: "المعلمُ الناجحُ ذو الخبرةِ والتدريب الجيّد لا يزال أفضل من الوسائلِ التكنولوجية الأكثر تقدماً، وإنّ أعظم الأجهزةِ والبرامجِ لا تزال قليلةَ النفعِ في غيابِ المنهجِ وعلمِ أصولِ التدريس والتقييم المناسب"[4].

ولا يفوتُني أن أركّز على أهميةِ طرائقِ التدريس، فالطريقة التي يتّبعها المعلم في أثناء شرح المنهج بمنزلةِ الجناح للطائر.

فالتّدريس فنّ يتطلّب من المعلّم القيامَ بمهارات كثيرة لشدّ انتباه الطلاب.

يقول الدكتور الدمرداش سرحان: "لطريقةِ التدريسِ أثرٌ كبيرٌ في تحقيقِ أهدافِ التربيةِ وينبغي أن نتذكّرَ هنا أنَّ المعلمَ لا يعلّمُ بمادَّتِه فحسب، وإنما يعلّمُ بطريقتِه وأسلوبِه وشخصيته وعلاقاته الطيبة مع تلاميذه وما يضربُه لهم من قُدوة حسنة ومثلٍ أعلى"[5].

وهل المنهجُ السليمُ والمعلمُ الماهر يحققان نجاحَ المشروع التربوي الذي نريد؟
الجواب: لا يحقِّقانِ نجاحَه على الرّغم من كونهما عاملين حيويّين في بناءِ المشروع التربوي؛ لأنّه لا بدَّ من وجودِ عاملٍ ثالثٍ وهو الجهازُ الإداريُّ المتكامل الذي يحتوي على الخبيرِ التربوي المؤثّر، والمدير القائد الذي يحرّكُ مجدافَ المدرسةِ بحكمةٍ وبُعدِ نظر، فيكافئُ المعلمينَ المخلصين، ويأخذُ بأيدي حديثي العهد، ويتعهّدهم بالتدريب فيبني خبراتهم لبنةً لبنة، ويجعل من الطلابِ ومن أولياء أمورهم شركاءَ فاعلين في العملية التعليميّة؛ لتبدو المدرسةُ أسرةً فكريةً متعاونة تحققُ النجاحَ تلو النجاح.

يقول نيوتن: "إذا كنتُ قد استطعتُ أن أرى أبعدَ من غيري، فلأنني وقفتُ على أكتافِ عددٍ كبير من العمالقة"[6].

ويقول دايل كارنيجي: "عندما يعملُ الإخوةُ معاً تتحوّلُ الجبالُ إلى ذهب"[7].

والعاملُ الحاسمُ الآخرُ في نجاحِ المشروعِ التربوي تعاونُ الأسرة التي هي نواةُ المجتمع عن طريقِ بناءِ القيم الإنسانيَّة الإيجابية، وترسيخِها في نفوسِ الأبناء، وتوفيرِ الاستقرار والصحّة النفسيّة لهم، وإكمال دور المدرسة بالمتابعة الفاعلة والتواصل البنّاء.

يقول ابن قيّم الجوزيّة: "من أهملَ تربيةَ ولدهِ في الصّغر فقد أساءَ إليه غايةَ الإساءة"[8].

ويقول الدكتور أحمد خليل جمعة في كتابه (الأطفال والطفولة): "ولا ريبَ في أنّ للمدرسةِ والتّعليمِ أكبرَ الأثر في تنميةِ الذّوق والجمال عندَ النّاشئة؛ فالتّربيةُ الجماليةُ تُسهمُ في تنميةِ الفضيلةِ الأخلاقيَّة عند الأطفال وتُزوّدهم بعاداتٍ جميلة"[9].

بقيَت هناكَ حلقةٌ مفقودةٌ في بناءِ المشروعِ التربوي، ألا وهيَ الإعلامُ الهادف الذي يوفّرُ للطلاب بُعداً معرفيا ثالثاً يشتملُ على المُتعة والفائدة، ويؤصّلُ فكرَ المجتمع وآدابِه وقيمِه.

ولكنَّ ما نراهُ الآن على شاشاتِ التلفازِ من مُسلسلات كرتونيّة تُنمّي فكرةَ الخيالِ والعُنف والشّعوذة والخرافات، ويُبْرِزُ بعضُها مُطلقيّة الحكمِ والتصرّف بالكون للطبيعة، ويكتفي ما بقيَ منها –وكثُرَ- بتقديم التّسلية الرّخيصةِ المفرّغة من كلِّ قيمةٍ أو مغزى.

هذا النوعُ من الإعلام الهشّ لا يُساعد -بأي حالٍ من الأحوال- على بناءِ المشروعِ التربوي ولكنه يُسهمُ في هدمه، فَيُسيءُ للمشاهدين من الأطفال والفتيان، و يفصلُهم بالكليّة عن بيئتهم الحقيقيّة وعن خلفيّتهم الفكرية والدينيّة والاجتماعية، ويولّد بدورهِ العنفَ في صفوفِ الأطفال بما يتبَنّونه من سلوكيّاتٍ خاطئةٍ في تقليدٍ أعمى لأبطال المسلسلات الكرتونية.

ذكرَ الدكتور (خالد الجريسي) في كتابه (الفنّ الواقع والمأمول): "أثبتت دراسةٌ أنَّ نسبةَ 90% من الأطفالِ الذين يرتكبونَ الجرائمَ يكمُن وراءَها مشاهدةُ أفلامِ العنف"[10].

ولابدّ من الإشارةِ إلى لمحةٍ جدِّ مهمّةٍ في المشروعِ التربوي؛ إنها العملُ بمبدأ روحِ الفريقِ الواحد، ففي الحقيقة إنّ المؤسسةَ التعليميَّة وإدارةَ المدرسة والمعلم والأسرة والإعلام مجتمعين يكونون الفريق الذي يُعوّل عليه المجتمعُ في تطوّره ورقيّه. ولكي يحقِّقَ هذا الفريقُ أهدافَه لا بدّ لهُ من العملِ تحت مظلّةِ التعاون والإتقان والتغاضي عن الهَنات والهفَوات الصّغيرة.

يقول جون هويس: "التعاونُ ركيزةُ النّجاح"[11].

وما أحوجَنا جميعاً إلى العملِ بهذا المبدأ في المدرسة والشركة والأسرة وفي كلّ مجالات الحياة وفعالياتها.

وإنّ ما نراهُ في بلادنا العربيّة من محاولاتٍ جادّة، وجُهودٍ مخلصة لخدمةِ المشروع التربوي لَيُبشّر بالخير، فأمُّتنا أصيلةٌ وذاتُ مخزونٍ فكريٍّ حضاريٍّ ثريٍّ قابلٍ للنّهوضِ والازدهار والتّحليق من جديد فوقَ روابي الألقِ والإبداع عندما تكتملُ العوامل والأسباب.

ورحم الله شوقي عندما قال:

أمةٌ   ينتهي    البيانُ    إليها         وتؤولُ    العلومُ    والعلماءُ
كلّما حثّتِ الأأأأرّكابَ لأرضٍ        جاورَ الرّشد أهلها والذّكأاءُ

وفي الختام، كُلّي أملٌ في أن يُكمِلَ جيلُ الغَدِ الواعد ما بدأنا به، ويحقّقَ ما عَجَزْنا عنه.. سائلاً المولى عزّ وجلّ أن يكلأهم برعايته ويخصّهم بعنايته وحفظه.

ــــــــــــــــــــــــــــ
[1]  مجلة المعرفة العدد 37 /1419هـ مقالة من إعداد د. علي الجبتي ص: 83.
[2]  موسوعة روائع الحكمة، د. روحي البعلبكي. 
[3]  المصدر السابق.
[4]  كتاب أفضل النصائح للمعلمين، تشارلز ماكجوير. 
[5]  كتاب المناهج المعاصرة، الدكتور الدمرداش سرحان. 
[6]  موسوعة روائع الحكمة، د. روحي البعلبكي. 
[7]  المصدر السابق.
[8]  كتاب صحيح جامع بيان العلم وفضله. لابن عبد البرّ. 
[9]  الأطفال والطفولة، د. أحمد خليل جمعة.
[10]  كتاب الفن الواقع والمأمول، د. خالد عبد الرحمن الجريسي.
[11]  موسوعة روائع الحكمة، د. روحي البعلبكي.