إذا ضاع الإيمان فلا أمان
إن الذي عنده الإيمان يتحكم في أهوائه، يتحكم في عاداته، يتحكم في موروثاته، يكون هو السيد، لا يخضع إلا لخالقه، ولا يخشع إلا لبارئه، أما إذا فقد الإيمان، تحكمت فيه هذه الأشياء كلها، فأصبح طوع إرادتها ينحط حتى الهلاك، ويتدنى حتى الفناء.
أيها المسلمون عباد الله، ذبحٌ وقتل، فُسوقٌ وعقوق، فجر وكفر، غش وخداع، كذب ونفاق، تدليس ومكر، شِجار وانكسار وانتحار، قطع الأرحام وقهر الأيتام، أمراض مستعصية تنتشر في المجتمع انتشارَ النار في الهشيم.
شاب يذبح زميلته بدم بارد في وضح النهار أمام المارة في عرض الشارع، وشاب آخر يتخلص من حياته بطريقة بشعة تاركًا وصية، مفادها أن أباه لا يمشي في جنازته، وثالث يقفز في النيل من أعلى الجسر، ورابع يسقط نفسه من الدور الرابع فتختلف أضلاعه ويفقد أعضاءه، وخامس يحرق زوجته بالنار ويستولي على أموالها، ويهرب، وغيرهم كثيرون فقدوا إيمانهم ففقدوا صوابهم وزهقت أنفسهم، ماذا حدث؟
أين الإيمان؟ أين القرآن؟ أين الدين؟ إذا ضاع الإيمان، فلا أمان، ولا دنيا لمن لم يحي دينًا.
في غياب الإيمان يتحول البشر إلى جِرْذَان.
أيها المسلمون، إذا غاب الإيمان ابتعد الرحمن، وإذا ابتعد الرحمن حضر الشيطان؛ كيف وقد قال ربنا: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36]؟
وإذا حضر الشيطان، كان النقصان والخسران.
كيف وقد قال ربُّنا: {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا * يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [النساء: 119، 120].
إذا غاب الدين، ذهبت معه الدنيا، بكل زهرتها، بكل زخرفها، بكل ملذاتها، بكل شهواتها، إذا مات الدين، فلا معنى للأموال ولا الجاه، ولا السلطان ولا الأطيان.
أما الذي يملك الإيمان، تجده يملك الدنيا ولا تملكه، تحيطه النعمة ولا تبطره، تحاصره النوازل ولا تقهره، يخرج من ضيقه وشدائده أكثر إيمانًا وأعظم صمودًا، وأوسع صدرًا؛ كالذهب الأصيل إذا وُضع في النار، فإنه يخرج منها أعظم بريقًا، وأكثر لمعانًا.
أما إذا خالط الإيمان بشاشة القلوب، فلا يمكن للعبد أن يتخلى عن دينه، أو أن يرتد عن عقيدته، أو ينسلخ عن مبادئه، مهما كانت الأسباب، ومهما بلغت المغريات، مهما تنوعت طرق الإغراء أو تعددت سبل الإغواء؛ ولذلك قال هرقل لأبي سفيان كما في البخاري: ((... وسألتك: هل يرتد أحد منهم سخطًا على دينه بعد أن يدخل فيه؟ فأجبت: لا، وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب...)).
عباد الله: إذا تخلى الإنسان عن الإيمان، فإنه يأتمر بأمر الشيطان، لا يعطي لعقله فرصة التفكير، ولا لقلبه منحة التروِّي، ولا لنفسه مكانة للتأني، أي وسواس من الشيطان، وأي أمر يأمره به ينساق إليه دون تردد، ويترك أوامر الله وراء ظهره، فما أن تدعوه شهوة، أو نزوة، أو إلى ما حرم الله إلا ينساق إليها على الفور.
تجده إذا سمع كلام الله، شعر بالضيق؛ لأنه والى الشيطان من دون الله، وآثر أوامر الشيطان على أوامر الله سبحانه، فكانت أولى نتيجة لذلك الاتباع هي الخسارة، ومن يتخذ الشيطان وليًّا من دون الله، فقد خسر خسرانًا مبينًا.
وعندما يختار الإنسان الباطل بإرادته، ويترك الحق بإرادته، يرسل الله إليه شيطانًا فهو له قرين، يصده عن طريق الحق، ويبعده عن الصواب، حتى لا يراه أبدًا، ومن ثَمَّ يتخبط في صحراء الباطل، يضع على عينه غشاوة، فيرى الحق باطلًا والباطل حقًّا، ويعيث في الأرض فسادًا، فيهلك نفسه قبل أن يُفسِدَ مجتمعه.
قال الله تعالى: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} [فصلت: 25].
أيها المسلمون، طريق الهدى معروف، وسبيل الحق مكشوف، والصراط المستقيم معلوم؛ {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153].
فمن حاد عن الطريق، وضل السبيل، وجانب الصراط، هلك بين السبل الأخرى، وعاش حياة الضنك والشقاء، كيف وقد قال ربنا: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 123، 124].
ومن ثَمَّ تجد أن المجتمع تحول إلى غابة، يأكل القوي فيه الضعيف، ويتهم الوضيع فيه الشريف، يتحول الجاني إلى ضحية، والضحية إلى جانٍ، ويختلط الحابل بالنابل إلا ما رحم ربي.
وهنا تتلاشى الفضائل، ويعِجُّ المجتمع بالرذائل، ماذا حدث؟ هذا زرع زرعناه بأنفسنا، وغرس غرسناه بأيدينا، واليوم نجني حصاد ما زرعناه، ونحصد ثمار ما غرسناه، لماذا؟
عباد الله: صعبنا طريق الرحمن، وسهَّلنا طريق الشيطان، انتشار العُرْيِ والفجور والفن الهابط، تركنا الفسق يموج موجًا في جنبات المجتمع، لم يكن هناك رادع للجناة والمفسدين، لم نرفع قدر القرآن كما ينبغي، لم يُرحَم الصغير ويُوقَّر الكبير، نسيء إلى العلماء والدعاة والمعلمين على مدار اليوم، فهذا حالنا، وهذا ما وصلْنَا إليه؛ قتلٌ لا تعرف ما سببه، وعلى ماذا؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده، لا تذهب الدنيا حتى يأتي على الناس يوم لا يدري القاتل فيمَ قتل، ولا المقتول فيم قُتِلَ، فقيل: كيف يكون ذلك؟ قال: الهَرْجُ، القاتل والمقتول في النار»؛ (رواه مسلم).
وعنه رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى يُقبَضَ العلم، وتكثر الزلازل، ويتقارب الزمان، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج، وهو القتل القتل، حتى يكثر فيكم المال فيفيض»؛ (رواه البخاري ومسلم).
إن الذين تخلَّوا عن الإيمان، وقعوا في الفتن ما ظهر منها وما بطن، إنهم حيارى مفتونون؛ كما قال رب العالمين في الحديث القدسي: «لقد خلقت خلقًا ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمَرُّ من الصبر، فبي حلفتُ لأتيحنَّهم فتنةً تَدَعُ الحليم منهم حيران، فبي يغترون، أم عليَّ يجترئون» ؟))؛ (رواه الترمذي عن ابن عمر).
أيها المسلمون، الإيمان يأخذ صاحبه إلى الذكر، والذكر اطمئنان: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28].
الإيمان استقرار القلوب، ونور الجباه، وزاد الحياة، الإيمان علاج لكل داء، ومورد عطايا السماء، وأرض خصبة لإجابة الدعاء، من رُزق الإيمان فهو المرحوم، ومن فقد الإيمان فهو المحروم.
والمرزوق بالإيمان يحيا سعيدًا رغم الفتن، بل يخرج من الفتنة كما تخرج الشعرة من العجين؛ عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن السعيد لمن جُنِّب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، ولمن ابتُلي فصبر فواهًا»؛ (رواه أبو داود).
إذا كنت في حماية المال، فأنت محروم، فالمال يفنى، وإذا كنت في حماية السلطان، فأنت مغبون، فالسلطان يزول، {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 27].
وإذا كنت في حماية رئيس أو أمير أو وزير، فأنت مهدد؛ فقد يمرض الرئيس، وقد يستقيل الأمير، وقد يموت الوزير، أما إذا كنت في حماية السماء، إذا كان حاميك هو الله، فإن الله حي لا يموت، إذا كان وليك الله، فإن الله باقٍ لا ينتهي، وهو تعالى يخرجك من الظلمات إلى النور، كيف وقد قال ربنا: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة: 257].
بالإيمان القوي تتحدى الشدائد، مهما عظُمت، وتنتصر على الخطوب مهما كبُرت، وتتفوق على الأعداء مهما كثُرت، وتكابد اليأس مهما تعاظم، وتنتصر على القنوط مهما كبر، وبغير الإيمان يتخبط الإنسان، حتى يصل لدرجة أدنى من درجة الحيوان، يسرق وينهب ويزني ويقتل نفسه أو يقتل غيره؛ عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا أن بين يدي الساعة الهَرْجَ، قيل: وما الهرج؟ قال: «الكذب والقتل»، قالوا: أكثر مما نقتل الآن، قال: «إنه ليس بقتلكم الكفار، ولكنه قتل بعضكم بعضًا، حتى يقتل الرجل جاره، ويقتل أخاه، ويقتل عمه، ويقتل ابن عمه»، قالوا: سبحان الله! ومعنا عقولنا؟ قال: «لا، إلا أنه ينزع عقول أهل ذاك الزمان، حتى يحسب أحدكم أنه على شيء، وليس على شيء»؛ (رواه أحمد في مسنده).
عباد الله، إن الذي عنده الإيمان يتحكم في أهوائه، يتحكم في عاداته، يتحكم في موروثاته، يكون هو السيد، لا يخضع إلا لخالقه، ولا يخشع إلا لبارئه، أما إذا فقد الإيمان، تحكمت فيه هذه الأشياء كلها، فأصبح طوع إرادتها ينحط حتى الهلاك، ويتدنى حتى الفناء.
عندما يتلذذ العبد بالطاعات، ويتحمل المشاق في سبيل الله، وتفضيله ذلك على الدنيا، فهو يتذوق طعم الإيمان في قلبه، كما يتذوق لذة الطعام في فمه، راضيًا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًّا ورسولًا؛ يقول عليه الصلاة والسلام: «ذاق طعم الإيمان من رضِيَ بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولًا».
إن عباد الله المخلصين يزين الله الإيمان في قلوبهم ويحببه إليهم: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 7].
ومن ثَمَّ يَرَون الوجود جميلًا، والحياة رائعة يشعرون بالغبطة، يدفعهم إيمانهم إلى فعل المأمور، وترك المحظور، والصبر على المقدور.
الإيمان بستان في صدر الإنسان، عندما يكون عدوًّا للشيطان، عبدًا للرحمن؛ قال العلامة ابن تيمية رحمه الله تعالى: "بستاني في إيماني، وإيماني في قلبي، وقلبي في صدري، إن قتلوني فقتلي شهادة، وإن سجنوني، فسجني خلوة، وإن نفَوني فنفيي سياحة".
الإيمان أنسٌ وثبات، وثقة واطمئنان، هذه امرأة غاضَبَها زوجها قائلًا لها: لأشقينك، قالت: لن تستطيع، قال كيف قالت: سعادتي في إيماني، وإيماني في قلبي، وقلبي لا سلطان عليه غير ربي.
الإيمان يُشعِرُ الإنسان أن الله هو الغني الحميد، أن الله هو اللطيف الخبير، وأن الله هو الرحمن الرحيم، وهنا تستقر النفس وتطمئن لِما يصيبها من خير أو شر، وهي في طريقها إلى الله، فلا تطير جزعًا، ولا تبطر فرحًا، ولا تشتاط غضبًا، لا تيأس ولا تقنط، وهي تواجه الضراء والسراء، ولا تشرك بالله سببًا ولا ظرفًا ولا حدثًا، فكله بقدر مقسوم لأجل معلوم، ومصير محتوم، ومرد الأمر كله في النهاية إلى الله؛ {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123].
إن أحسن شيء الإيمان، وأقبح شيء الكفر بعد الإيمان؛ روى الإمام ابن كثير في تفسيره قال: "لما وهب الله لداود سليمانَ، قال: يا بني، أي شيء أحسن؟ قال: سكينة الله والإيمان، قال: فأي شيء أقبح؟ قال: كفر بعد إيمان، قال: فأي شيء أحلى؟ قال: روح الله بين عباده، قال: فأي شيء أبرد؟ قال: عفو الله على الناس، وعفو الناس بعضهم على بعض.
إنه الإيمان الذي وقر في القلوب، الإيمان الذي تطيش الجبال ولا يطيش.
إن امرأة سمعت أن رجلًا يسبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبت عليه وقاومته، حتى الرمق الأخير في حياتها، أبت - وهي تحت التعذيب - أن تسب رسول الله أو أن تنسلخ عن الإسلام، فتفلت في وجه الملعون أبو جهلٍ، فضربها بحريته في مكان عفتها، فلقيت سمية بنت ياسر ربها أول شهيدة في الإسلام، لكنها تركت للأجيال اللاحقة شجرة الإيمان خفَّاقة عالية تترعرع مع الأيام، وتزداد روعة وجمالًا ونضارة.
كان السحرة قبل إلقاء موسى عصاه كفارًا ضلالًا، يطلبون المكافأة عند فرعون، فإذا بموسى يُلقِي عصاه، فما هي إلا أن عرفوا أن ذلك من عند الله، فخروا ساجدين لله، مؤمنين به، لا يتركون دينهم الجديد، حتى وإن قطع فرعون أيديهم وأرجلهم من خلاف، وصلبهم في جذوع النخل، فقد انتهى الأمر، وذاقوا حلاوة الإيمان، فقالوا: {لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه: 72].
أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فيما ذكره ربنا تبارك وتعالى في سورة البروج عن ثبات أصحاب الأخدود، وتفوقهم على كل أنواع التعذيب حتى الحرق في الأخاديد، ما جرفهم عن دينهم، وما أبعدهم عن مبادئهم، وما أثناهم عن حقهم؛ قال تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [البروج: 4 - 9].
وهذه الخنساء رضي الله عنها، وقد مات ولدها وزوجها ووالدها وأخوها في غزوة أحد، فلا تبالي في أنها تسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قيل: هو بخير، قالت: أرينه، فلما رأته، قالت وقلبها مفعم بالإيمان: كل مصيبة بعدك جَلل يا رسول الله؛ أي: هينة.
أيها المسلمون، الإيمان ينير طريق الأغنياء والفقراء على السواء، والأحرار والعبيد، رجال ونساء، تجدهم بإيمانهم يخرجون من الفتنة، كما تخرج الشعرة من العجين، إن أهل الإيمان يضحون بأنفسهم في سبيل هذا الدين، ويتحملون أنواع الأذى في سبيل إظهار دعوتهم، والصبر والثبات عليها، وكيف تغلبت بشاشة الإيمان، وحلاوة الإسلام، على ظلمات الجهل، ودركات الجاهلية.
الإيمان حياة المجاهدين في كل الميادين، والمرابطين على كل الثغور، والمقيدين المكبلين في غياهب الظلم والظالمين، صبروا بإيمانهم، واحتسبوا حتى أرضاهم الرحمن، ورفع قدرهم الإيمان.
وصدق الله: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 122].
أيها المسلمون عباد الله، الإيمان نور في الدنيا؛ {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52].
والإيمان نورٌ في الآخرة، يسعى للمؤمنين، يضيء طريقهم ويخبرهم بمصيرهم: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الحديد: 12].
هذه آيات تنير القلوب، تضيء البصيرة، وتشرح الصدر، تزيد من الخشية والرهبة، وتدفع إلى الرغبة الحية في التوجه إلى الله، والإخلاص له، والركون إليه، والتجرد من الأثقال المعوِّقة عن تلبية الحق وأهله، إنها الصورة الوضيئة للمؤمنين والمؤمنات، يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم، وتلك الصورة التي تقرر ضآلة الحياة الدنيا وقيمها إلى جانب قيم الآخرة؛ {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 17].
إن الإيمان يشد أصحابه إلى الآخرة، ويحببهم في لقاء ربهم، والنظر إلى وجهه الكريم؛ {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88، 89]، فتهون عليهم الحياة الدنيا، فإذا عرفوا قيمة هذا الدين، عملوا له، واعتزوا به، وافتخروا بتعاليمه، وبذلوا أرواحهم في سبيله.
إن طريقهم نور، وحياتهم نور، ومصيرهم نور، يبتعدون عن كل مصيبة غبراء، وينتصرون على كل فتنة ظلماء، كيف لا وربهم نور؛ {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور: 35]؟
كيف لا ونبيهم نور؛ {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [المائدة: 15]؟
كيف لا وقرآن ربهم نور {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا} [التغابن: 8]؟
ومن لم يستنِرْ قلبًا وقالبًا، جوهرًا ومظهرًا، بذلك النور فما له من نور؛ {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40].
اللهم حبِّب إلينا الإيمان، وزيِّنه في قلوبنا، واجعلنا من الراشدين.
_____________________________________________________-
الكاتب: خميس النقيب
- التصنيف: