لا تكثر النشر فيمل الناس موعظتك
فلتكن نصيحتك أو موعظتك غبًّا؛ ليبقى السامع أو القارئ مشتاقًا لها، يسمعها بقلبه قبل أذنه.
من الأمور الجميلة أن يتصيَّد الإنسان أفكاره فيقيِّدها بالكتابة والنشر؛ كما ذكر ابن الجوزي رحمه الله ذلك عن نفسه؛ فألَّف كتابه المشهور والماتع (صيد الخاطر)[1]، ولكن من المملِّ أن يكثر منها في اليوم الواحد عدَّة مرَّاتٍ فينشر كلَّ ما يصل إليه أو يجول بخاطره في المنتديات أو مواقع التواصل وغيرها، وإن كان هذا من باب الدعوة إلى الله؛ فإنَّ كثرة وقوع العين على الشيء يقلِّل من شأنه في عين الناظر، وكذلك الواعظ فإنَّه سواء كان ماثلًا أمام الناس بجسده أو بكتاباته عدَّة مرَّات كلَّ يوم، فإنَّ أغلب الناس بعد مدَّةٍ لن يلتفتوا إليه أو إلى ما يكتب، ولمثل هذا أشار ابن حزم رحمه الله في كتابه الرائع (الأخلاق والسير)[2].
وعن ابن مسعود رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم: «كان يتخوَّلهم [3] بالموعظة في الأيام كراهة السآمة عليهم» [4]؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "والمعنى كان يراعي الأوقات في تذكيرنا، ولا يفعل ذلك كل يومٍ لئلا نمل"[5].
وقال الإمام النووي رحمه الله: "وفي هذا الحديث: الاقتصاد في الموعظة؛ لئلا تملُّها القلوب فيفوت مقصودها"[6].
وقد قال عبيد بن عمير رضي الله عنه لعائشة رضي الله عنها حين عاتبته في قلة زيارته لها: «زرْ غِبًّا تزدد حبًّا» [7]، ومعنى الزيارة غِبًّا: أي: الزيارة يومًا بعد أيام[8].
لذا أخي في الله، فلتكن نصيحتك أو موعظتك غبًّا؛ ليبقى السامع أو القارئ مشتاقًا لها، يسمعها بقلبه قبل أذنه.
[1] صيد الخاطر، ابن الجوزي: ٢٣.
[2] الأخلاق والسير، ابن حزم: ١٠٠.
[3] أي: يتعهَّدهم بالموعظة، وانظر: لسان العرب، ابن منظور: ٥/ ١٨٢.
[4] رواه البخاري: ٦٨، ومسلم: ٢٨٢١.
[5] فتح الباري، ابن حجر: ١/ ٢٣٨.
[6] شرح صحيح مسلم، النووي: ١٧/ ١٦٠.
[7] صحيح الترغيب: ٢٥٨٥.
[8] - لسان العرب، ابن منظور: ١١/٥.
- التصنيف: