تفسير قوله تعالى: {ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت...}

منذ 2022-05-21

لقد علمتم يا بني إسرائيل الذين تجاوزوا منكم حدَّ الله، وارتكبوا ما نهاهم عنه يوم السبت، وما حل بهم، وفي هذا توبيخٌ لهم على عدم الإيمان مع علمهم بما حل بأسلافهم، وتحذير لهم من عقاب الله عز وجل.

قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ * فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ}  [البقرة: 65، 66].

 

هذا مما يُذَكِّر الله به بني إسرائيل، مما يَعلَمونه ومما تقرر عندهم من أمرِ الذين اعتدوا منهم في السبت، ومسَخهم الله قردة خاسئين؛ ليأخذوا من ذلك العظة والعبرة، ويحذروا من المخالفة والعصيان.

 

قوله: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ}  الواو: عاطفة، واللام موطِّئة للقسَم، وقد للتحقيق، فالجملة مؤكَّدة بثلاثة مؤكِّدات: القسم، ولام القسم، و"قد". والخطاب لبني إسرائيل الموجودين وقت نزول القرآن.

 

أي: والله لقد علمتم يا بني إسرائيل الذين تجاوزوا منكم حدَّ الله، وارتكبوا ما نهاهم عنه يوم السبت، وما حل بهم، وفي هذا توبيخٌ لهم على عدم الإيمان مع علمهم بما حل بأسلافهم، وتحذير لهم من عقاب الله عز وجل.

 

و"السبت" في الأصل: القطع والراحة، والمراد بـ"السبت" أحد أيام الأسبوع، وسمي بالسبت؛ قيل: لأنهم كانوا ينقطعون فيه عن العمل.

 

ومعنى {فِي السَّبْتِ} ؛ أي: في حكم السبت؛ أي: فيما حكم الله به عليهم يوم السبت من تحريم العمل والصيد فيه ليتفرغوا للعبادة، وقد ابتلاهم الله بإتيان الحيتان شُرَّعًا؛ أي: بكثرة في هذا اليوم دون غيره من أيام الأسبوع، كما قال تعالى في سورة الأعراف: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 163].

 

فاحتالوا بوضع الشباك لها يوم الجمعة وأخذِها يوم الأحد، فجمعوا بين التحايل على فعل المحرَّم، وبين ارتكاب المحرَّم، وهذا أشد اعتداءً وأعظم جرمًا من فعل المحرَّمِ على وجه صريح؛ لما فيه المخادعة وإظهار المحرم بصورة المباح؛ ولهذا المسلك - وهو الخداع والتحايل - كان المنافقون أشدَّ الناسِ جرمًا، وأشدهم عذابًا، لأنهم يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر.

 

{فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} ؛ أي: صيروا قردة خاسئين، و"القردة" هي الحيوانات المعروفة التي هي من أخس الحيوانات؛ ولهذا قال: "خاسئين"؛ أي: أذلة صاغرين، فمُسخوا قردة خاسئين مسخًا حقيقيًّا لصورهم، ومعنويًّا لقلوبهم بأمر الله تعالى؛ عقوبة لهم؛ بسبب استخفافهم بحكم الله تعالى وتحايلهم عليه، كما قال تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} [المائدة: 60].

 

فعوقبوا بجنس عملهم؛ لأن الذي ارتكبوه بهذه الحيلة قد يبدو بأن صورته صورة المباح، وهو في الحقيقة محرَّم غير مباح، وكذلك عوقبوا بمسخهم على صورة القردة التي هي أشبه شيء بصورة الآدمي، وليست بآدمي، والجزاء من جنس العمل، كما قال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40]، وقال تعالى: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} [العنكبوت: 40].

 

قال ابن كثير[1]: "فلما فعلوا ذلك مسَخَهم الله إلى صورة القرود، وهي أشبه شيء بالأناسي في الشكل الظاهر، وليست بإنسان حقيقة، فكذلك أعمال هؤلاء وحيلهم، لما كانت مشابهة للحق في الظاهر، ومخالفة له في الباطن؛ كان جزاؤهم من جنس عملهم".

 

المصدر: « عون الرحمن في تفسير القرآن »

 


[1] في "تفسيره" (1 /150).

سليمان بن إبراهيم اللاحم

الأستاذ في قسم القرآن وعلومه بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بالقصيم.