في فترات الضعف تطفو جيف الإلحاد

منذ 2022-09-20

إن هذا الخمول الفكري والضياع الثقافي الذي انحدرت إليه طبقات الأمة – إلا من رحم ربك – ليعد من أخطر ما يواجه نهضة الأمة في واقعها المعاصر.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله؛ أما بعد:

فحينما يتحدث الإنسان عن جوانب الضعف في حياة الأمة الإسلامية في واقعنا المعاصر، يجد نفسه محاصرًا بجوانب الضعف في كل مناحي الحياة، فإن أردت الحديث عن الانهيار الأخلاقي، فحدِّث ولا حرج، وإن أردت الحديث عن الغزو الفكري، ففي المجال متسع، وإن أردت الحديث عن الانحدار الاقتصادي وما آلت إليه الشعوب من جوع وضنك وتشرد، فالأمور واضحة لكل ذي عينين، كلها جوانب مبكية، حتى اتسع الخرق على الراقع، وأصبح الحال يصفه قول القائل:

ولو كان سهمًا واحدًا لاتقيتُه   ***   ولكنه سهم وثانٍ وثالثُ 

 

ولعل من أخطر جوانب الضعف، ذلك الضعف الثقافي والخمول الفكري، الذي انحدرت إليه أغلب طبقات الأمة، فأصبحت لا تعبأ إلا بالمظاهر الجوفاء.

ولقد أحسن الشاعر الأستاذ محمد إقبال؛ حينما وصف ذلك الضعف الفكري والتمسك بالمظاهر الجوفاء في حياة الأمة قائلًا:

أرى التفكير أدركه خمـــــول   ***   ولم تبقَ العزائم في اشتعالِ 

وأصبح وعظكم من غير نور   ***   ولا سحر يطل من المقــــالِ 

وجلجلة الأذان بكل حــــــيٍّ   ***   ولكن أين صوت من بــــلالِ 

منائركم علت في كل ســـاح   ***   ومسجدكم من العُبَّاد خــالِ 

 

إن هذا الخمول الفكري والضياع الثقافي الذي انحدرت إليه طبقات الأمة – إلا من رحم ربك – ليعد من أخطر ما يواجه نهضة الأمة في واقعها المعاصر.

 

حتى كان من التعبيرات الموحية العميقة لبعض الدعاة قوله: إن ضياع الخلافة أهون على حياة الأمة من ضياع الثقافة؛ ذلك أن الخلافة إذا سقطت والثقافة لا تزال باقية، فإن الأمة سرعان ما تفيق وتسترجع خلافتها وريادتها، أما إذا سقطت الثقافة، فأنى للخلافة أن تعود؟ بل ومن ذا الذي يسعى لإعادتها؟ هل يسعى لإعادتها الجهلاء أم صنائع الاستعمار القائمين على إذابة هوية الأمة ومشخصاتها؟!

 

إن صنائع الاستعمار هؤلاء قد تم إعدادهم بعناية فائقة، ليكونوا معاول الهدم في كيان أمة الإسلام، ولعل ما قاله الفيلسوف جان بول سارتر وهو يجيب عن سؤال خطير وُجِّه إليه وهو: كيف يظهر المفكر في الشرق والعالم الإسلامي؟

فأجاب: "كنا نحضر أبناء رؤساء القبائل وأبناء الأشراف والأثرياء والسادة من إفريقيا وآسيا، ونطوف بهم بضعة أيام في شوارع لندن وباريس وأمستردام فتتغير ملابسهم، ويلتقطون بعض أنماط العلاقات الاجتماعية الجديدة، ويرتدون السترات والسراويل، ويتعلمون لغتنا وأساليب رقصنا وركوب عرباتنا، وكنا نروح بعضهم في أوربا، ونلقنهم أسلوب الحياة على أساس جديد وطرز جديدة من الزينة، واستهلاك أوربي وغذاء أوربي، كما نضع في أعماق قلوبهم أوربا، والرغبة في تحويل بلادهم إلى أوربا، ثم نرسلهم إلى بلادهم، حيث يرددون ما نقوله بالحرف تمامًا مثل الثقب الذي يتدفق منه الماء في الحوض، هذه أصواتنا تخرج من أفواههم، وحينما كنا نتحدث كنا نسمع انعكاسًا صادقًا وأمينًا لأصواتنا من الحلوق التي صنعناها، وكنا واثقين أن هؤلاء المفكرين لا يملكون كلمة واحدة يقولونها غير ما وضعنها في أفواههم، ليس هذا فحسب، بل إنهم سلبوا حق الكلام من مواطنيهم"[1].

 

فانظر إلى هذه الشخصيات المصطنعة، كيف تعد لها الكراسي والألقاب البراقة، واللقاءات والندوات في المؤتمرات الدولية، ألا تكون الفتنة بهم أشد؟

 

نعم، إنك تجد مِن هؤلاء مَن يُوصم بالمفكر، ومنهم من يُوصم برائد التنوير، وهذا عميد الأدب، وذاك أستاذ الأجيال، فإذا نظرت إلى أطروحاتهم الفكرية فما هي إلا ترديد لأقوال المستشرقين ومَن على شاكلتهم من أعداء الإسلام، ورحم الله الأستاذ أنور الجندي عندما عبر عن كتاب "الإسلام وأصول الحكم" لعلي عبدالرازق، والذي يعتبر العمدة في الفكر العلماني الفاصل للدين عن الحكم والسياسة - قال عنه الأستاذ الجندي: "حاشية علي عبدالرازق على متن مرجليوث"، نعم، فأطروحاتهم الفكرية لا تتعدى هذا الوصف.

 

ولقد أجاد الرافعي في كتابه "تحت راية القرآن"؛ حينما قال عنهم: "وما زالت هذه من عجائب حكمة الله فيما يحوط به هذا الدين الإسلامي وكتابه العربي الخالد، فكلما وهن عصر من عصوره رماه الله بزنديق، فإذا الناس أشد ما كانوا طيرة، وأبلغ ما كانوا دفاعًا ومحاماة، وإذا الدين أقوى ما كان فيهم وأثبت".

 

ولا يفوت الرافعي رحمه الله أن يحذر الأمة منهم قائلًا: "وجب أن تحذرهم الأمة، وأن تقرهم في هذا الحيز من تخيلاتهم وأوهامهم، فهم من الأمة إذا غلبت هي عليهم، وليسوا منها إذا غلبوا عليها"[2].

 

إن التواجد الإعلامي الواسع في هذه الآونة لهؤلاء الرويبضة، والموسومين فيها بالمفكرين ورواد التنوير لخير دليل على مدى ما وصلت إليه الأمة من الاضمحلال الفكري، ومن ثَمَّ فلا يتوقع الإنسان إلا مزيدًا من الطعن في ثوابت الأمة؛ لأن المثل القائل: "مَن أمِنَ العقوبة أساء الأدب"، لأفضل ما ينطبق عليهم؛ لأنهم لم يأمنوا العقوبة فحسب، ولكنهم ضمنوا علو الصيت من خلال تسخير وسائل الإعلام لهم، وإغداق المال عليهم، ولعل مما يحضرني في هذا الصدد تلك العبارات للأستاذ عادل التل في حديثه عن التواجد الإعلامي لكلٍّ من جودت سعيد ومحمد شحرور، بل وهذا التآلف الذي قام بينهما، ولاقى دعمًا وترحيبًا من مختلف المراكز الإعلامية، فيقول: "وقد سيطر جودت سعيد ومحمد شحرور وأتباعهما بسرعة فائقة لا مثيل لها على الساحة الثقافية، وفُتحت لهم الأبواب، فجميع المراكز الثقافية وُضعت تحت تصرفهم، في طول البلاد وعرضها، وقد ظهر ذلك جليًّا خلال الحملة الإعلامية التي رافقت نشر كتاب محمد شحرور، فلم يمضِ سوى أيام قليلة حتى تم توزيعه على مختلف الأصعدة الثقافية والسياسية، وقد تطور الأمر حتى شمل الإهداء كبار الشخصيات المسؤولة وبعض رؤساء الدول، ولم يكن هذا الأمر ليحدث، لولا أن أجهزة ذات نفوذ ظاهر تقود هذه الحملة، وتدعم الجهود التي تساهم في تقرير الأفكار الدخيلة التي يحملها كتاب شحرور خاصة وكتب جودت عامة"[3].

 

ولعل الكثير من المسلمين لا يعرف شيئًا عن كتاب محمد شحرور الذي سخرت له وسائل الإعلام لنشر ما تضمنه من أضاليل، وبالمناسبة هو مهندس مدني ذهب إلى روسيا لدراسة الهندسة، وفجأة تحول إلى مفكر ومفسر ورائد من رواد التجديد الإسلامي، ولكي يعرف القارئ شيئًا عنه وعن خطورة ما يصبو إليه هو ومَن وراءه، فاقرأ معي هذه العبارات له يقول: "وأما مقولة: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان قادرًا على أن يؤول القرآن، فنقول:

1– إما أن يكون تأويله صحيحًا بالنسبة لمعاصريه فقط، أي التأويل الأول، فيكون بذلك قد تسبب في تجميد التأويل، وتجميد حركة العلم والمعرفة، وإلزام الناس بكلامه، ثم تتقدم المعرفة الإنسانية مع الزمن وتظهر العلوم فتبدو تأويلاته قاصرة، ويكون بذلك قد قصم ظهر الإسلام بنفسه. (انتبه أيها القارئ العزيز لهذه النقطة).

 

2- وإما أن يكون تأويله صحيحًا بالنسبة لجميع العصور؛ أي: إن النبي كان يستطيع أن يؤول القرآن التأويل الصحيح في جميع الأزمان، فيكون بهذا قد تسبب بما يلي:

أ – لا يوجد أحد من العرب الذين عاصروه قادر على فهم التأويل.

ب – لو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قادرًا على التأويل الكامل لكل القرآن، لكان ذلك يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم كامل المعرفة، ومعرفته بالحقيقة معرفة مطلقة، فيصبح شريكًا لله في علمه المطلق. (هل انتبهت أخي القارئ لخطورة هذا الكلام؟!).

ج- يفقد القرآن إعجازه"[4].

 

هل انتبهت أيها القارئ العزيز لما يريد تقريره في هذا الكلام؟

إنه يقرر أن النبي صلى الله عليه وسلم لو فسر القرآن لكان تفسيره قاصرًا على عصره لا يتعداه إلى غيره من العصور، وحتى لو فعل ذلك لترتب على تفسير النبي صلى الله عليه وسلم بعض الأضرار؛ منها كما يقول: "فيكون بذلك قد تسبب في تجميد التأويل، وتجميد حركة العلم والمعرفة، وإلزام الناس بكلامه".

 

ثم هناك مشكلة أخرى تترتب على تفسير النبي صلى الله عليه وسلم – لو كان قد حدث – وهي أن تفسيره إذا كان قاصرًا على عصره، ثم تقدم العلم، وأثبت خطأ النبي صلى الله عليه وسلم، هكذا يُفهم من قوله: "ثم تتقدم المعرفة الإنسانية مع الزمن وتظهر العلوم، فتبدو تأويلاته قاصرة، ويكون بذلك قد قصم ظهر الإسلام بنفسه".

 

ثم ترى كيف يقرر أن النبي صلى الله عليه وسلم غير كامل المعرفة، إذ لو أنه كان كذلك لشارك الله في علمه؛ فيقول: "لو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قادرًا على التأويل الكامل لكل القرآن، لكان ذلك يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم كامل المعرفة، ومعرفته بالحقيقة معرفة مطلقة فيصبح شريكًا لله في علمه المطلق".

 

ألا ترى أن هذا الكلام فيه تنحية لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، بل وفقدان الثقة بكل ما يصدر عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ وكأن الله تعالى لم يقل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النور: 54].

 

ويقول الله تبارك وتعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّ} هَ ﴾ [النساء: 80]، فجعل طاعة النبي صلى الله عليه وسلم هي عين الطاعة لله عز وجل، فهل من يكون مقامه كذلك في التشريع يُقال عنه مثل هذا الكلام الساقط لمحمد شحرور؟!

 

فلنعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أُمر وكُلِّف ببيان القرآن الكريم؛ كما قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، وفي الآية الأخرى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّ} هُ ﴾ [النساء: 105]، فالرسول صلى الله عليه وسلم مكلف بالبيان، وفي سورة الجمعة يقول الله تعالى عن رسوله صلى الله عليه وسلم: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 2]، فلاحظ هذه المهمات الثلاث للرسول عليه الصلاة والسلام: أولًا: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} [الجمعة: 2]، وهذا هو البلاغ اللفظي الذي قام به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ حيث كان يتلو القرآن على الناس، ولا يترك منه حرفًا واحدًا؛ حتى الآيات التي نزلت في معاتبة الرسول عليه الصلاة والسلام في بعض المواقف، ثم ننتقل إلى مرحلة أخرى في الآية: {وَيُزَكِّيهِمْ} [الجمعة: 2]، والتزكية هي: تربيتهم.

 

إذًا لم تكن مهمته فقط مهمة علمية محضة، مثلما يظن بعض الناس، فيقول: أنا مهمتي أن أقول للناس: هذا حلال، وهذا حرام، وبعد ذلك يفعلوا ما يشاؤون، لا، بل كانت مهمة الرسول عليه الصلاة والسلام فوق ذلك، ويزكيهم، بمعنى: أنه يربيهم على الالتزام الصحيح والتطبيق العملي للقرآن الكريم، ولذلك صار النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه تطبيقًا وترجمة عملية للقرآن الكريم؛ حتى قالت عائشة رضي الله عنها كما في صحيح مسلم لما سألها هشام بن سعد عن خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: ((هل تقرأ القرآن؟ قال: نعم، قالت: كان خلقه القرآن)).

 

{ثم المرحلة الثالثة:} {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة: 2]، فما معنى: ويعلمهم الكتاب؟ هل معناه يقرأ عليهم الكتاب؟ لا، فهذه قد مر ذكرها: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} [الجمعة: 2].

 

إذًا تعليم الكتاب غير تلاوة الكتاب، فيعلمهم الكتاب معناه: يشرح لهم القرآن الكريم، ولذلك لا شك في أنه ما من آية تحتاج إلى إيضاح إلا وبينها الرسول عليه الصلاة والسلام بقوله أو بفعله، وقد عني العلماء بجمع هذا التفسير في كتب كثيرة.

 

إذًا الرسول صلى الله عليه وسلم بيَّن كل ما يحتاج إلى بيان من القرآن الكريم، وهذا الأمر في غاية الخطورة؛ لأمور: إننا الآن نجد طوائف كثيرة من المنتسبين إلى الإسلام - وليسوا بمسلمين - أصبحوا يرفضون السنة كلها.

 

فأين هذا الكلام الذي يقرره علماء الإسلام عن بيان النبي للقرآن الكريم مما يقرره محمد شحرور وأمثاله من دعاة الضلال؟!

إنه نفس الاتجاه الذي عبر عنه الأستاذ محمد إقبال حينما قال:

وإن شئت فالقرآن تأويل لاعب   ***   فجدد لنا شرعًا يلائمه العصرُ 

رأيت بأرض الهند أي عجيبـــة   ***   فإسلامها عبد ومسلمها حــــرُّ 

 

إنها الشنشنة الإلحادية القديمة المتجددة منذ أيام الفرق الباطنية في محاولات اللعب بآيات القرآن، وبمعجزات النبي صلى الله عليه وسلم تحت مسمى التأويل أو العصرنة، أو التجديد، أو ما شئت أن تسميه من هذا الكلام، وما هو في الحقيقة إلا محاولة للَيِّ عنق النصوص الشرعية لتتلاءم مع أهوائهم، إنهم يريدون أن يكونوا أحرارًا، والإسلام هو العبد يفعلون به ما يريدون بدون ضابط في التأويل، إنهم يريدون إسلامًا يكون بين أيديهم كالجثة الهامدة وهم يطلقون لمباضعهم الأعنة في تقطيع نصوصه كما يحلو لهم.

 

ولو أن هؤلاء وجدوا من يقف أمام سفههم هذا، وتلاعبهم بمقدسات الأمة، لَما تمادوا إلى هذه الدرجة، ولعل هذه الحادثة التي ذكرها القاضي عياض في كتاب (الشفا) لنموذج مشرق من نماذج الحكام الذين لا يتركون المجال أمام هؤلاء العابثين؛ وكما قال القائل:

ولو كل كلب عوى ألقمته حجرًا   ***   لأصبح الصخر مثقالًا بدينارِ 

 

يقول القاضي عياض رحمه الله تعالى: "حكم من تعرض بساقط قوله وسخيف لفظه لجلال ربه دون قصد:

• وأما من تكلم من سقط القول وسخف اللفظ ممن لم يضبط كلامه، وأهمل لسانه بما يقتضي الاستخفاف بعظمة ربه، وجلالة مولاه...

أو تمثل في بعض الأشياء ببعض ما عظم الله من ملكوته... أو نزع من الكلام لمخلوق بما لا يليق إلا في حق خالقه غير قاصد للكفر والاستخفاف، ولا عامد للإلحاد، فإن تكرر هذا منه، وعرف به دل على تلاعبه بدينه، واستخفافه بحرمة ربه، وجهله بعظيم عزته وكبريائه.

 

• وهذا كفر لا مرية فيه، وكذلك إن كان ما أورده يوجب الاستخفاف والتنقص لربه.

وقد أفتى ابن حبيب وأصبغ بن خليل من فقهاء قرطبة بقتل المعروف بابن أخي عجب[5]، وكان خرج يومًا فأخذه المطر فقال: "بدأ الخراز يرش جلوده"[6].

وكان بعض الفقهاء بها... أبو زيد صاحب الثمانية[7]، وعبدالأعلى بن وهب، وأبان بن عيسى[8]، وقد توقفوا عن سفك دمه، وأشاروا إلى أنه عبث من القول، يكفي فيه الأدب.

 

وأفتى بمثله القاضي حينئذٍ موسى بن زياد[9]، فقال ابن حبيب:

"دمه في عنقي... أيُشتم ربٌّ عبدناه ثم لا ننتصر له... إنا إذًا لعبيد سوء ما نحن له بعابدين وبكى"، ورفع المجلس إلى الأمير بها عبدالرحمن بن الحكم الأموي[10]، وكانت عجب عمة هذا المطلوب من حظاياه[11]، وأُعلم باختلاف الفقهاء، فخرج الإذن من عنده بالأخذ بقول ابن حبيب وصاحبه وأمر بقتله، فقُتل وصُلب بحضرة الفقيهين... وعزل القاضي لتهمته بالمداهنة في هذه القصة، ووبخ بقية الفقهاء وسبَّهم.

 

• وأما من صدرت عنه من ذلك الهنة الواحدة، والفلتة الشاردة ما لم يكن تنقصًا وإزراءً فيعاقب عليها، ويؤدب بقدر مقتضاها، وشنعة معناها[12].

 

بمثل هذه المواقف الجادة - التي لا تعطي الفرصة لمزيد من العابثين - تُقمع تيارات الإلحاد، وتُكسر شوكتها، أما إذا وجدوا التبجيل والاحترام وسخرت لخدمة ضلالهم ونشر إلحادهم وسائل الإعلام، فحدِّث ولا حرج عما يصيب مقدسات الأمة.


[1] نقلًا عن/ حقيقة العلمانية بين الخرافة والتخريب/ هاشم حسن فرغل صـ269، 270، طبعة دار الصابوني للطباعة والنشر.

[2] تحت راية القرآن/ مصطفى صادق الرافعي/ ص 8، 9.

[3] كتاب: النزعة المادية في العالم الإسلامي/ عادل التل ص75، ط: الأولى، دار البينة للنشر والتوزيع، سنة 1415 ه – 1995م.

[4] الكتاب والقرآن قراءة معاصرة، محمد شحرور، ص 60، 61.

[5] عجب: اسم زوجة عبدالرحمن الأموي أمير قرطبة.

[6] الخراز: من يثقب الجلود للخياطة والجلود تبل ويرش عليها الماء عند خرزها لتلين.

[7] الثمانية: بوزن العدد المعروف وقيل بمثلثة مضمومة وياء مشدد ولعلها بلدة أو قرية وكان أميرًا عليها.

[8] أبان بن عيسى سكن قرطبة يكنى أبا القاسم، كان فاضلًا زاهدًا ورعًا، وهو قاضٍ من قضاة المدينة توفي سنة اثنين وستين ومائة نصف ربيع الأول.

[9] موسى بن زياد: قاضٍ من قضاة المدينة كان معاصرًا لأبان بن عيسى وعبدالأعلى بن وهب وغيرهما.

[10] عبدالرحمن بن الحكم بن هشام صاحب الأندلس، وكان عادلًا مجاهدًا توفي سنة ثمان وثلاثين ومائتين.

[11] حظايا: جمع حظية كهيئة وهي المرأة المقربة عند زوجها وعجب هذه من زوجات عبدالرحمن أمير الأندلس.

[12] الشفا بتعريف حقوق المصطفى، القاضي عياض، (2/ 637)، الناشر: دار الفيحاء – عمان، الطبعة: الثانية - 1407 هـ.