عبادة القلوب فضائل وأجور

منذ 2022-09-29

إن مرتبة أفضل الناس لا يحوزها أحد لشريف نسبه أو لعظيم حسبه ولا لكثرة أعمال الجوارح؛ إنما يحوزها الموفقون بأعمال قلوبهم.

إن الأعمال القلبية لها منزلة وقدر وجلالة ومكانة عظيمة في الدين؛ فهي - في الجملة - أعظم من أعمال الجوارح، فقلوبنا إذا صلحت صلحت أعمالنا، وصلحت أحوالنا، وسهلت كثيرًا من مشكلاتنا، وإذا فسدت هذه القلوب فسدت أعمالنا، واضطربت أحوالنا، فالقلب هو العضو المسؤول عن التأثير والاستجابة الشعورية في جسم الإنسان، وربما قيل له "قلب"؛ لكثرة تقلبه؛ فهو كثير التقلب بالخواطر والواردات والأفكار والعقائد، يتقلب من هدًى إلى ضلالة، ومن إيمان إلى كفر أو نفاق؛ ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يُكْثِر من قول: «يا مقلب القلوب، ثبِّت قلبي على دينك»؛ (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

 

وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم و أعمالكم»، وهي محطُّ نظر الرب جل في علاه إلى هذا القلب؛ قال تعالى: {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 89].

 

وقال ابن مسعود رضي الله عنه في وصف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا أفضل هذه الأمة، وأبرها قلوبًا))؛ وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه: "فإن تفاضل ما في القلوب من الإيمان والإخلاص، وإن الرجلين ليكون مقامهما في الصف واحدًا، وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض"، وذكر ابن القيم رحمة الله عليه: "والله يضاعف بحسب حال المنفِق وإيمانه وإخلاصه وإحسانه، ونفع نفقته وقدر وقوعها؛ فإن ثواب الإنفاق يتفاوت بحسب ما يقوم بالقلب من الإيمان والإخلاص والتثبت عند النفقة".

 

واعلم – أخي - أن القلب كالملك، والجوارح كالجنود القابضة له؛ فبصلاح القلب تصلح الجوارح بالعمل الصالح، وبفساد القلب تفسد الجوارح بالمعاصي.

 

وقال صلى الله عليه وسلم: «ألا وإنَّ في القلب مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب»؛ (رواه البخاري ومسلم).

 

كما أن لذة العبادة والطمأنينة فيها والأنس فيها، وقرة العين وراحة النفس وانشراح الصدر لا تكون إلا بتحقيق أعمال القلوب، والتي هي روح أعمال الجوارح، وبالروح تكون اللذة والطمأنينة والأنس، وإن فارقتها، فأعمال الجوارح موات لا روح فيها ولا لذة ولا طمأنينة.

 

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سبعةٌ يُظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله تعالى، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه»؛ (متفق عليه).

 

ففي وسط الحر والعرَق والشمس تقترب من رؤوس الناس وتصهرهم، حتى تصبح المسافة أقل من ميل واحد فقط بعد أن كانت أكثر من 90 مليون ميل، والتعب والعطش وهول الموقف الذي وصل إليه العباد لا يمكن تخيله، وفجأة يدخل رجل وبكل سهولة في الظل؛ ظلٍّ من ظل الرحمن رب العباد.

 

من هذا؟ وماذا فعل في الدنيا؟ إنه قد يكون شخصًا عاديًّا بسيطًا، ولكنه إنسان حدث له موقف في حياته، جعله ينضم مع السبعة الأنواع الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.

 

ما هذه الأعمال التي أوصلتهم إلى هذا النعيم والفضل الرباني؟ إنها أعمال القلوب بالدرجة الأولى، إنهم أصحاب العقيدة الصادقة، والنفوس الزكية، راقبوا الله في سرهم وعلانيتهم الذين يبتعدون عن ارتكاب المعاصي؛ خوفًا ورهبة من خالقهم.

 

فالإمام العادل نُصِّب ليرعى مصالح المسلمين، فسار بهم بالقسطاس المستقيم، وانتصف للمظلوم، ومهد سبل إقامة الدين ومعرفة حدوده؛ فكانت مراقبة الله عز وجل نُصب عينيه في رعاية مصالح المسلمين؛ فأمِنَ الناس في غدوهم ورواحهم على أنفسهم وأموالهم.

وثانيهم: شاب امتلأ قوة ونشاطًا، واكتمل قوة ونموًّا، فلازم عبادة الله ومراقبته في سره وجهره، ولم تغلبه الشهوة، ولم تخضعه لطاعتها دوافع الهوى والطيش.

 

وثالثهم: رجل خلا إلى نفسه فذكر عظمة ربه، وقوة سلطانه، ورحمته على عباده، وجزيل إحسانه، فاغرورقت عيناه بالدموع، وفاضتا من خشية الله، رجاء في ثوابه وغفرانه، ورهبته من العذاب والعقاب، مشهد يدل على صدق نيته وتأثره، وعمق خشيته ورهبته من خالقه.

 

ورابعهم: من حُبِّبت إليه المساجد، فيظل متعلقًا بها، يُهرع إليها أوقات الصلاة، يتضرع إلى الله فيها، متجافيًا عن حب الدنيا وانشغاله بها، ولكن تعلق قلبه ببيوت الله؛ محبة لله ورسوله؛ فهي بيوت الله، ومجتمع المسلمين.

 

وخامسهم: رجلان تمكنت بينهما أواصر المحبة الصادقة الخالصة لله من شوائب النفاق وابتغاء النفع، سرُّهما طاعة الله، وجهرهما في مرضاته، تجمعهما رابطة الدين والمحبة.

 

وسادسهم: رجل دعته امرأة إلى منكر، اجتمعت لديها كل دواعي الفجور والعصيان من جمال ومال، ولكن هذا الرجل زجرها، وذكَّرها بقوة الله وشدة بطشه، وأن خوفه من الله تعالى يمنعه عصيانه، وإنما يصدر مثل هذا العمل من قوة الإيمان بالله والخشية والحياء منه عز وجل.

وسابعهم: رجل ينفق في سبيل الله لا يبتغي من الناس جزاء ولا شكورًا، بل ابتغاء مرضات الله سبحانه وتعالى، والطمع ورجاء الثواب من خالقه، فكان الإخلاص والبعد عن الرياء والسمعة حتى يكاد من كثرة إخفاء الصدقة لا تعلم شماله ما تنفق يمينه.

 

فهؤلاء السبعة أعمالهم في الذُّروة من التقوى والإيمان، والصلاح والخشية، والإخلاص ومراقبته الله عز وجل؛ مما جعلهم في منازل الأبرار المتقين، فلا غرو إنْ كَلَأَهم الله بحفظه وظله يوم لا ظل إلا ظله، فاللهم عفوك ورحمتك، واجعلنا منهم في ظلك يوم لا ظل إلا ظلك.

 

إن أعمال القلوب في الإسلام شأنها كبير، واختلالها هدم لعبادات الجوارح؛ من صلاة وصيام وحج ونحوها؛ فمثلًا: اختلال الإخلاص قد يؤدي إلى الشرك والنفاق، ووقوع المسلم في الكبر مانع من دخول الجنة ابتداء، والحسد يأكل الحسنات، كما تأكل النار الحطب.

 

ففي الحديث عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: ((قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الناس أفضل؟ قال: «كل مخموم القلب صدوق اللسان» ، قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: «هو التقي النقي، لا إثم فيه ولا بغيَ ولا غل ولا حسد»؛ (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني).

 

أيها الأحبة؛ فما أعظم السؤال! وما أدق الجواب! إن مرتبة أفضل الناس لا يحوزها أحد لشريف نسبه أو لعظيم حسبه ولا لكثرة أعمال الجوارح؛ إنما يحوزها الموفقون بأعمال قلوبهم.

 

فما هو مخموم القلب؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «هو التقى»؛ أي: الخائف من الله في سره وعلنه، والمراقِب له في كل أعماله، «النقي»؛ أي نقي القلب، وطاهر الباطن، «لا إثم فيه» ، وفي رواية: «لا إثم عليه»؛ أي: لا يوجد به سوء من الحقد والغل، فإنه محفوظ بحفظ الله وعنايته، وقوله: «ولا بغي»؛ أي: لا ظلم فيه ولا ميل عن الحق، «ولا غل»؛ أي: لا حقد ولا حسد؛ أي لا يتمنى زوال نعمة الغير.

 

وفي الحديث الحث عن سلامة الصدر والقلوب من الصفات الخبيثة؛ كالغل والحقد، والحسد والكذب، وغير ذلك، وإن الله تعالى ينظر إلى القلوب والأعمال فيجازي ويضاعف على ما يطلع عليه في قلب عبده من الإيمان والتقوى والإحسان وغيره.

 

وقد نخلص إلى القول: إن العبادات في حياة المسلم تنقسم إلى العبادات القلبية؛ وهي المنبعثة من القلب؛ مثل: المحبة لله والبغض في الله، والتوكل على الله، والرجاء والخوف، والإخلاص والتوبة، والإنابة والخشية من الله، والعبادات البدنية؛ وهي عبادة الجوارح؛ مثل: الصلاة والصيام والحج، وكذلك العبادات اللسانية؛ وفيها الدعاء، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتلاوة القرآن الكريم، وعبادات مالية يدخل فيها المال؛ مثل: الزكاة والصدقات ونحو ذلك.

 

وإن أعمال الجوارح مهما كثُرت وعظُمت لها وقت معلوم ومحدد؛ كالصلاة والصيام والحج، أما العبادات المتعلقة بالقلب، فإنها تكون حالَّة ملازمة للعبد في صحوه ونومه، وصحته ومرضه، وصفائه وكدره، لا تتوقف، ولا حد لها؛ فهو محب لله قائمًا أو نائمًا، وهو ذاكر لله أو غافل في كل أوقاته، مسافرًا أو مقيمًا، صحيحًا أو مريضًا، فبالعبادات القلبية يستطيع المسلم أن يعبد ربه في كل حين وكل لحظة؛ تحقيقًا لقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].

 

لأن جميع أعمال الإنسان حتى ولو كانت لها نفع دنيوي تتحول إلى عبادة، إذا كان يقصد بها وجه الله عز وجل، وذلك بالنية الصادقة والعمل وفق كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

 

فأصل الدين العبادات القلبية وعبادات الجوارح لا تُقْبَل ولا يُعتدُّ بها ما لم يصاحبها عمل القلوب، فمن صلى أو صام أو قرأ القرآن مرائيًا، كانت أعماله وزرًا وخطيئة عليه، لا أجر ولا ثواب.

 

مع العلم أن العناية بعمل القلوب ليس معناه الاقتصار عليها دون عمل الجوارح؛ إذ بين عمل القلب وعمل الجوارح تلازم ضروري، وإنَّ نقص أحدهما يؤثر على نقص الآخر؛ فالنقص في الأعمال الظاهرة إنما هو لنقص ما في القلب من الإيمان، وكمال الإيمان الواجب في القلب لا يمكن مع انعدام الأعمال الظاهرة الواجبة من الجوارح؛ لذا يلزم من وجود هذا كاملًا وجودُ هذا كاملًا، كما يلزم من نقص هذا نقص هذا.

 

ولأهمية صلاح القلوب حريٌّ بنا أن نتجول داخل قلوبنا، ونعمل على إعادة صياغة مقاصدنا ونياتنا، ونتلمس مواطن الصفاء والنقاء في قلوبنا؛ لتكون لدينا قدرة على التسامح بلا حدود وحسن النية، قلوب لا تعرف الخيانة، تحمل الوفاء والإخلاص والحب، وتسعى لجبر الخواطر، تتقوى بالإيمان والخشية من رب العباد، تعيش باليقين، تتقلب بين الرجاء والخوف، تتغذى على ذكر الله بالليل والنهار؛ فأعمارنا زادت، فهل أعمال القلوب زادت في حياتنا؟ وهل زدنا في الخضوع والخشوع؟ وهل آن الأوان لتقوية أعمال القلوب حتى نرتفع عند علام الغيوب؟

_______________________________________________________

الكاتب: سامي حسن فاسي