أوقاتنا بين الهدر والاستثمار (2)
ولم أرَ في عيوب الناسِ عيباً *** كعجز القادرينَ على التَّمام
أيها الأحبة الكرام: أجملُ بيتٍ سمعته وتأثرت به، قول المتنبي:
ولم أرَ في عيوب الناسِ عيباً *** كعجز القادرينَ على التَّمام
هكذا أيها الكرام، فنحن نستطيع، ولكننا لا نفعل، إمَّا عجزاً أو ضعف همةٍ، أو ربما عدمَ مبالاة.. ولقد زودنا المولى الكريم جلَّ جلاله بمهاراتٍ ومواهب عديدة، لو وفقَ المسلمُ أن يوظفَ القليل منها لتغير طعمُ الحياة في حسه، ولصنعَ فارقاً ضخماً لنفسه.. فبفضل الله وتوفيقهِ أولاً، ثم بقليلٍ منْ التفكير الموجَّه، والتَّخطيطِ المنظمِ، وشيء من الإرادةِ الجادةِ، سيتمكن كلُّ منا أن يوظفَ الكثير من مواهبه وامكانياته، ليصنعَ بإذن الله فارقاً كبيراً في ضبطه لنفسه، واستثماراً أمثل لموارده وأوقاته، وإنجازاً مميزاً لأهدافه وغاياته.. ولا والله ليس في الأمر مبالغةٌ ولا تهويل.. فالمسلم الموفق يستطيعُ بكل بساطة أن يعيد توظيفَ (نيته) ليكون سعيهُ وعمله وعمرهُ كلهُ لله، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162-163].. ومعاذ بن جبل رضي الله عنه يقول: إني لأحْتَسِبُ نَوْمَتي كما أحْتَسِبُ قَوْمَتِي.. وعلى هذا فالطالب (الموفق) يستطيع أن يُعيد توظيف (نيته) ليكون يومه الدراسي كله عبادة لله، وإنما يكفيه أن يقول (في سره) وقبل أن يدخل مدرسته: اللهم إني احتسب وقتي ودراستي في سبيلك.. وهكذا العامل في معمله، والموظف في مكتبه، والتاجر في متجره، وغيرهم، الجميع يمكنه ذلك.. والموفق من وفقه الله..
وقبل أن نبين اساليب استثمار الوقت بكفاءة، نذكِّرُ بأهم وأخطر أسباب ضياع الوقت لنتجنبها ونحذر منها: وأول ذلك: الغفلة: فالغفلة أشدُّ ما ضُربت به القلوب، الغافل يتخيل أنه يقتل الوقت، والحقيقة أن الوقت هو الذي يقتله.. الغفلةُ سهوٌ وإهمالٌ وعدم مبالاة ينتج عنه إعراضٌ وتفريط، تأمل: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء: 1]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179]..
وثاني الأسباب: الكسل: فالكسل من أكبر مضيعات الوقت، ومن أشد أعداء النجاح، والشاعر يقول:
الفوز بالجِدِّ والحِرْمَان في الكَسَلِ *** فانصبْ تُصِبْ عن قريبٍ غايةَ الأملِ
قد هياؤك لأمر لو فطنت لـــــــــه *** فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمـــــــل
وثالث الأسباب: الانشغال بالتوافه: فلو تأمل العاقل قليلاً فسيدرك أن الانشغال بالأمور التافهة هو الذي يصرفه عن تحقيق الأمور العظيمة والرائعة، ومن باع الياقوت بالحصى فهو لا شك مغبونٌ خاسر..
ورابعها: العشوائية وعدم التخطيط: فمن يفشل في التخطيط، فكأنما خطط للفشل..
وأما كيف نستثمر أوقاتنا بكفاءة وفاعلية.. فإن هناك عدة مهامٍ أساسيةٍ ينبغي التعود عليها أولاً.. وما من مهمةٍ أساسيةٍ إلا وتتطلبُ في بدايتها نوعاً من التدريب والصبر والمجاهدة، حتى يألفها المرء ويتعود عليها، فتكونُ جزءاً سهلاً من حياته يمارسهُ بعفوية وتلقائية..
وأول هذه المهام الأساسية وأهمها: تحديد الأهداف بدقة: فإنما يصِل أصحاب الأهداف المحددة.. لأنهم يعرفون وجهتهم، وما يتطلبُه الأمرُ منهم، وكلما كانت الأهدافَ واضحةَ اختفت العقباتِ، وتقلصت الأوقات.. بل إنَّ الخُبراء يقولون: إنَّ هُناكَ قوةً مَعنويةً يَشعُرُ بها كُلُّ من تمكَّنَ من تَحديدِ أهدافِهِ بدقةٍ، هذه القُوةُ تُعينهُ بإذن اللهِ على تركيزِ طاقاتِهِ، وتَوحِيدِ جُهودِهِ، فيسلَمَ من الفَوضَويَةِ والتَّشَتُّتَ.. والقاعدة تقول: أن من وضع هدفاً واضحاً ومحدداً فلن يُعدم الحيلة لتحقيقه.. ومن لم يضع له أهدافاً فهو كالمسافر الضائع، لا أرضاً قطع، ولا دابةً أبقى..
وبعد تحديد الأهداف يأتي ترتيب الأولويات: فإذا تعددت الأهداف فالأهم أولاً.. فتوضع كل مُهمةٍ في موضعها المناسب، فلا يؤخر ما حقه التقديم، ولا يقدم ما حقه التأخير، ورغم بساطة الأمر إلا أن ترتيب الأولويات من أهم وسائل إدارة الوقت بشكل فعال.. فعندما يُستنفذُ الوقت في أعمالٍ ذاتُ أولوية أقل، فسيكون ذلك على حساب ما هو أولى وأهم، ولذا فلا بدَّ من ترتيب الأولويات..
وثالثاً: التخطيط الجيد: فكل عملٍ منظمٍ له مردودٌ مضاعف، وكل دقيقةٍ تُستثمرُ في التخطيط والتنظيم، توفرُ عشرات الدقائق عند التنفيذ.. والتخطيط والتنظيم يضمنُ الدقة والانضباط، ويقللُ الهدر والخسائر، كما أنه يخففُ من ضغط العمل وإرهاقه..
ومن الأمور المشجعة أن عملية التخطيط لاستثمار الوقت عمليةٌ سهلة جداً، لكن الكثيرين يهملونها لعدم التعود كما ذكرنا أو جهلاً بأهميتها وعظيم فوائدها..
إنها خمس خطوات بسيطة.. يمكن جمعها في قولك: (حرز جن).. وبيانها على النحو التالي:
(ح): تحديد وحصر المهام التي ينبغي القيام بها..
(ر): ترتيب تلك المهام حسب الأهمية والأولوية..
(ز): تزمين كل مهمةٍ واعطائها وقتاً تقريبياً (بما في ذلك وقت الذهاب والعودة)..
(ج): جدولة المهام (ضعها في جدول يرتبها، ويبين وقت بداية التنفيذ ونهايته).
(ن): تنقيح الجدول إلى أن يصبح بصورة نهائية مناسبة، ثم البدء بالتنفيذ على بركة الله...
وميزة التخطيط أنّه يقود الانسان من الوضع الحالي إلى الوضع المرغوب، بأقل تكلفة، وأفضلِ مردود.. وقد دلت الدراسات المتخصصة أنّ التخطيط والتنظيم الجيد، يضمن تحقيق الهدف بالصورة النموذجية، مع استبعاد كل ما هو غير ضروري، وبالتالي يقل أو ينعدم هدر الأوقات والموارد والتكاليف..
اعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28]..
معاشر المؤمنين الكرام: إضافة لما سبق فهناك عدة مفاهيم أساسية ينبغي الاهتمام بها.. أولها وأهمها:
احترام الوقت: وهو يشير إلى مدى الوعي بأهمية الوقت، وإلى مقدار ما نملك من الجدية والرغبة والاهتمام في تنظيم الوقت وتوظيفه، وحسن استثماره، وإذا كان فاقد الشيء لا يعطيه، فكيف سندير أوقاتنا بكفاءة وفعالية، ونحن لا نحترم الوقت ولا نشعر بأهميته.. واعلم أنه ليس بمقدور أحدٍ أنْ يعودَ ليصنعَ بدايةً جديدةً.. ولكنَّ الجميع يمكنه أنْ يبدأَ اليومَ بداية قوية جادة، ليصنعَ فارقاً كبيراً، ونهايةً جميلةً.. وليس هناك وقتٌ متأخر، فكل الأوقات مناسبة، المهم أن نبدأ قبل فوات الأوان..
وثانيا: ضبط النفس والتحكم بها: والنفس كالطفل إن تتركه شب على حب الرضاع وان تفطمه ينفطم.. فإدارة الذات قبل إدارة الأوقات: فعندما يتمكن المرء من إدارة نفسه وضبطها والتحكم بها، فسيجد أن الوقت ينتظم معه طواعيةً، بينما إذا عجز عن إدارة نفسه فسيجد أنه يدور في حلقة مفرغة، وبلا جدوى.. فإما أن تدير ظروفك، وإما أن تُديرك ظروفك.. إما أن تُدير، وإما أن تُدار.. والأمر إليك فما الذي ستختار..
وثالثها: الاعتناء بصحة الجسد.. فاستثمار الوقت يتطلب جسداً سليماً ونشاطاً دائما، ومعنى ذلك أنه لا بد من رياضة مناسبة، ولا بد من الاعتناء بنوعية الغذاء..
ورابعها: المتابعة والمراقبة وتقييم الانجازات.. وهو أمرٌ سهل ولا يستغرق وقتاً، لكنه يضمن استمرار السير في الطريق الصحيح، ويشعر بالرضا والطمأنينة، ويمنح المزيد من الثقة..
وأختم بمجموعة من القواعد العامة والنصائح الهامة لتحسين استثمار الوقت وتنظيمه.. النصيحة الأولى:
يقول الصحابي الجليل ابن مسعود رضي الله عنه: تعوَّدُوا الخيرَ.. فإنْ الخيرَ عادةٌ..
والثانية: الصاحب ساحب.. فإذا كنت في قومٍ فصاحب خيارهم.. ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي.. عن المرء لا تسل وسل عن قرينه.. فكـل قريـنٍ بالمقــارن يقتــدي..
والثالثة: يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: منْ اعتادَ التسْبيحَ قبلَ نومهِ.. أُعطيَ نشاطاً في قضاءِ أمورهِ، وقوةً في عبادتهِ..
والرابعة: قللْ منْ الوقت الذي تقضيهِ مع لصوص الوقت، كشاشةِ النتِ ومجالس الثرثرة، وعاتبْ نفسك كثيراً إذا أطلتَ المكوثَ، فإن لم يجدي فأدبها بالصدقة أو بصلاة ركعتين..
والخامسة: كن ذكياً واستثمر ما تملكه من أجهزة ذكية في توفير الوقتِ بدلاً منْ تبديده..
والسادس: لا تضيعْ وقتكَ في الرد على منتقديك، فلنْ يرضوا، ولنْ يتوقفوا..
والسابعة: استثماراً لأيِّ وقت فراغٍ قد يمر بك، جهز مجموعة من المهام والأعمالِ البسيطة، التي تتطلب وقتاً قصيراً وجهداً قليلاً..
والثامنة: تعود أن تخطط لكل يوم من ليلته السابقة، ولكل اسبوع من اليوم الذي يسبقه..
والتاسعة: اعلم أن أسهل طريقة لإدارة الوقت هي: أن تفعل كل شيء في الحال، وأن لا تؤجل عمل اليوم إلى غيره.. وإذا كنت ذا رأيٍ فكن ذا عزيمة.. فإن فساد الرأي أن تترددا..
والعاشرة: اعلم أن أعظمَ استثمارٍ للوقت: هو الاستثمار في الخير المتعدي والنفع الجاري، فعظيمُ الهمةٍ لا يفكًرُ بملءِ وقتهِ بالحسنات فقطْ.. بلْ وبأنْ لا تتوقفَ حسنَاتهُ بعدَ موته.. ففي صحيح مسلم، قال صلى الله عليه وسلم: مَن دعا إلى هدًى، كان له من الأجر مثلُ أجور مَن تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا.. وفي صحيح مسلمٍ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مات الإنسان، انقطَع عنه عملُه إلا من ثلاثةٍ؛ إلا من صدقةٍ جاريةٍ، أو علمٍ ينتفع به، أو وَلَدٍ صالحٍ يدعو له» .. لكأنه بذلك يضيفُ إلى عمره أعماراً أخرى.. أو لكأنه يعملُ في الوقت الواحد أعمالاً كثيرة، و {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة: 4]..
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ...} [الصافات: 180-182]..
__________________________________________________________
الكاتب: الشيخ عبدالله محمد الطوالة
- التصنيف: