التحذير من تقديم الرأي على الأثر
من أساليب "متعصِّبة المذاهب" في هجر السُّنة تقديمُ أراء المذاهب المرجوحة على الأحاديث الصحيحة والآثار الثابتة، وردُّ الحقِّ؛ لمجرَّد أنه خالف المذهب المتبوع، وقد تحدَّث أهل العلم عن هذه الظاهرة المقيتة، وحذَّروا منها، ومن ذلك:
من أساليب "متعصِّبة المذاهب" في هجر السُّنة تقديمُ أراء المذاهب المرجوحة على الأحاديث الصحيحة والآثار الثابتة، وردُّ الحقِّ؛ لمجرَّد أنه خالف المذهب المتبوع، وقد تحدَّث أهل العلم عن هذه الظاهرة المقيتة، وحذَّروا منها، ومن ذلك:
1- ما ذكره أبو شامة المقدسي رحمه الله – في المبالغة في تعظيم "متعصِّبة المذاهب" لأقوال أئمتهم المرجوحة، وتقديمها على الآثار الثابتة، فقال: (ومن العَجَب: أنَّ كثيراً منهم إذا ورد على مذهبهم أثَرٌ عن بعض أكابر الصحابة، يقول مبادراً - بلا حياء ولا حشمة: "مذهب الشافعي الجديد: أنَّ قول الصحابي ليس بِحُجَّة" ويرُدُّ قولَ أبي بكرٍ وعمرَ، ولا يردُّ قولَ أبي إسحاق والغزالي!
ومع هذا؛ يرون "مصنفات أبي إسحاق" وغيره مشحونةً بتخطئة المُزني وغيرِه من الأكابر فيما خالفوا فيه مذهبهم، فلا تراهم يُنكرون شيئاً من هذا. فإن اتَّفق أنهم سَمِعوا أحداً يقول: "أخطأ الشيخُ أبو إسحاق في كذا؛ بدليل كذا وكذا" انزعجوا وغضبوا، ويرون أنه ارتكب كبيراً من الإثم.
فإنْ كان الأمر كما ذَكَروا؛ فالأمر الذي ارتكبه أبو إسحاق أعظم، فما بالهم لا يُنكِرون ذلك، ولا يغضبون منه؟ لولا قلة معرفتهم، وكثرة جهلِهم بمراتب السلف)[1].
2- وما ذكره ابن تيمية رحمه الله - في تمسُّك "جمهور المتعصِّبين" بالأقوال غير المعصومة والأحاديث الضعيفة، وتركهم للنُّقول المعصومة الثابتة؛ تعصُّباً لمذاهبهم المتبوعة، فقال: (وَجُمْهُورُ الْمُتَعَصِّبِينَ لا يَعْرِفُونَ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ؛ بَلْ يَتَمَسَّكُونَ بِأَحَادِيثَ ضَعِيفَةٍ، أَوْ آرَاءٍ فَاسِدَةٍ، أَوْ حِكَايَاتٍ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ وَالشُّيُوخِ قَدْ تَكُونُ صِدْقًا وَقَدْ تَكُونُ كَذِبًا.
وَإِنْ كَانَتْ صِدْقًا فَلَيْسَ صَاحِبُهَا مَعْصُومًا، يَتَمَسَّكُونَ بِنَقْلِ غَيْرِ مُصَدَّقٍ عَنْ قَائِلٍ غَيْرِ مَعْصُومٍ، وَيَدَّعُونَ النَّقْلَ الْمُصَدَّقَ عَنْ الْقَائِلِ الْمَعْصُومِ، وَهُوَ مَا نَقَلَهُ الثِّقَاتُ الأثبات مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ وَدَوَّنُوهُ فِي الْكُتُبِ الصِّحَاحِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
فَإِنَّ النَّاقِلِينَ لِذَلِكَ مُصَدَّقُونَ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الدِّينِ، وَالْمَنْقُولَ عَنْهُ مَعْصُومٌ لا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى، إنْ هُوَ إلاَّ وَحْيٌ يُوحَى، قَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ طَاعَتَهُ وَاتِّبَاعَهُ؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿ {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} ﴾ [النساء: 65]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿ {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ﴾ [النور: 63])[2].
3- ما ذكره السِّندي رحمه الله – من تقديم "متعصِّبة المذاهب" أقوال أئمتهم على الأحاديث الثابتة، فقال: (لَبَّسَ إبليسُ على كثيرٍ من البشر، فحسَّن لهم الأخذَ بالرأي لا الأثر، وأوهمهم أنَّ هذا هو الأَولى والأَخْيَر، فجعلهم بسبب ذلك محرومين عن العمل بحديث خَيرِ البشر صلى الله عليه وسلم. وهذه بليَّة من البلايا الكبر.
ومن أعجب العجائب: أنهم إذا بَلَغَهم عن بعض الصحابة رضي الله عنهم ما يُخالف الصحيح من الخَبر، ولم يجدوا له محملاً، فجوَّزوا عدمَ بلوغ الحديث إليه؛ لم يثقل ذلك عليهم، وهو الصواب.
وإذا بلغهم حديث يُخالِفُ قولَ مَنْ يُقلِّدون؛ اجتهدوا في تأويله القريب والبعيد، وسَعَوا في محامله النائية والدانية، وربَّما حرَّفوا الكلِمَ عن مواضعها. وإذا قيل لهم – عند عدم وجود المحامل المعتبرة: لعلَّ مَنْ تُقلِّدونه لم يبلغه الخبر؛ أقاموا على القائل القيامة، وشنَّعوا عليه أشدَّ الشناعة، وربَّما جعلوه من أهل البشاعة، وثقل ذلك عليهم.
فانظر – أيها العاقل – إلى هؤلاء المساكين؛ يجوِّزون عدمَ بلوغ الحديث في حقِّ أبي بكرٍ الصديق الأكبر وأحزابِه، ولا يُجوِّزون ذلك في أرباب المذاهب، مع أنَّ البون بين الفريقين كما بين السماء والأرض.
وتراهم يقرؤون كُتبَ الحديث، ويطالعونها، ويدرسونها لا لِيَعْمَلوا بها؛ بل لِيَعْلَموا دلائل مَنْ قلَّدوه، وتأويل ما خالف قولَه. ويُبالغون في المحامل البعيدة، وإذا عجزوا عن المحمل؛ قالوا: "مَنْ قَلَّدْنا أعلمُ مِنَّا بالحديث"! ألا يعلمون أنهم يُقيمون حجة الله عليهم بذلك، ولا يستوي العالِم والجاهل في ترك العمل بالحجة.
وإذا مرَّ عليهم حديث يوافق قولَ مَنْ قلَّدوه انبسطوا، وإذا مرَّ عليهم حديث يخالف قولَه؛ أو يوافق مذهبَ غيره ربَّما انقبضوا، أوَلَم يسمعوا قولَ الله تعالى: ﴿ {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} ﴾ [النساء: 65].
وكثير من "هؤلاء الطائفة المتعصِّبة" مَنْ يدَّعي عدم فهم الحديث؛ إذا قيل له: لِمَ لا تعمل بالحديث، مع ادِّعائه فضله، وتعليمه، وتعلُّمه، واستدلاله لِمَنْ قلَّده؟
وهذا من أغرب الغرائب، ولو أذهب لأَذْكُرَ لك ما فيهم من العجائب لطال الكلام. وفي هذا المقدار كفاية لمَنْ نوَّر الله بصيرته، وأرشده إلى الصواب.
4- وإليك ما عاناه الشوكاني رحمه الله – من مُتعصبِّي زمانه؛ في تقديمهم أقوال مَنْ يقلِّدون على الكتاب والسُّنة - إذْ يقول: (وأمَّا في هذه الأزمنة: فقد أدرَكْنا منهم مَنْ هو أشدُّ تَعصُّبا من غيرهم؛ فإنهم إذا سَمِعوا برجلٍ يدَّعي الاجتهاد، ويأخذ دِينَه من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ قاموا عليه قياماً تبكي عليه عيونُ الإسلام، واستحلُّوا منه ما لا يستحلونه من أهل الذِّمة؛ من الطَّعن واللَّعن، والتَّفسيق والتَّنكير....
وقرَّر - في موطن آخَر: (وبالجملة: فهو عندهم ضالٌّ مُضِلٌ، ولا ذنبَ له إلاَّ أنه عَمِلَ بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، واقتدى بعلماء الإسلام؛ في أنَّ الواجب على كلِّ مسلمٍ تقديمُ كتابِ الله وسنةِ رسوله صلى الله عليه وسلم على قولِ كلِّ عالِمٍ كائناً مَنْ كان.
بل تجدهم بما يفعلون إنما يُخالفون إمامَهم الذي هم له مُقلِّدون، فأئمة الإسلام لا نظنُّ بهم إلاَّ خيراً، وليس لأحدٍ منهم أنْ يُخالف قولَ رسول الله إلى قوله؛ لذا قال الإمام الشافعي رحمه الله: (كُلُّ مَا قُلْتُ؛ فكَانَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خِلافُ قَوْلِي مِمَّا يَصِحُّ، فَحَدِيثُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْلَى، وَلا تُقَلِّدُونِي، وكان يسأل الإمامَ أحمدَ وهو تلميذه عن الحديث لعلمِه بتحصيله له، وقد وجدنا من تلامذة الأئمة النُّجباء مَنْ خالف شيخَه وإمامَه لَمَّا وقع على الدليل، فكان منهجهم "فلان حبيبٌ إلينا، لكنَّ الحقَّ أحبُّ إلينا منه"، وما سقط في هذا المنزلق إلاَّ مُتأخِّري المذاهب عندما قَلَّتْ بضاعتُهم من العلم، وهذا دأب كلِّ مَنْ تَقِلُّ بضاعتُه من العلم في كلِّ زمانٍ ومكان حتى في عصرنا الحاضر، وإلى آخر الأزمان، ولو كان الأمر على ما يقولون، فلِمَ خالف الإمامُ الشافعي الإمامَ مالكاً في كثير من الأحكام، وهو تلميذ له، ولِمَ خالف الإمامُ أحمدُ أستاذَه الإمامَ الشافعي وقد تتلمذ على يديه.
بل إنَّ الإمامَ مالكاً رفض حَمْلَ الأمة على مذهبه حينما طلب منه أحد الولاة ذلك، فعلماء الإسلام الأجلاء كان حالهم كمَنْ قال: "رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب".
[1] مختصر المؤمل في الرد إلى الأمر الأول، (ص 71)، (رقم 173).
[2] مجموع الفتاوى، (22/ 254-255).
[3] العجيب أنهم يتنازلون عن قول إمامهم لقولٍ له جديد في المسألة نفسِها، ولا يتنازلون عنه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيح الثابت الذي خفي على إمامهم، ويؤوِّلون الحديث بالتأويلات البعيدة؛ من النسخ والمعارضة، وعدم الثبوت عند الإمام! انظر: زوابع في وجه السنة، (ص 313).
[4] تحفة الأنام، محمد حياة السندي (ص 63-67).
[5] القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد، (ص 66).
[6] القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد، (ص 53).
[7] آداب الشافعي ومناقبه، لابن أبي حاتم (ص 51)؛ تاريخ دمشق، لابن عساكر (51/386)؛ مختصر المؤمل، (ص 58)، (رقم 131).