فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ
والمقصود هنا شعائر الحج، بأن رموا جمرة العقبة ونحروا وطافوا طواف الإفاضة واستقروا بمنى للراحة والاستجمام.
{فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ (200) وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَـئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202) وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)}
{{فَإِذَا قَضَيْتُم}} أديتم وفرغتم {{مَّنَاسِكَكُمْ}} «النسك» بمعنى العبادة؛ وهو كل ما يتعبد به الإنسان لله؛ ولكن كثر استعماله في الحج؛ وفي الذبح؛ ومنه قوله تعالى: {{قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}} [الأنعام: 162] .
والمقصود هنا شعائر الحج، بأن رموا جمرة العقبة ونحروا وطافوا طواف الإفاضة واستقروا بمنى للراحة والاستجمام.
{{فَاذْكُرُواْ اللّهَ}} فالإنسان ينبغي له إذا قضى من العبادة أن لا يغفل بعدها عن ذكر الله، كقوله تعالى: {{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}} [الجمعة:10]
{ {كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} } يشمل الشدة في الهيئة، وحضور القلب، والإخلاص؛ والشدةَ في الكثرة أيضاً؛ فيذكر الله ذكراً كثيراً، ويذكره ذكراً قوياً مع حضور القلب.
فيكثروا من ذكر الله تعالى عند رمى الجمرات بالتكبير، وعند الخروج من الصلوات ذكراً مبالغاً في الكثرة منه على النحو الذي كانوا في الجاهلية يذكرون فيه مفاخر آبائهم وأحساب أجدادهم.
قال ابن عباس: إن العرب في الجاهلية كانوا يقفون في الموسم فيقول الرجل منهم: كان أبي يطعم ويحمل الديات . . . إلخ ليس لهم هم غير ذكر فعال آبائهم.
وقال السدي: كانوا إذا قضوا المناسك وأقاموا بمنى يقوم الرجل ويسأل الله فيقول: اللهم إن أبي كان عظيم الجفنة، كثير المال فأعطني بمثل ذلك! ليس يذكر الله، إنما يذكر أباه ويسأل الله أن يعطيه في دنياه.
{ {فَمِنَ النَّاسِ} } «من» للتبعيض؛ والمعنى: بعض الناس؛ بدليل أنها قوبلت بقوله تعالى: {ومنهم}؛ فيكون المعنى: بعضهم كذا؛ وبعضهم كذا؛ وهذا من باب التقسيم؛ يعني: ينقسم الناس في أداء العبادة { {مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا} } فلا يسأل إلا ما يكون في ترف دنياه فقط، بلسان المقال كطلب مال أو جاه أو غيره، وربما يقوله بلسان الحال لا بلسان المقال؛ لأنه إذا دعا في أمور الدنيا أحضر قلبه، وأظهر فقره؛ وإذا دعا بأمور الآخرة لم يكن على هذه الحال { {وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ} } نصيب وحظ.
{ {وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} } كل ما يسر ولا يضر، والإنسان لا يذم إذا طلب حسنة الدنيا مع حسنة الآخرة { {وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً} } النجاة من النار ودخول الجنان { {وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} } لأن حصول الحسنة في الآخرة قد يكون بعد عذاب ما فأريد التصريح في الدعاء بطلب الوقاية من النار.
فهي جامعة للخيرين معاً، فكان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا طاف بالبيت يختم بها كل شوط، يقولها فيما بين الركن اليماني والحجر الأسود.
وهذا تقسيم للمأمورين بالذكر بعد الفراغ من المناسك، وأنهم ينقسمون في السؤال إلى من يغلب عليه حب الدنيا، فلا يدعو إلاَّ بها، ومنهم من يدعو بصلاح حاله في الدنيا والآخرة، وإن هذا من الالتفات. ولو جاء على الخطاب لكان: فمنكم من يقول: ومنكم.
{ {أُولَـئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ} } حظ { {مِّمَّا كَسَبُواْ} } كسبوا بمعنى طلبوا، لأن كسب بمعنى طلب ما يرغب فيه.
{ {وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} } لكونه لا يحتاج إلى فكر، ولا رؤية كالعاجز. أو: لما علم ما للمحاسب وما عليه قبل حسابه. وفيه التبشير بسرعة حصول مطلوبهم بطريق العموم.
وهذا وعد من الله تعالى بإجابة دعاء المسلمين الداعين في تلك المواقف المباركة إلا أنه وعد بإجابة شيء مما دعوا به بحسب ما تقتضيه أحوالهم وحكمة الله تعالى، وبألا يجر إلى فساد عام لا يرضاه الله تعالى فلذلك نكر {نصيب} ليصدق بالقليل والكثير، وأما إجابة الجميع إذا حصلت فهي أقوى وأحسن.
{وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ} أيام منى, وهي ثلاثة أيام بعد يوم النحر [11-12-13 ذي الحجة], يقيم الناس فيها بمنى وتسمى أيام التشريق, لأن الناس يقددون فيها اللحم, والتقديد تشريق، والذكر هو عند رمي الجمرات بالتكبير، وأما المطلق وعقب الصلوات يقولون: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد (ثلاث مرات) إلى عصر اليوم الثالث من أيام التشريق
قال ابن عثيمين: والذكر هنا يشمل كل ما يتقرب به إلى الله عزّ وجلّ من قول أو فعل في هذه الأيام؛ فيشمل التكبير في تلك الأيام مطلقاً، ومقيداً؛ والنحر من الضحايا، والهدايا؛ ورمي الجمار؛ والطواف، والسعي إذا وقعا في هذه الأيام؛ بل والصلاة المفروضة، والتطوع؛ وقد قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «(إِنَّمَا جُعِلَ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالمَرْوَةِ وَرَمْيُ الْجِمَارِ لِإِقَامَةِ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ)» [أحمد عن عائشة]، وقال: «(أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ)» [أحمد].
وإنما أمروا بالذكر في هذه الأيام, لأن أهل الجاهلية كانوا يشغلونها بالتفاخر ومغازلة النساء، لأنهم كانوا يرون أن الحج قد انتهى بانتهاء العاشر, بعد أن أمسكوا عن ملاذهم مدة طويلة فكانوا يعودون إليها.
والآية تدل على أن الإقامة في منى في الأيام المعدودات واجبة فليس للحاج أن يبيت في تلك الليالي إلا في منى, ومن لم يبت في منى فقد أخل بواجب فعليه هدي, ولا يرخص في المبيت في غير منى إلا لأهل الأعمال التي تقتضي المغيب عن منى، فقد رخص النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للعباس المبيت بمكة لأجل أنه على سقاية زمزم, ورخص لرعاء الإبل من أجل حاجتهم إلى رعي الإبل في المراعي البعيدة عن منى، وذلك كله بعد أن يرموا جمرة العقبة يوم النحر ويرجعوا من الغد فيرمون, ورخص للرعاء الرمي بليل, ورخص الله في هذه الآية لمن تعجل إلى وطنه أن يترك الإقامة بمنى.
{فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} نفر من منى بعد رمى يوم الأول والثاني [أي ترك ثالث أيام العيد يوم 13 ذي الحجة] قبل غروب الشمس في اليوم الثاني، على قول الأئمة الثلاثة، وقبل فجر اليوم الثالث من أيام التشريق على قول الإمام أبي حنيفة، وبذلك يسقط عنه، رمي الجمار في اليوم الأخير من أيام العيد، ولا إثم عليه في ذلك {فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ} رمى الأيام الثلاثة كلها { {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} } الظاهر أنها قيد للأمرين جميعاً للتعجل والتأخر، بحيث يحمل الإنسان تقوى الله عزّ وجلّ على التعجل أو التأخر وليس التهاون وعدم المبالاة.
{وَاتَّقُواْ اللّهَ} ما أكثر ما يأمر الله سبحانه وتعالى بالتقوى في كتابه العزيز؛ لأن التقوى اتخاذ وقاية من عذاب الله عزّ وجلّ بفعل أوامره، واجتناب نواهيه على علم وبصيرة { {وَاعْلَمُوا} } تنبيه على أنه لا بد من الإيمان بهذا الحشر، والاستعداد له {أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} الحشر: جمع القوم من كل ناحية، والمحشر مجتمعهم، وحشرات الأرض دوابها الصغار، وقال الراغب: الحشر: ضم المفترق وسوقه.
ومن فوائد الآية: قرن المواعظ بالتخويف؛ لقوله تعالى: { {وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} }؛ لأن الإنسان إذا علم أنه سيحشر إلى الله عزّ وجلّ، وأنه سيجازيه فإنه سوف يتقي الله، ويقوم بما أوجب الله، ويترك ما نهى الله عنه؛ وبهذا عرفنا الحكمة من كون الله عزّ وجلّ يقرن الإيمان باليوم الآخر في كثير من الآيات بالإيمان بالله دون بقية الأركان التي يؤمن بها؛ وذلك؛ لأن الإيمان باليوم الآخر يستلزم العمل لذلك اليوم؛ وهو القيام بطاعة الله ورسوله.
جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار
alnaggar66@hotmail.com
خالد سعد النجار
كاتب وباحث مصري متميز
- التصنيف: