خمس لمحات تربوية من سورة يوسف

منذ 2022-09-13

فالمحنة -على طولها وشدتها وقسوتها على النفس- إذا انقشع غبارها لم تَعْدُ أن تكون مجرد حدث عابر لا ميزان له في زمن الناس، تذهب شدته، وينمحي ألمه، ويبقى ما كان فيه من فائدة وخير ورحمة وذكرى.

1- أنا أخوك؛ فلا تبتئس:

يتوسط "بنيامين" بهو قصر يوسف المنيف، يقف متهمًا بالسرقة، غريبًا عن الوطن، بعيدًا عن الأهل، تتمازج في داخله نوازع تنهش فؤاده الرقيق، تضطرب فرائصه ولا تقوى قدماه على الوقوف، ينظر إلى الجميع بريبة، يتوقع الغدر من كل الحاضرين.

وفجأة؛ تحرِّك شفتا يوسف بعضَ الهواء الساكن في البهو الفسيح، فتتدفق نسماتٌ باردة إلى قلب أخيه، فتسرّي عنه، وتدخله في غيبوبة وجدانية ممتعة، وتنتشله من هذا الموقف الرهيب. ويتوقَّف الزمان، وتتحرك في دواخل الأخ نوازع الشوق إلى وجه أخيه، إلى لَعِب أخيه، إلى رحمة أخيه، إلى الخلوة بأخيه، إلى البثّ لأخيه، إلى عشرة كواكب تتناوب على كُرْهِ أخيه، (أنا أخوك؛ فلا تبتئس).

وترتسم على محياهما بسمة الحزن والفرح والدهشة والنجاة، وتنساب أنهار الشوق الدافئة على الخدود الملساء، ويرتمي الأخ في حضن أخيه ويبكيان، فتتعالى من جديد: (أنا أخوك؛ فلا تبتئس).

وكيف يبتئس الأخ أو يستوحش الرفيق وهو بين صحبه يؤونه ويضمُّون فؤاده!! كيف يكتئب وهم زمرة قلب واحد؛ يسعدون لسعده، ويحزنون لمصابه، (أنا أخوك؛ فلا تبتئس)، أنا رفيق دربك فلا تحزن، أنا قرين فؤادك فلا يتسرب قلقٌ إليك، أنا البسمة المذهبة للهمِّ، أنا اليد الرابتة على الكتف في الضراء، أنا سدك المنيع في وجه الخصوم، أنا منبعُ قوةٍ لديك، أنا رصيدك المخبوء إذا أفلس الداعمون، أنا مصباحك الوقّاد إذا اسودَّ في ناظريك المدى، (أنا أخوك؛ فلا تبتئس).

2- وهذا أخي:

وتمر الأيام، ويتغير اللفظ والمعنى، {أنا أخوك فلا تبتئس}، أفصح الأخ الأكبر عن نفسه، ولكن، كيف يفصح عن أخيه وهو المعروف لديهم!!

(أنا يوسف) في وادٍ، (وهذا أخي) في وادٍ؛ في البدء {أنا أخوك فلا تبتئس}، أذهب بها غم الأخ، أبرد بها قلب الأخ، أيقظ بها أمل الأخ. وفي الختام (هذا أخي)، يعلنها بفخر؛ يغرس بها الوتد الصلب في عمق الأرض يثبّت به نفسه الوحيدة بعد ألم فراق طويل، ويشهر بها الترس في وجه خصومه؛ يصيح: (هذا أخي)، يلتمس بها القوة لنفسه، ينعش بها روحه، يدفع بها خطواته الثقيلة، يرنو من ورائها إلى العصابة المتحفزة، يدفعها في وجه الشمس الحارقة في الظهيرة فتُبهِت شعاعها، فيحدِّق إليها في حدة وصلابة، ويعلنها: (هذا أخي)، هذا متكئي، (هذا أخي)، هذا فؤادي وذاك فؤاده، قلب مزدوج صلد.

وحينها لم يملك متآمرو الأمس سوى الاعتراف بالخطأ والندم اللذين أتبعهما أخوهم الرفيق بالصفح والمسامحة.

 

3- تلاشي المحن:

بدأ يوسف الصدّيق في سرد رؤياه على أبيه: {يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ...}، فوجَّهه الوالد الحكيم بـ{لا تَقْصُصْ...}. وهنا انقطعت كل إشارة إلى الرؤيا ومحتواها وتأويلها خلال آيات السورة، ثم شرعت السورة  في عرض مشاهد الفتن التي عاشها الصدّيق في توالٍ عجيب شديد الوقع، تتوالى الابتلاءات والمحن على يوسف الواحدة تلو الأخرى في عرض مبسوط مطوَّل بالأحداث والتفاصيل المثيرة.

حتى نصل إلى مشهد الخاتمة، ويا له من مشهد تضطرب له الأفئدة وتتسارع خلال عرضه الأنفاس، حتى تتجلى حبكة الأحداث وجمال الحوار في قَوْلَةِ يوسف -عليه السلام-: {وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا}، وكأن المشهد واحد لم ينقطع: مشهد رؤية المنام، وسرده على النبي الوالد، وتحققه في نهاية المآل، وكأن هاتيك العقود التي فصلت ما بين المشاهدة والتحقق لم تعدُ كونها مجلسًا واحدًا، ولا يخلو الأمر من رسالة وفائدة عميقة الأثر.

فالمحنة -على طولها وشدتها وقسوتها على النفس- إذا انقشع غبارها لم تَعْدُ أن تكون مجرد حدث عابر لا ميزان له في زمن الناس، تذهب شدته، وينمحي ألمه، ويبقى ما كان فيه من فائدة وخير ورحمة وذكرى.

لقد تلاشى مِنْ حسِّ يوسف -عليه السلام- ألمُ المحنة ولم يبقَ له إلا ما يراه الآن من منحة: {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنْ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنْ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنْ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}.

لم يتطرق يوسف لأية تفصيلة من تفاصيل محنته وهو يذكّر والدَه النبيَّ برؤياه وتأويلها، وإنما عدّد النعم التي تبطَّن بها ابتلاؤه، حتى إنه حينما اضطر للإشارة إلى شيء مما فيها من ألم وقسوة نسي جميع ذلك ونسبها إلى لطف الله تعالى: {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ}.

يا للعجب!! إن ربي لطيف لما يشاء، لطيف لما يشاء.

 

4- الشيطان لا إخوتي:

{نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي}! حقًا يا يوسف؟! حقًا نسيت ما فعل إخوتك فأسندت ذلك إلى الشيطان؟! ألم يتعاهدوا على كراهيتك منذ البداية؟! ألم يتآمروا عليك ليقتلوك أو يلقوك في غيابة الجب؟! ألم تكن كافة الابتلاءات والمحن التي تعرضت لها من عبودية وسجن ومؤامرات ومراودة عن النفس من امرأة العزيز كلها كان السبب فيها إخوتك في الأساس؟!

إن صفاء نفس يوسف عليه السلام وتسامحه علا فوق كل الاعتبارات الذاتية، وارتقى به عن أوجاع الجروح التي أصابته في صغره وشبابه، فلاحت أمام ناظريه فقط (إخوتي)!! ويا له من تعبير حقيقي ينم عما في داخل نبي عظيم له قدرة فائقة على التسامح والغفران، حتى انمحت من ذاكرته كل إساءة من إخوته، ولم يبق أمامه سوى ذلك الرباط الوثيق؛ رباط الأخوة المكين..

أدرك يوسف أن إخوته هم درعه الوحيد الذي لا ينبغي التخلي عنه لأية اعتبارات ذاتية أو نفسية، وأن قطع الحبل الواصل بينهم وبينه لأي مبرر أو سبب مهما كان عظيماً؛ لا يكافئ حياته منعزلاً عنهم أو عن محيط عائلته، التي هي كنزه الحقيقي في هذا العالم، لاسيما وقد مرّ العمر، واقترب من نهايته، ولم يبق فيه إلا القليل ليقضيه بعيدًا عن عصبة قلبه التي غلبه الاشتياق إلى أحضانها.

 

5- لا تقصص:

لا تقصصْ رؤياك على إخوتك.. لا تحركْ مياه الضغينة الراكدة في نفوسهم، لا تتحدث بخبيئة فضلٍ لك تستلُّ بها سكينَ الكراهية من غِمدها، لا تبدِ قُدرتك الطامحة أمام هامات نكَّستها قسوة العِوز والحاجة، لا تروِ حكايات الفرح الغامر بحضرة أنفس تفتقد شرابه، لا تنطلق إلى أوج البهجة المغردة بصحبة أنفسٍ حَبَسَها حضيض الهمّ، لا يُنسينَّك فَرْطُ الحماسِ بالحَكْي قيمةَ التمسك بتلابيب الأخ، فأخوك لا يعدله شيء؛ لا شهوة قصِّك، ولا نزعة فخرك، ولا غِبطة فؤادك.

دونك فؤاد أخيك؛ فهو كنزك المدخر، وقوتك الضاربة، وميراثك لوقت الحاجة، احفظ قلوب إخوتك من ظن السوء، وكآبة الحقد، وعفونة العناد، اشبك فؤادك الجامح بأفئدتهم الغضة، اجعلها حبوب رمان متراكب على المحبة والأخوة، فقلبك وحده ليس إلا مضغة باردة، وقبلك إلى جوار أفئدتهم ساحة حنين ملتهب بالسعادة والمسرَّة.

احزم رباطة جأشك و{لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ}.

_______________________________________________

الكاتب: محمد الغباشي