خير من الدنيا وما فيها

منذ 2022-09-08

«ركعتا الفجر خيرٌ مِن الدنيا وما فيها»، فالله أكبر، تأمَّلوا لو أنَّ هذا الإنسان الذي يحافظ على هاتين الركعتين في كل يوم، فمعنى ذلك أنه سيكون كالذي ملَكَ أموال الدنيا وكنوزها، سيجدُه رصيدًا يسرُّه أن ينظر إليه وأن يوافيه، وأن يجده في صحائفه يوم يَلقَى الله جل وعلا.

أيها الإخوة الكرام، أرأيتُم لو أن إنسانًا سافَر مِن مكان إلى آخر لأجْل دراسة أو عمل أو غير ذلك من الحاجيات، ذهب إلى بلد آخر لهدف كبير ومقصد محدَّد، أرأيتُم لو أنه اشتغل ببعض جوانب الأمور، وجعل تركيزَه عليها وأخلَّ بهذا المقصد الذي يريده، ألا يُعتبر بهذا مفرِّطًا تفريطًا عظيمًا، فعلى سبيل المثال: لو أن شخصًا جاء إلى هذه المدينة أو تلك لأجْل أنه متخصص في مجال معين، ويؤدي وظيفة محددة، وبطبيعة الحال وبالنظر إلى حاجاته الحياتية فلا بدَّ أن يوفِّر طعامًا وشرابًا وغير ذلك من حاجيات الحياة، لكنه لو وُجد إنسانٌ صار همَّه أن يوفِّر الطعام فيُمضي في ذلك نصف الوقت، ثم النصف الآخر يمضيه ما بين تناوله وما بين نوم، وترَك ما جاء مِن أجْله، فإنه ولا شكَّ في عُرف جميع العاقلين أنه ما أدَّى ما أريدَ منه، وإنما فرَّط وضيَّع تضييعًا كبيرًا، وهكذا حالنا في هذه الحياة الدنيا، المقصد محدَّد وواضح وبيِّن كما أمر الرب جل وعلا، وهو عبادته سبحانه والاستعداد للقائه حتى ينال الإنسانُ جوارَ ربه جل وعلا في جَنَّة عرضها السماوات والأرض، لكن المشكلة الكبرى أن كثيرًا من الناس وقف مع هذه الحياة الدنيا، وجعل همَّه أن يستمتع فيها بكل أنواع المتع حلالًا كانت أو حرامًا، وضيَّع أوامر ربه، ولا شك أنه إذا أدرك الحقيقة، وعاين المواجهة، ورأى الاستعدادَ، ورأى اللحظاتِ الأولى للانتقال إلى الحياة الآخرة قال مقولةً تتكرَّر على الألسُن لدى كل مَن يُغادر هذه الحياة الدنيا {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون: 99، 100]، بل إنَّ كل مغادِر لهذه الحياة الدنيا يتمنَّى الرجعة إليها سواء كان محسنًا أو مسيئًا، قال عليه الصلاة والسلام: «ما مِن ميٍّت يموت إلا تمنَّى الرَّجْعة إلى الدنيا، إنْ كان محسنًا أن يزداد، وإنْ كان مسيئًا أن يَسْتَعْتِبَ»؛ لأجل أن يتوب ويرجع إلى ربه سبحانه.

 

ونبيُّنا صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما كان يلفتُ الأنظار إلى هذه المسألة الكبرى، ومن ذلك ما ثبت في صحيح مسلم عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «رَكْعَتَا الفَجْر خيرٌ مِن الدنيا وما فيها»، وفي رواية:  «لَهُمَا أَحَبُّ إليَّ مِن الدنيا جميعًا».

 

فتأمَّلوا أيها الإخوة الكرام في هذه اللفتة العظيمة، والحقيقة الكبيرة، يقول المعصومُ صلى الله عليه وسلم: «رَكْعَتَا الفَجْر...»: أي السُّنَّة الراتبة، خير وأفضل من الدنيا وما فيها؛ يعني: خير مِن متاع الدنيا كله، وقيل: خير مِن إنفاق مال الدنيا في سبيل الله.

الله أكبر، هذا في شأن الراتبة، السُّنَّةِ غيرِ الواجبة، فما بالكم في الفريضة نفسها.

 

«ركعتا الفجر خيرٌ مِن الدنيا وما فيها»، فالله أكبر، تأمَّلوا لو أنَّ هذا الإنسان الذي يحافظ على هاتين الركعتين في كل يوم، فمعنى ذلك أنه سيكون كالذي ملَكَ أموال الدنيا وكنوزها كلها يومًا بعد يوم، فهو صاحب ثروة عظيمة، وصاحبُ كنز كبير، سيجدُه رصيدًا يسرُّه أن ينظر إليه وأن يوافيه، وأن يجده في صحائفه يوم يَلقَى الله جل وعلا.

 

أيها الإخوة الكرام، إن هذه اللفتة من النبي صلى الله عليه وسلم لتؤكِّد على أن الإنسان يجب أن يعتني غاية العناية بهذا الرصيد، هما رصيدان؛ رصيد في هذه الحياة الدنيا، ورصيد آخر للإنسان يكون كشْفه والاطلاع عليه يوم يلقى الله جل وعلا، ذلك أن الآخرة ولا شك أفضَل من الدنيا، لأن متاع الدنيا مهما كثُر ومهما عظُم فإنه يزول وينفد، وأما الآخرة فإن نعيمها باقٍ أبد الآباد، يقول الله جل وعلا: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل: 96]، فالعاقل مَن لم تشغله الفانية عن الباقية، بل العاقل مَن يُقبل على ما فيه صلاح آخرته مع قيامه بما يحتاج إليه مِن أمر معاشه ودنياه، قال الله جل شأنه: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77]، وتأمَّل هذا البناءَ اللغوي والدلالة العميقة في هذه الآية الكريمة {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}، النصيب مِن الدنيا شيءٌ جانبي، أما الهمُّ الأكبر فإنه لما يواجهه الإنسان في الدار الآخرة، هكذا الشخص الذي جاء إلى مكان لدراسة أو عمل فإنه همُّه عمله، وهمه دراسته، لكن حتى يستطيع أن يقوم بذلك يهيِّئ ما يحتاج إليه مِن أمر المعاش؛ من طعام وشراب وكساء ومسكن وغير ذلك، لكنه لا يجعل مقصده هذه الأمور وإلا فإنه سيضيع ويضيِّع ما جاء من أجله.

 

أيها الإخوة الكرام، إنَّ تأمُّل الإنسان في أنواع من هذه الكنوز التي ترفع رصيده في الدار الآخرة يجعله مثابرًا حريصًا متحفِّزًا على كل ما يزيد في هذا الرصيد العظيم، ولذلك كان السلف رحمهم الله مِن الصحابة والتابعين ومَن بَعدهم، كانوا أحرص ما يكونون على أن يكون مسابقتُهم للأعمال الصالحة التي لها الثواب العظيم والعطاء الجزيل من الله سبحانه وتعالى.

 

وحتى نُشبِّه الحال، اليوم كثير من الناس الذين يتعاطون التجارة والبيع والشراء إذا سمعوا بفرصة مِن الفرص وجدوا فيها ربحًا كثيرًا، تتابع الناس عليها، وقلَّد التجارُ بعضُهم بعضًا فيها، لكن الذين وضعوا أعينهم على الربح الأعظم والفوز الأكبر مِن الصحابة ومَن بعدهم كانوا أحرص شيء على العمل الصالح، فإذا سمعوا عملًا صالحًا تسابقوا إليه وحرصوا على أن يقوموا به، وكمثال على ذلك: جاء بعض الصحابة مِن الفقراء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشكَوْا إليه مشكلةً كبرى، أرَّقتْهم وأقضَّت مضاجعهم وشوشت عليهم خواطرهم، إنهم مِن الفقراء، وسيذهب الخاطر والفكر لأول وهلة أنهم شكَوا إلى رسول الله فقرهم وعوزهم وحاجتهم، لكن الأمر بخلاف ذلك، فتأمَّلوا في شكواهم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قالوا: يا رسول الله، إنَّ إخواننا الأغنياء لهم فضل مال، ينفقون في سبيل الله ولا ننفق.

 

فهكذا كانت شكواهم، أنَّ هذا الباب لا يَستطيعون أن يُسابقوا فيه الأغنياء، وهم يقرؤون في كتاب ربهم فضْل الإنفاق في سبيله سبحانه، حتى إنه يوشك ألَّا تأتي آية في القرآن العظيم فيها الأمر بالجهاد في سبيل الله إلا وكان الأمرُ بالجهاد بالمال مقدَّمًا على الجهاد بالأنفس، فقال لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ألا أدلُّكم على شيء إنْ عملتموه سبقتكم مَن قبلكم، وخير لكم مِن إنفاق الورِق والذهب في سبيل الله؟ وخير لكم مِن أنْ تلقوا عدوكم فيضربوا أعناقكم وتضربوا أعناقهم؟ فاشرأبَّت الأعناق إلى هذا العرض العظيم، وتحفَّز الصحابة رضي الله عنهم لمعرفته، فبيَّنه النبي صلى الله عليه وسلم بوحيٍ مِن الله جل وعلا وله سبحانه الحكم والأمر، فقال: «إذا صلَّيتُم فسبِّحوا بَعد كلِّ صلاة ثلاثًا وثلاثين، واحمدوا ثلاثًا وثلاثين، وكبِّروا ثلاثًا وثلاثين، وتمام ذلك أنْ يقول الواحدُ منكم: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له المُلْكُ، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير»، فهذه مائة، وجاءت أحاديث توضِّح أيضًا فضْل هذا الذكْر بصفاتٍ أخرى، ففرح هؤلاء الصحبُ الكرام بهذا العرض النبوي الأخروي الذي يقرِّبهم إلى الله جل وعلا، بما فيه مِن هذه المواصَفات، يَسبقون به مَن سبقهم، وخير لهم من إنفاق الذهب والفضة في سبيل الله، وخير في صور كثيرة من مواجهة الأعداء ومنازلتهم في أرض النزال، فقالوا هذا الدعاء وهذا الذكْر، ولكن الصحابة رضي الله عنهم كانوا إيجابيِّين في نقل العِلم وبثِّه، فعَلِم بذلك الأغنياء، فكانوا يقولون كقول إخوانهم، وهذا ذكْرٌ للمسلمين جميعًا، فجاء هؤلاء الصحابة الفقراء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله، إنَّ إخواننا الأغنياء سمعوا بهذا الذكْر فقالوا مثل ما قلنا، ولهم فضل المال فلهم مزيَّة علينا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ذلك فضْلُ الله يؤتيه مَن يشاء».

 

في بعض الأحوال تتهيَّأ للإنسان فرصة لا تتهيَّأ لآخر، وهو محْض فضْل الله جل وعلا، فقد يُهيِّئك الله لعمل صالح لا يشاركك فيه غيرُك، إما بصدقِ نية أو سبقٍ بعمل أو غير ذلك مما يهيِّئه الله جل وعلا للإنسان.

 

والشاهد هنا هذه المنافسة العظيم بين الصحابة رضي الله عنهم على ما يقرِّبهم إلى الله، قال إخواننا وفعَل إخواننا، وهكذا كان شأنهم في مناسباتٍ عديدة كما في قصة أبي هريرة مع السارق الذي كان يريد أن يأخذ مِن مال الصدقة، فكان أن تخلَّص منه بَعد أن شكا العالة وقلَّة ذات اليد، قال: أعلِّمك شيئًا ينفعك الله به، فرضي بذلك أبو هريرة. وكما في قصة عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، في شأن ذلك الرجل الذي بشَّره النبي صلى الله عليه وسلم بالجَنَّة، فذهب إليه في داره ينظر كيف يصنع حتى يصنع مثله، إلى غير ذلك مِن مناسبات عديدة.

 

والمقصود في هذا المقام أيها الإخوة الكرام: هو أن يكون الإنسان قد جدْوَلَ حياته، ووضَع استراتيجيته الواضحة في أن ثمة هدفًا ينبغي أن يصل إليه قبل أن يغادر هذه الحياة الدنيا، ولكن المشكلة في هذه الخطة، وهذه الاستراتيجية، التي يُفترض أن تكون موجودة في أي عمل مخطط له تحديده بالوقت والزمان، فالمشكلة هنا أنك قد عرفتَ بداية وقت الخطة، وهو منذ أن جرى قلم التكليف عليك، لكن النهاية غير محددة عندك، فلا تدري متى يكون الانتقال عن هذه الحياة الدنيا، ولذلك أوحَى الله تعالى إلى نبيِّه صلى الله عليه وسلم: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف: 188]، لو كانت نهاية الحياة ونهاية الأجَل معروفةً لكان الإنسان يسير على هذا النهج إذا قرُب الأجل ودنا الرحيل، هيَّأ نفسه بالتفرُّغ الكامل المطلق للقاء الله تعالى، لكن المشكلة أنه لا يعرف متى يكون {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان: 34]، ومِن هنا فإن هذه الخطة والاستراتيجية الحياتية لك ينبغي أن تكون مأخوذًا فيها بعين الاعتبار هذه المعلومة الكبرى، ولذلك جاء التوجيه القرآنيُّ بشأنها واضحًا في قوله سبحانه: {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} [المعارج: 27، 28]، فالأجَل لا يَدري الإنسان متى يحلُّ، ولذلك فإن مقتضى هذه الخطة أن يكون مستعدًّا في لحظته هذه متى جاء الموت فإنه يكون متهيئًا بالتخلص من التبعات والحقوق وردها إلى أهلها، بأن يكون محافظًا على ما أوجب الله جل وعلا، وأن يَستَدرك فيما قد يفوته بتجديد التوبة في كل يوم، وتكرار الاستغفار في كل لحظة.

 

قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، يكُون ذلك بأن يحافظ الإنسانُ على إيمانه، ويزيده بالطاعات في كل لحظة تمضي وفي كل لحظة يَستقبلها في هذه الحياة الدنيا، ولذا أكَّد النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر في وضع الإنسانِ لخطته الحياتية بأن يكُون مُستدرِكًا بالاستغفار إلى الله جل وعلا؛ لأنه لا يَضْمن ما يزلُّ منه، وهذا ما كان مِن هديه صلى الله عليه وسلم إذ قال: «يا أيها الناس، تُوبوا إلى الله واستغفروه، فإني أتُوب إلى الله وأستغفره في اليوم أكثرَ مِن سبعين مرة»، وهو الذي غَفر الله له ما تقدَّم مِن ذنبه وما تأخَّر، وبذلك يكون الإنسان قد وضع هذه الخطة على أن يكون مسابِقًا للعمل الصالح، وأن يكون كافًا نفسه عن الآثام الخطايا، وأن يكون هنالك فعلٌ احتياطي بالتوبة والاستغفار مع الاستعداد، وتذكُّر هذه اللحظة بأنه قد يُصبح فلا يمسي، ويمسي فلا يُصبح، وبأنه قد يَلبس ثيابه هو لكن يخلعها عنه شخص آخر ممن يغسِّله إذا حلَّ أجَل الله جل وعلا، وهذا ما كان من وصيته صلى الله عليه وسلم إذ قال: «إذا أصبحتَ فلا تنتظر المساءَ، وإذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباحَ، وخُذ مِن حياتِك لموتِك، ومِن صحَّتِك لمرَضِك»، أو كما صحَّ عنه عليه الصلاة والسلام، فإذا وضع الإنسان هذا التصوُّر وأدرك أن العمل الصالح هو زاده، فحينئذ سيدرك أن التسبيحة الواحدة في الدنيا خير له من الدنيا وما فيها كلها.

 

أوَليس قد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أربعُ كلمات هي أحب الكلام إلى الله، يُغرس لك بكل واحدة منها شجرة في الجَنَّة: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر».

 

فدُور الجَنَّة تُبنى في هذه الحياة الدنيا، وإنما يكون بناؤها بالعمل الصالح، وإنما يكون إعلاؤها وغرس الأشجار فيها بكثرة ذكْر الله جل وعلا، وهنا تمايَز الناس واختلفوا في هذه العمارة، فمنهم مَن عمَر الدنيا لكنها آيلة إلى غيره وآيلة إلى فناء، ومنهم مَن عمَر الآخرة فإذا دخل جَنَّتَه كان حاله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في وصفه للحظات الأولى التي يدخل فيها أهل الجَنَّة الجَنَّةَ: «واللهِ إنَّ أحدَهم لمعرفتُه ببَيْتِه في الجَنَّة أعظَم مِن معرفتِه بَبَيْتِه في الدنيا».

 

فقد تكرَّر أيها الإخوة الكرام التنبيه في القرآن العظيم وفي هدي النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، تكرَّر التنبيه إلى أن الدار الآخرة لا يمكن أن تُعدل بالدنيا أبدًا، فإنَّ الله جل وعلا قد وَصف جنات النعيم بأنها كعرض السماوات والأرض، وأخبَر سبحانه في كتابه الكريم عن عظيم الجزاء وكثير العطاء لعباده المؤمنين في جنَّات النعيم فقال سبحانه: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17]، وقال سبحانه: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} [الزخرف: 71]، إلى غير ذلك من الآيات الدالَّة على هذا المعنى. ولذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكِّر عِبادَ الله بأن هذه الحياة الدنيا لا يمكن أن تُعدل بعمل صالح واحد فقط، ولذا لو قدِّر أنَّ أحدًا من أهل القبور أن يرجع إلى الدنيا فيخيَّر بين مُلك الدنيا كلها، ليس مُلك بلد واحد، أو ثروة محددة، بل مُلك الدنيا كلها، يخيَّر بينها وبين تسبيحة واحدة، لقدَّم هذه التسبيحة لله جل وعلا؛ لأنَّ التسبيحة باقية، وثوابها باقٍ نامٍ في الآخرة، بينما هذه الدنيا فهي إلى فَناء وزَوال، وإلى هذا يُشير قولُ ربنا سبحانه وتعالى في شأن الكفار المعرضين بأن أحدهم لو أنفق ملء الأرض ذهبًا ما تُقبِّل منه، لينفقَ ملء الأرض ذهبًا ليفتدي من عذاب الله ما تُقبِّل منه، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكرِّر هذه الالتفاتة النفسيَّة العميقة كما في هذا الحديث المتقدِّم في شأن بعض الأعمال الصالحة التي نبَّه إليها، خيرٌ من الدنيا وما فيها «ركعتا الفَجْر أحبُّ إليَّ مِن الدنيا وما فيها»، هذا في شأن النوافل فما بالكم بالفرائض، والله جل وعلا يقول عنها في الحديث القدسي: «وما تَقَرَّب إليَّ عبدي بشيء أحبَّ إليَّ مما افترضتُ عليه، ولا يَزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أُحِبَّهُ»، هذا في الفرائض كلها، فما بالكم بأساس الفرائض ورأسِها وأعظمها وأجلِّها ألا وهو توحيد الله جل وعلا، إذ يَلقى الإنسان ربه بـ(لا إله إلا الله) خالصةً له سبحانه، فهذا هو الفوز العظيم، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى: «ابنَ آدم، لو لَقِيتَني بقرابِ الأرضِ خطايا، ثُمَّ لَقِيتَني لا تُشرك بي شيئًا لَلَقِيتُكَ بها مغفرةً»، فثوابُ الله عظيم بالنسبة للموحِّدين الذين يلقونه ثابتين على توحيده جل وعلا، وهكذا أيضًا تكرَّر لفتُ النظر إلى أن بعض الجزاء لهذه الأعمال الصالحة، وهذا تفسير وتوضيح: لِـم كانت الركعتان من سنة الفجر خير مِن الدنيا وما فيها؟

وتوضيح: لماذا كانت بعضُ الأعمال الصالحة يلفت النظرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم فيها إلى أنها خير من الدنيا وما فيها، فيقول: «لَمَوْضِعُ سَوْطِ أحدِكم في الجَنَّةِ خيرٌ مِن الدُّنيا وما فيها»، يعني ما يملكه الإنسان هذا القدْر قدْر السوط خير من الدنيا وما فيها، ويقول عليه الصلاة والسلام عن نصيف المرأة الذي تضعه على رأسها «خيرٌ مِن الدنيا وما فيها»، فهذا الجزاء لهذا العمل الصالح، هذا هو الجزاء لركعتي الفجر وللتسبيح وللذكْر ولعموم الأعمال الصالحة، لا يمكن أن يُقدَّر ولا يُقارَن بالدنيا كلها، مثل هذا الموضع، مُلك الإنسان شبرًا في الجنة خير من الدنيا وما فيها، ولا ينال هذا الشبر، ولا ينال هذا الملك إلا بالعمل الصالح، هنا كان العمل الصالح أعظم وأجلَّ مِن مُلك الدنيا كلها.

 

أيها الإخوة الكرام، إنَّ تواليَ الأيام قد يوجِد في الإنسان ركونًا إلى الدنيا واستقرار نفس إليها، ولذلك كان المؤمن بحاجة إلى تدبُّر هذه اللفتات القرآنية والتنبيهات النبوية، إلى أن يكون الإنسان جاعلًا في خطته واستراتيجيته أن يكون مقصده هو الدار الآخرة، وأما هذه الحياة الدنيا فهي عون له على تحقيق هذا المقصد كما دلَّت عليه الآية الكريمة: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77].

 

ألا وصلُّوا وسلِّموا على خير خلْق الله نبينا محمد، فقد أمرنا الله بذلك فقال عز من قائل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].

اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

 

خالد بن عبد الرحمن الشايع

بكلوريوس في الشريعة الإٍسلامية ومن طلبة الشيخ ابن باز رحمه الله