محبة النبي صلى الله عليه وسلم
افترض اللهُ على كلِّ مسلم ومسلمة محبة النبي ﷺ فمَن قَصَّر في المحبة، قَصَّر في كمال الإيمان الواجب
افترض اللهُ على كلِّ مسلم ومسلمة محبة النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يكمل الإيمان الواجب إلاَّ بمحبته - صلى الله عليه وسلم - المحبة الكاملة، التي تُقَدَّم على محبة المخلوقينَ كلهم؛ فعن أنس قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يؤمن أحدكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من والده وولده والناس أجمعين»؛ (رواه البخاري (15)، ومسلم (44).
فمَن قَصَّر في المحبة، قَصَّر في كمال الإيمان الواجب، وإن كان معه أصل الإيمان؛ لأن الإيمان يتبعض، وقد جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث جميع أنواع المحابِّ، التي تكون بين الآدميينَ، فالناس يحب بعضهم بعضًا، إما لأجل الإجلال والتقدير - كمحبة الأب - أو محبة تحنن وشفقة - كمحبة الولد - أو محبة لأجل الإحسان وصفات الكمال القائمة بالمحبوب، فيجب للنبي - صلى الله عليه وسلم - كل أنواع المحاب؛ بل حتى يكون أحب منَ النفس التي بين جنبي الشخص؛ فعن عبدالله بن هشام، قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو آخذٌ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: "يا رسول الله، لأنت أحب إليَّ مِن كل شيء، إلا مِن نفسي"، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا، والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك»، فقال له عمر: "فإنه الآن، والله، لأنت أحبُّ إليَّ مِن نفسي"، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - «الآن يا عمر»؛ (رواه البخاري (6632).
فجواب عمر أولاً كان بحسب الطبع؛ لأنَّ العادة أنَّ الشخص لا يقدِّم غيره على نفسه، ثم تأمَّلَ عمر، فعَرَف بالاستدلال أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أحب إليه من نفسه؛ لكونه السبب في نجاتها منَ المهلِكات في الدُّنيا والآخرة، فأخبر بما اقتضاه الاختيار.
إخواني:
مِن مظاهر محبة النبي - صلى الله عليه وسلم -: طاعته في المنشط والمكره، واتِّباع سنَّته فعلاً وتَرْكًا؛ يقول ربنا - تعالى -: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31]، فهذه الآية حاكِمة على مَن يدَّعي المحبة، ويخالف هَدْيه وأمره - صلى الله عليه وسلم - فأعظم مظاهر المحبة الاتِّباعُ؛ لذا كان للصحابة النصيب الوافر من ذلك، فالواحد منهم لا ينتظر أمره - صلى الله عليه وسلم - بل يتابعه قبل أن يأمرَ؛ فعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلِّي بأصحابه، إذ خلع نعليه، فوضعهما عن يساره، فلما رأى ذلك القومُ ألقوا نعالهم، فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاته قال: «ما حملكم على إلقاء نعالكم» ؟، قالوا: "رأيناك ألقيتَ نعليك فألقينا نعالنا"، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ جبريل - عليه السلام - أتاني فأخبرني أنَّ فيهما قذرًا» - أو قال: أذى»، وقال: «إذا جاء أحدكم إلى المسجد، فلْينظُر، فإن رأى في نَعْلَيه قذرًا، أو أذى، فليمسحه وليصلِّ فيهما»؛ (رواه أحمد (10769) وغيره بإسناد صحيح).
وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أحيانًا يكتفي بالتلميح في كراهته الشيء عنِ التصريح، فتجد الاستجابة منَ الصحابة - رضي الله عنهم - فعن حكيم بن حزام - رضي الله عنه - قال: سألتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال: «يا حكيم، إنَّ هذا المال خضرة حلوة، فمَن أخذه بسخاوة نفس بُوركَ له فيه، ومَن أخذه بإشراف نفس لم يبارَكْ له فيه؛ كالذي يأكل ولا يشبع، اليد العليا خير من اليد السفلى»، قال حكيم: "فقلتُ يا رسول الله، والذي بعثكَ بالحق، لا أرزأ أحدًا بعدك شيئًا حتى أفارق الدنيا"، فكان أبو بكر - رضي الله عنه - يدعو حكيمًا - رضي الله عنه - إلى العطاء، فيأبَى أن يقبله منه، ثم إنَّ عمر - رضي الله عنه - دعاه ليعطيه، فأبَى أن يقبلَ منه شيئًا، فقال عمر - رضي الله عنه -: "إنَّي أشهدكم - يا معشر المسلمين - على حكيم، أنِّي أعرض عليه حقَّه مِن هذا الفيء، فيأبَى أن يأخذَه"، فلم يرزأ حكيم - رضي الله عنه - أحدًا منَ الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى توفِّيَ؛ رواه البخاري (1472)، ومسلم (1035).
أخي:
إذا أردتَ أن تعرفَ صدقك في كمال هذه المحبة من عدمه، فإذا تعارَضَ أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلاً أو تركًا مع غيره من المخلوقين، فإن قدمتَ أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - على غيره، دلَّ هذا على صِدْق المحبة، وإن قدَّمتَ هوى النفس وغير ذلك على أوامره - صلى الله عليه وسلم - دلَّ ذلك على نقص في المحبة الواجبة، ونقص في الإيمان.
ومن مظاهر محبة النبي - صلى الله عليه وسلم -: محبة مَن يحب النبي - صلى الله عليه وسلم - من آل بيته وأصحابه منَ المهاجرين والأنصار - رضي الله عنهم - وبُغض مَن يبغض منَ المنافقين وأعداء الدِّين؛ فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَن أحب الحسن والحسين، فقد أحبني، ومَن أبغضهما فقد أبغضني»؛ (رواه أحمد (10491)، وابن ماجه (143) بإسناد حسن.
ومِن مظاهر محبَّته - صلى الله عليه وسلم -: الشوق إلى لقائِه، وتمنِّي إدراكه، والشرف بِصُحْبته، وبذل الغالي للشرف بذلك لو أمكن؛ فعن أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «مِن أشد أمتي لي حبًّا: ناسٌ يكونون بعدي، يودُّ أحدهم لو رآني بأهلِه ومالِه»؛ (رواه مسلم (2832).
وبعدُ: فمِن مظاهر محبَّة النبي - صلى الله عليه وسلم -: إجلاله وتوقيره، ومن مظاهر إجلاله: عدم مُعارضة ما ثبت عنه بالرأي والنظر؛ بل يجب التسليم والانقياد لذلك؛ فعن سالم بن عبدالله بن عمر: أنَّ عبدالله بن عمر قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا اسْتَأْذَنَّكُمْ إليها»، قال: فقال بلال بن عبدالله بن عمر: "والله لَنَمْنَعُهُنَّ"، قال سالم: فأقبل عليه عبدالله، فسبَّه سبًّا سيئًا ما سمعته سبَّه مثله قط، وقال: "أخبرك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقول: والله لَنَمْنَعُهُنَّ"؛ (رواه البخاري (873)، ومسلم (442)، واللفظ له.
ومِن مظاهر إجلاله - صلى الله عليه وسلم -: عدم رفع الصوت عنده حيًّا أو ميتًا؛ لعموم قوله - تعالى -:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [الحجرات: 2،3]، قال ابن كثير في "تفسيره" (4 /207): "قال العلماء: يُكره رفع الصوت عند قبره - صلى الله عليه وسلم - كما كان يكره في حياته - عليه الصلاة والسلام - لأنه محترم حيًّا وفي قبره - صلى الله عليه وسلم - دائمًا". اهـ.
وهذا الذي فهمه الخليفة الراشد عمر بن الخطاب؛ فعن السائب بن يزيد قال: "كنتُ قائمًا في المسجد، فحصبني رجل، فنظرتُ فإذا عمر بن الخطاب، فقال: اذهب فأتني بهذينِ، فجئته بهما، قال: مَن أنتما؟ أو مِن أين أنتما؟ قالا: مِن أهل الطائف، قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم"؛ رواه البخاري (470).
عباد الله، مَن تأمَّل النفع الحاصل له من جهة النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي تسبَّب في إخراجه مِن ظلمات الكفر إلى نور الإيمان - عَلِمَ أنه سبب بقاء نفسه البقاء الأبدي في النعيم السرمدي، وعلم أن نفعَه بذلك أعظم من جميع وجوه الانتفاعات، فاستحق لذلك أن يكونَ حظُّه مِن محبة النبي - صلى الله عليه وسلم - أوفر من غيره؛ لأنَّ النَّفْع الذي يثير المحبة حاصل منه أكثر من غيره، والناس يتفاوَتُون في ذلك بحسب استحضار ذلك والغفلة عنه؛ فمنهم من أخذ من تلك المرتبة بالحظ الأوفى - جَعَلَنَا الله جميعًا منهم - ومنهم مَن أخذ منها بالحظِّ الأدنى، وهو المستغرق في الشهوات المحجوب في غفلته في أكثر الأوقات.
إخوتي:
مِن أسباب زيادة محبَّة النبي - صلى الله عليه وسلم - في القلوب: إيثاره على غيره، وطاعته في أمره ونَهْيه - كما تقدم.
ومِن أسباب زيادة محبَّة النبي - صلى الله عليه وسلم -: العناية بِسُنَّته تعلُّمًا وتعليمًا وعملاً، فالاشتغال بعلم الحديث، والوقوف على هديه وشمائله، ومعرفة ما خصَّه الله به مِن دون سائر الخلق مِن حُسن الخَلْق و الخُلُق، وكريم السجايا، وحميد الخِصال.
ومِن أسباب زيادة محبَّته - صلى الله عليه وسلم -: تذكره، وما له من فضل على هذه الأمة؛ حيث أخرجها الله به منَ الظُّلُمات إلى النور، وما تحمَّله في سبيل تبليغنا هذا الدِّين مِن أذى، ونصحه لأمته، فما مِن خير إلاَّ دَلَّنَا عليه، وما مِن شر إلاَّ حَذَّرَنا منه، والنَّفْس مجبولة على حبِّ مَن أحسن إليها مرة أو مرتين، فكيف بمن كانتْ حياته كلها نصحًا لأمته؛ تهذيبًا للنفوس، وتزكية لها، ودلالة على الخير، وتحذيرًا منَ الشر.
_________________________________________________
الكاتب: الشيخ أحمد الزومان
- التصنيف: