بورك في البكور

منذ 2022-09-09

التبكيـر علامـة اليقظة والحضـور ولا ريـب أنّ بركـات البكـور لا تُحصـى فالتبكير عنوان النشاط، كما يفيده تعبير النبيﷺ «بورك لأمتي في بكورها».

إنّ البكور إلى ساحات العلم وميادين العمل خصلةٌ حميدةٌ لا يحظى بها غير الموفَّقين، ولا يُلقَّاها إلا ذو حظٍّ، عظيم!

 

فالتبكير دليلٌ على قوّة العزم وشدّة التشمير ولا يمكن لأحدٍ، أن يُبلي البلاء الحسن ـ عِلماً وعَمَلاً ـ ما لم يُعِدَّ العُدّة، ويأخذ الأمر بقوّة، ويعتبر بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ـ الذي أخرجه الترمذي عن أبي هريرة: «من خاف أدلج. ومن أدلج بلغ المنزل ألا إنّ سلعة الله غالية. ألا إنّ سلعة الله الجنّة»، وقد أورده النووي في (باب الخوف) من (رياض الصالحين)، وقال: المراد: التشمير في الطاعة(1).

ورحم الله أحمد ابن حنبل فقد روى الخطيب البغدادي قوله: كنت ربما أردتُ البكور إلى الحديث. فتأخذ أمي ثيابي، وتقول: حتى يؤذِّن الناس وحتى يصبحوا!(2) وليت شعري هل كان يمكن لرجلٍ، كالإمام النووي أن يتلقّى في اليوم الواحد اثني عشر درساً لولا التبكير والتشمير؟!

 

فالتبكير عنوان النشاط: كما أخبرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك في حديث الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عُقَدٍ، يضرب على كل عُقدةٍ،: عليك ليلٌ طويلٌ فارقد. فإن استيقظ فذكر الله - تعالى - انحلّت عقدة، فإن توضّأ انحلّت عقدة، فإن صلى انحلّت عُقَدُه كلّها فأصبح نشيطاً طيِّب النفسِ وإلا أصبح خبيثَ النفس كسلان»! وقد روى الشيخان عن ابن مسعودٍ، - رضي الله عنه - قال: ذُكِر عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ نام ليلةً حتى أصبح قال: «ذاك رجلٌ بال الشيطان في أُذنيه»! ورحم الله سليمان بن مهران الأعمش حيث قال ـ وهو المداوم على قيام الليل: ما أرى أنّ عيني عمشت إلا من فرط ما يبول الشيطان في أذني!

 

والتبكير علامة اليقظة والحضور، وهي سببٌ في دفع الغفلة وأنواع الشرور: كما قال الله - تعالى -: {واذكر ربّك في نفسك تضرٌّعاً وخيفةً ودون الجهر من القول بالغدوّ والآصال ولا تكن من الغافلين}. قال السعدي: {بالغدوّ}: أوّل النهار، {والآصال}: آخره وهذان الوقتان لذكر الله فيهما مزيّةٌ وفضيلةٌ على غيرهما. {ولا تكن من الغافلين}: الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم فإنّهم حُرِموا خيرَ الدنيا والآخرة...وهذه من الآداب التي ينبغي على العبد أن يُراعيها حقَّ رعايتها، وهي الإكثار من ذكر الله آناء الليل والنهار خصوصاً طرفي النهار (4).وقال الله - تعالى -: {وسبِّح بحمد ربِّك بالعشيّ والإبكار} (5). قال ابن القيّم: الإبكار: أوّل النهار، والعشيّ: آخره (6). وقال الله - عز وجل - في شأن داود - عليه السلام -: {إنّا سخّرنا الجبال معه يُسبِّحن بالعشيّ والإشراق} (7). قال ابن كثير: أي إنّه - تعالى - سخّر الجبال تُسبِّح معه عند إشراق الشمس وآخر النهار (8). ولله درّ ابن مسعود - رضي الله عنه - فقد روى مسلم أنه قال للرجلين اللَّذين جاءا يزورانه بعد الفجر وقد أذنت لهما الجارية وتردّدا: أتظنّون بابن أمِّ عبدٍ، غفلةً؟!.

 

وفي التبكير حظُّ من الذكر والإنابة والتوكّل والحفظ: كما روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من قال حين يُصبح وحين يُمسي: سبحان الله وبحمده مائة مرّة لم يأت أحدٌ يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحدٌ قال مثل ما قال أو زاد»! وروى أبو داود والترمذي عن أبي هريرة: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول إذا أصبح: «اللهم بك أصبحنا وبك أمسينا وبك نحيا وبك نموت وإليك النشور»، ورويا كذلك عن الصدّيق - رضي الله عنه - أنه قال: يا رسول الله مُرني بكلمات أقولهنّ إذا أصبحت وإذا أمسيت. قال: «قل: اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة ربَّ كل شيء ومليكه أشهد أن لا إله إلا أنت. أعوذ بك من شرّ نفسي، وشر الشيطان وشركه».

 

ولا ريب أنّ بركات البكور لا تُحصى: كما يفيده تعبير النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك في حديث أبي هريرة عند الطبراني في الأوسط بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «بورك لأمتي في بكورها» (9).

 

فإنّ في البكور راحةَ الذهن، وجودةَ القريحة، وحضورَ القلب، وصفاءَ النفس، ونقاءَ الفكر {وقرآنَ الفجر إنّ الفجر كان مشهودا}! قال أحمد والبخاري: تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار. وروى الشيخان عن أبي هريرة: «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار. ويجتمعون في صلاة الصبح وفي صلاة العصر. فيعرج الذين باتوا فيكم. فيسألهم ربّهم وهو أعلم بكم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يُصلّون وتركناهم وهم يُصلّون»!

 

والتبكير ـ لعمري ـ راحةٌ من كثرة الخلطاء، وسعادةٌ بساعات الصفاء: كما روى مالك عن أبي الدرداء أنه كان يقوم من جوف الليل فيقول: نامت العيون، وغارت النجوم، وأنت الحيّ القيّوم! (10) ولله درّ من قال:

 

وعند الصباح يحمد القوم السٌّرى =وتنجلي عنهم غيابات الكرى!

 

1 وعند الصباح يحمد القوم السٌّرى  وتنجلي عنهم غيابات الكرى!

 

ففي البكور بعدٌ عن الشواغل والمنغّصات وليت شعري هل تُقتنَص الشوارد إلا باجتناب المكدِّرات؟! وذلك سرّ الشعور الغامر الذي يملأ قلبَ العبد وهو يناجي مولاه ـ ويُلحّ في دُعاه ـ في وقتٍ، لا يُدرك حلاوته إلا العابدون الذاكرون فيقول في خشوع وخضوع: (اللّهمّ إنّ هذا إدبارُ ليلك، و إقبالُ نهارك، وأصوات دُعاتك فاغفر لي)!

 

والتبكير يوفّر للمسلم استجماع القوّة، واستحضار المَلَكة، وانبعاث الفتوّة. وهل كانت غزوة خيبر إلا في هذا الوقت المبارك حيث قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ـ كما في الصحيحين: «الله أكبر خرِبت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المُنذَرِين»!

 

ورحم الله أبا منصور الثعالبي فقد روى في (خاصّ الخاص) أنّ هارون الرشيد كان ليلةً بالحِيرة.فلما كاد أن يتنفس الصبح قال لجعفر بن يحيى: قُم بنا نتنفَّس هواءَ الحِيرة قبل أن تُكَدِّرَه أنفاس العامّة! (11)

 

________________________________

(1) رياض الصالحين: 204، جمعية إحياء التراث. 1418 هـ.

(2) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب: 1/151.

(3) سورة الأعراف: 205.

(4) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنّان: 314، مؤسسة الرسالة، 1421 هـ.

(5) سورة طه: 130.

(6) الوابل الصيِّب: 127، نقلاً عن بدائع التفسير4/90، دار ابن الجوزي، جمع تيسير السيد محمد.

(7) سورة ص: 18.

(8) تفسير القرآن العظيم: 4/39، جمعية إحياء التراث العربي، 1420 هـ.

(9) كشف الخفاء للعجلوني: 1/289.

(10) الموطأ كتاب القرآن باب العمل في الدعاء حديث رقم 43 ص219.

(11) خاص الخاص: 50، مكتبة الحياة بيروت.

_____________________________________________________________

الكاتب: محمد عمر دولة