العمران وبنية الحضارة الإسلامية

منذ 2022-05-31

الحضارةُ الإسلامية في بنيتها العقَدية والتشريعية، لم تراعِ في قصدها الأول تطاولَ البنيان، وزَخرفة المساجد، والتجمل في هندسة العمران، وإنما راعت التخلق بقِيَمِ الإيمان التي تنبثق منها معرفةُ الرحمن..

الحضارةُ الإسلامية في بنيتها العقَدية والتشريعية، لم تراعِ في قصدها الأول تطاولَ البنيان، وزَخرفة المساجد، والتجمل في هندسة العمران، وإنما راعت التخلق بقِيَمِ الإيمان التي تنبثق منها معرفةُ الرحمن، وتكريم الإنسان، فإذا تحقَّقت، فالعمران وجمال البنيان تَبَعٌ لها، ولذلك فوجود ناطحات السحاب، وتطاول البنيان والعمارات، لا يدل على أن أصحابَها مؤمنون متحضرون، ولو نراجع سيرة الأماجد الأوائل من الرعيل الأول، من الصحابة الكرام والتابعين وتابعيهم بإحسان رضي الله عنهم، وقد كانوا في أَوَج تحضُّرهم الإيماني والأخلاقي والإنساني، مع بساطة عيشهم وسهولة مشربهم وموردهم ومعاشهم، أما الذين أَتَوْا من بعدهم من المتخلفين، فكانوا في أَوْج تحضُّرهم العمراني والبنياني، الذي بُني على مخلفات التحضر الإسلامي الحقيقي، ولكن كانوا في تقهقُر مستمر؛ لأنهم فقدوا أُسسها، ومنها:

أولًا: الأسس العقدية:

1- من توحيد الله في العبودية:  {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران:2]، التوحيد العبودي المبني على الحب والخوف والرجاء، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّ} ه ﴾ [البقرة:165]، {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء 57].

 

2- وتوحيد الله في الحاكمية:  {إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ}، [يوسف:40]. {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]، {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ الظالمون} المائدة:45، {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ الفاسقون}، [المائدة:47].

 

3- وترسيخ العدل والقسط بين الناس: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58].

 

ثانيًا: الأسس الإيمانية: من معرفة الله وأسمائه وصفاته معنًا ومقصدًا {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر:22-24].

 

ثالثًا: الأسس التشريعية:

1- كالشوری والاحتكام إليه، وجعله قضية ملزِمة وليست معلِمة فحسب {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [الشورى:38]، فتداول الشورى وأنه القاضي على تحصيل أمورهم بعد الاستجابة لله في دينه وإقامة الصلاة، له مكانته في ترسيخ الحكم الرشيد بين الأمة وإبعادها عن مهاوي الرأي الأوحد المورث للاستبداد، كما أن الاستجابة لله والصلاة له لها مكانتها في ترسيخ عبودية الله في خلقه ونفاذ الرشاد فيهم.

 

2- والعمل بالشورى كان ديدنَ المصطفى صلى الله عليه وسلم مع غناه عنه، لتأييده بالوحي والآيات والخبر الصادق من الله، ولكن شاوَر أصحابه في مكة للهجرة، وفي المدينة في غزوة بدر وغزوة أحد، وفي صلح الحديبية، وقصة مشاورته صلى الله عليه وسلم أم سلمة معروفة لَمَّا امتنع أصحابه عن الحلق ونحر الهدْي، فاقترَحت عليه أم سلمة رضي الله عنها الحلقَ والنحر، فيَتبعه أصحابُه بذلك، فاستجاب لها، ينظر: شعيب الأرناؤوط، في تخريج صحيح ابن حبان عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم، رقم الحديث:4872، بإسناد صحيح.

 

وشاوَر صلى الله عليه وسلم في جُلِّ غزواته، وما إن يستقر أمرٌ على مشورةٍ بعينها إلا وأقدَم إليه؛ كما في غزوة أحد والخروج إلى المشركين، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم عازمًا الخروج، ولكن لِمَا للشورى من أهمية ومكانة في احترام العقل، واعتبار الرأي، ومشاركة أكثر العقول في أمر الأمة واجتماعها عليه مما يقرِّب الإنسان إلى الصواب، ويُبعده عن الخطأ والحَيْف، فقد شاوَر النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يومَ أُحُدٍ في المُقامِ والخروجِ، فرأَوْا له الخروجَ، فلمَّا لَبِس لَأْمَتَهُ وعزَم، قالوا: أقِمْ، فلم يَمِلْ إليهم بعد العَزْمِ، وقال: «لا ينبغي لنبيٍّ يَلبَسُ لَأْمَتَهُ، فيضَعُها حتى يحكُمَ اللهُ»، (أخرجه شعيب الأرناووط في تخريج شرح السنة، 10/ 119)، وبين أن إسناده صحيح، لولا عنعنة أبي الزبير، وله شاهد، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ شَاوَرَ حِينَ بَلَغَهُ إقْبَالُ أَبِي سُفْيَانَ، قالَ: فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ، فأعْرَضَ عنْه، ثُمَّ تَكَلَّمَ عُمَرُ، فأعْرَضَ عنْه، فَقَامَ سَعْدُ بنُ عُبَادَةَ، فَقالَ: إيَّانَا تُرِيدُ يا رَسولَ اللهِ؟ وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ، لو أَمَرْتَنَا أَنْ نُخِيضَهَا البَحْرَ لأَخَضْنَاهَا، ولو أَمَرْتَنَا أَنْ نَضْرِبَ أَكْبَادَهَا إلى بَرْكِ الغِمَادِ لَفَعَلْنَا، قالَ: فَنَدَبَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ النَّاسَ، فَانْطَلَقُوا حتَّى نَزَلُوا بَدْرًا، (رواه مسلم، صحيح مسلم، رقم الحديث: 1779).

 

3- وكان الصحابة الكرام والخلفاء الراشدون رضي الله عنهم مشاورين متبعين لنبيهم صلى الله عليه وسلم فيه.

 

رابعًا: الأسس الأخلاقية:

1- من قيمة الوقت {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1-3]، عن عبدالله بن عباس قال قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اغتنمْ خمسًا قبلَ خمسٍ: حياتَك قبلَ موتِك، وصحتَك قبلَ سقمِك، وفراغَك قبلَ شغلِك، وشبابَك قبلَ هرمِك، وغنَاك قبلَ فقرِك»، (أخرجه السيوطي، الجامع الصغير، ص1205، حديث صحيح).

 

2- والإتقان في العمل، قال صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللهَ تعالى يُحِبُّ إذا عمِلَ أحدُكمْ عملًا أنْ يُتقِنَهُ»، (الألباني، صحيح الجامع، رقم الحديث:880، وقال حديث حسن).

 

3- ونفع المسلم والإنسان {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، [البقرة:195]، {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:56]، قال صلى الله عليه وسلم: «لا تَحاسَدُوا، ولا تَناجَشُوا، ولا تَباغَضُوا، ولا تَدابَرُوا، ولا يَبِعْ بَعْضُكُمْ علَى بَيْعِ بَعْضٍ، وكُونُوا عِبادَ اللهِ إخْوانًا المُسْلِمُ أخُو المُسْلِمِ، لا يَظْلِمُهُ ولا يَخْذُلُهُ، ولا يَحْقِرُهُ التَّقْوَى هاهُنا -ويُشِيرُ إلى صَدْرِهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ- بحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أنْ يَحْقِرَ أخاهُ المُسْلِمَ، كُلُّ المُسْلِمِ علَى المُسْلِمِ حَرامٌ، دَمُهُ، ومالُهُ، وعِرْضُهُ»، (رواه مسلم).

 

خامسًا: الأسس الإنسانية:

1- من التكريم {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلً} ا ﴾ [الإسراء:70].

 

2- والحرية {لَا إِكْرَاهَ فِي الدينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة:256].

 

3- والرحمة {وما أرسلناك إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].

 

سادسًا: الأسس الكونية:

1- من العلم {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ}، [العلق:1 - 4].

 

2- والملاحظة {قُلْ سِيْرُوْا فِيْ الأَرْضِ فَانْظُرُوْا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيْر} [العنكبوت:20]، {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس:101].

 

وقد استُبدلت تلك الأسس بأضداها: فمقابل العدل فشا الظلم {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ}، [هود: 18-19]، ومقابل معرفة الله بكمال صفاته معنًی ومقصدًا، وُجِد الجهلُ به، والاكتفاءُ بمعرفة صفاته اسمًا وصورة، ومقابل الشوری استُبدل بولاية الغلَبة والملك العاض الجبري، الانفراد بالحكم والاستبداد، قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «تكونُ النُّبوَّةُ فيكم ما شاء اللهُ أنْ تكونَ، ثُمَّ يَرفَعُها إذا شاء أنْ يَرفَعَها، ثُمَّ تكونُ خِلافةٌ على مِنهاجِ النُّبوَّةِ، فتكونُ ما شاء اللهُ أنْ تكونَ، ثُمَّ يَرفَعُها إذا شاء اللهُ أنْ يَرفَعَها، ثُمَّ تكونُ مُلكًا عاضًّا، فيَكونُ ما شاء اللهُ أنْ يكونَ، ثُمَّ يَرفَعُها إذا شاء أنْ يَرفَعَها، ثُمَّ تكونُ مُلكًا جَبريَّةً، فتكونُ ما شاء اللهُ أنْ تكونَ، ثُمَّ يَرفَعُها إذا شاء أنْ يَرفَعَها، ثُمَّ تكونُ خِلافةٌ على مِنهاجِ نُبوَّةٍ، ثُمَّ سَكَتَ»، قال حَبيبٌ: فلمَّا قام عُمَرُ بنُ عبدِ العَزيزِ، وكان يَزيدُ بنُ النُّعمانِ بنِ بَشيرٍ في صَحابتِه، فكَتَبتُ إليه بهذا الحديثِ أُذكِّرُه إيَّاه، فقُلتُ له: إنِّي أرجو أنْ يكونَ أميرُ المؤمنينَ، يَعني عُمَرَ، بعدَ المُلكِ العاضِّ والجَبريَّةِ، فأُدخِلَ كِتابي على عُمَرَ بنِ عبدِ العَزيزِ، فسُرَّ به وأعجَبَه، (أخرجه شعيب الأرناؤوط، في تخريج المسند، رقم الحديث:18406، وقال: إسناده حسن).

 

ومقابل القيم الأخلاقية استبدل بفقْد قيمة الإنسان والمسلم، وقد حذَّر الله تعالى من التهاون فيها {مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:32]، {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّه}، [التوبة:71]، وهدر الوقت، والوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك، وإن كان الوقت عند مَن يرونه قيمته بالمال؛ لأن في استغلاله درًّا للمال، فإن الوقت في النظر الإسلامي هو الحياة، فباستغلال الوقت يُفلح المرء في الدارين.

 

وما ترونه من أدلة عمارة الأرض في الإسلام {... اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ}، [هود: 61]، فالقصدُ الأساس منه عمارة الإنسان تربويًّا وفكريًّا وعقليًّا وإيمانيًّا، والاهتمام به والقيام بخدمته.

 

وما ترونه من كراهة تطاول البنيان وزخرفة العمران في الإسلام، سببُه ما ذهَب إليه جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ؛ إذ ذكروا أَنَّهُ يُكْرَهُ زَخْرَفَةُ الْمَسْجِدِ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، أَوْ نَقْشٍ، أَوْ صَبْغٍ، أَوْ كِتَابَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُلْهِي الْمُصَلِّيَ عَنْ صَلاَتِهِ، قَال ابْنُ عَبَّاسٍ: لَتُزَخْرِفُنَّهَا كَمَا زَخْرَفَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: «لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَبَاهَى النَّاسُ فِي الْمَسَاجِدِ»؛ينظر: حكم زخرفة المسجد وإنارته وفرشه بالبُسُط الفاخرة - (إسلام ويب).

 

فليس دلالتها على الكراهة بالقصد الأوَّلي منها لذاتها، وإنما لسببٍ آخر، وهو إلهاء المصلي عن صلاته التي هي مصدر إيمانه وتقواه، وطريق عروج رُوحه إلى مولاه {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}، البقرة:143، أي صلاتكم، ولذلك فكراهة ذلك سببها أنها ستكون علی حساب القصد الأول من عمارة الأرض، ومِن ثَم يورث تطاوُل البنيان وزخرفة المساجد والعمران قبل الاهتمام بالإيمان والإنسان - الإضرارَ بهم جميعًا.

 

وفلسلفة بنية الحضارة الإسلامية التي تعطي الأولوية لمعرفة الله، وبناء الإنسان على القيم والخلق والإيمان، قبل الاهتمام بالعمران المادي؛ لأن معرفة الله راجعة إلى الفكر والمعتقد الذي تُبنى عليه كرامة الإنسان واحترامه، والمعتقد يُعد من الضروريات الخمس التي يجب حفظُها، وهي (حفظ الدين، والنفس، والنسل، والعقل، والمال)، والاهتمام بالمعتقد والخلق والإيمان يقع في المرتبة الأولى، وبالتضمن يدخل الإنسان فيها، أما الاهتمام بالعمران المادي، فمتعلِّقٌ بالمال الذي يدخل ضمن الاهتمام بالأشياء بعد الأفكار والدلائل والبراهين التي هي من جملة حفظ الدين، وكذلك الاهتمام بالفكر والمعتقد والإنسان يقع في مرتبة الضروريات، بينما الاهتمام بجمال العمران يقع في مرتبة التحسينيات والتكميليات، ومعلوم أن الضروريات مقدَّمة على التحسينيات، وهي أصلٌ لها.

 

ولتأصيل القضية يُضرَب أنموذجُ الأنظمة والأحزاب السياسية في الدول العربية والإسلامية، فما نراه اليوم من ضَعفٍ في الحالة الإنسانية في تلك الدول، وخرمٍ في فكر المسلم ومعتقده ومنهج حياته، ومِن تقهقُر لاقتصاده ومَورد عيشه، ومن تخلُّف علمي وثقافي للأجيال المتعاقبة، ومن تفتُّت وضَعف في الأسرة، وانشقاق في المجتمع، فمصدره ومنشؤه أن تلك الأنظمة والأحزاب لم تُعطِ اهتمامًا بالأُسس العقدية والتشريعية التي مرَّت في الوصول عن طريقها إلى السلطة والبقاء فيها، والتربُّع على العرش، بل استخدمت كل الوسائل الموصلة إلى الحكم وإن كانت على حساب القيم والخلق والإيمان التي تُعطي الأهمية بالإنسان وتربيته والقيام بخدمته، ومن خلال تلك المنهجية يجب أن يوصل الإنسان إلى القوة والسلطة والحكم، الأمر الذي قامت به الأحزاب والهيئات والجهات السياسية الغربية في تعامُلهم مع السلطة والإنسان في آن واحدٍ، فسلِمت السلطة من الاستبداد والحكم الجبري الفردي، وسلِم الإنسان من الظلم والحيف والتخلف والتشرذم، إلا أن هناك جوانبَ خُلقية ما زالت مفقودة عندهم، وذلك لاختلاف البنية الفلسفية للحضارة الغربية عن الحضارة الإسلامية؛ إلا أن هناك مشتركات كثيرة جارية بينهما، ومنها احترام الإنسان وكرامته، وقيمة الوقت والإتقان في العمل، والصدق فيه، وأمور أخرى.

 

والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه.

_____________________________________________________
الكاتب: أمين حجي الدوسكي