الوعي والقيم الإسلامية

منذ 2022-10-03

آيات من القرآن الكريم اختتمت ب: [لعلكم تعقلون، لعلهم يتذكرن، لعلهم يتفكرون...] إنها دعوة لإعمال العقل والبصيرة للوقوف على مظاهر قدرة الله سبحانه. وفيها إشارة جلية لتفعيل الوعي لدى الإنسان، وهو يشاهد الآيات والعبر ويقرأ المواعظ.

 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

آيات من القرآن الكريم اختتمت ب: [لعلكم تعقلون، لعلهم يتذكرن، لعلهم يتفكرون...] كما في قوله تعالى: {كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [73/ البقرة]، بعد ذبح بقرة بني إسرائيل، وضرب جثة المقتول بجزء منها، فأحياه الله عزَّ وجلَّ، وأخبر الناسَ عمَّن قتله ثم توفي.

إنها دعوة لإعمال العقل والبصيرة للوقوف على مظاهر قدرة الله سبحانه. وفيها إشارة جلية لتفعيل الوعي لدى الإنسان، وهو يشاهد الآيات والعبر ويقرأ المواعظ. وفي قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}  [النحل 12]، لقوم يعقلون... للناس الذين يدعوهم الدين الحق لإعمال العقل الذي منحهم الله، فيشهدون عن وعي ويقين قدرة خالقهم وحكمة بارئهم سبحانه وتعالى. وفي قوله تقدست أسماؤُه: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}  جاءت إلى مشركي العرب، ومَن كان معهم من اليهود وغيرهم... أخبار الأمم الماضية، وما كان جزاؤُهـا بعدما صدَّت تلك الأمم عمَّـا جاءهم به أنبياؤُهم من عند الله، فالذكرى هنا يلزمها الوعي بحقيقة تلك المجريات، حتى تطمئن النفس، فتدرك أن لا مناص من الإيمان بالله ورسله وبما أمر ونهى. لعلهم يتذكرون... لأهل مكة ولكافة العرب من حولها ولجميع الناس في تلك الحقبة، أُنزل القرآن الكريم بلسان عربي مبين، فالأحرى بكل قلب واع، وبصيرة نافذة أن بسمع ويتذكر فحوى مافي كلام الله من الهدى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}.

إن خاتمة مثل هذه الآيات وهي كثيرة ومتنوعة في كتاب الله العظيم فيها استنهاض لنوازع الوعي داخل الإنسان، حتى يعقل ويتذكر ويفكر ويتقي الله... إلى آخر هذه المفردات الجليلة في قدرها، والسامية فيما توحي به للناس، إنه الوعي بحقيقة خلق الناس، الوعي بما حولهم من أحداث وقصص، وما كان قبلهم، وما سيأتي بعدهم من سنن إلهية لاتتبدل في حق العصاة من الانتقام والهلاك، ولا تتبدل في حق المؤمنين من النصر والتمكين، فبالوعي يتحررالإنسان من الشيطان ووسوسته، وبالوعي يدخل المؤمن ديوان الإيمان بالله، فينجو وأهله وأرحامه ومجتمعه من عذاب يوم القيامة،  قال مالك الأشعري وهو أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها». فالويل والثبور لمَن باع نفسه للشيطان فأهلكها وأدخلها النار: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [15/ الزمر]، وطوبى لمَن أعتقها فسلمت ونجت وكانت من أهل النعيم المقيم يوم القيامة. والآيات المبشرات للمؤمنين والمؤمنات كثيرة وعديدة ومتنوعة في كتاب الله الكريم.

الوعي الذاتي هو سمة قيّمة إذ إنّ فهم الشخصية والقيم والرغبات يُساعد كل شخص ليصبح أكثر وعيًا بذاته، بالإضافة إلى ذلك فإنّ معرفة المزيد عن النفس يُساعد على إنشاء حياة أفضل، وإجراء تغييرات إيجابية لتحسين نقاط الضعف وإدراك الذات ويعزز الذكاء العاطفي، وفيما يأتي طرق لتطوير الوعي الذاتي:


إلى الغافلين كي يتيقظوا، وإلى المسيئين كي يعلموا ويرتدعوا

إنَّ تحالفَ المرتدين مع أعداء الله وأعداء رسوله صلى الله عليه وسلم ومع القوى التي مابرحت تناوئُ الإسلامَ، وتدعو إلى ثقافة جديدة، تعتمدُ على مبدأ ترحيل قيم القرآن الكريم والسُنَّة النبوية عن صدور المسلمين، والقيام بإيجاد صيغة مبتكرة جوفاء لدين الله، أو بالحرب العسكرية التي تسيل فيها الدماء اليوم في أرجاء العالم الإسلامي، وبالحروب الأخرى من فكرية واقتصادية واجتماعية، ومحاربة ما يسمونه بالتطرف والإرهاب والرجعية، وبمحاولات طمس الهوية الإسلامية الناصعة في التعليم، وإشاعة الفوضى الجنسية مستغلين ـ كذبا وزورا وخداعا ـ حقوق المرأة... إلى غير ذلك من الأبواب القبيحة التي فتحوها على أفواج أبناء المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها. ليفوِّتوا على المسلمين فرصة الحياة الدنيا التي جعلها الله زادا للآخرة، ولينغِّصوا على الأمة سعادتها بقرآنها وسُنَّةِ نبيِّها، وليحرموا أبناء الإسلام من لقاء جليل عظيم مع قرآنهم يوم القيامة، يوم يلقى القرآنُ أهلَه في عرصات الحشر، فيذكرهم بالذي أظمأهم في الهواجر، وأسهرهم الليالي، فيعطون ساعتها الملكَ بأيمانهم والخلد بشمالهم، وتوضع تيجان الفخار والوقار على رؤوسهم، ويرتقون على درجات الجنان والفراديس إلى ما شاء الله لهم من مكانة تحت عرشه جلَّ وعلا. كما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه الإمامُ أحمدُ رحمه الله.

جـاءَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم والناس في ظلمات الجاهلية الأولى، وفي فوضى ضياعها وفسادها، فأتاهم بالنور المبين، وبالنظام القويم لكل شؤون حياتهم، وبالإخاء الإنساني الشامل في ظل شريعة التسامح والتكافل والتضامن والتواد، ليجمع الناسَ ـ كلَّ الناسِ ـ تحت لواء الإسلام في مجتمع طاهر قوي نظيف، يُحرم فيه الظلمُ والاستكبارُ، ويُنهَى فيه عن الفحشاء والمنكر والبغي، ويُحصِّنُه من الانهيار الخُلُقي والنفسي، ويعصمه من التبعية لقوى الشر من الطغاة والظالمين ومحترفي الإجرام.

جاء رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لتولد أمةٌ ذاتُ شريعةٍ وقدرةٍ، وستبقى ـ بمشيئة الله ـ الأمة التي اختارها اللهُ لحملِ الدعوة الربانية إلى قيام الساعة، تذكِّرُ أهلَها بفرضية وضرورة العودة إلى أنوارِها، لكيلا تعمى القلوبُ، وتتبدَّدَ القوة المؤيَّدَة من الله. يقول تعالى: {فإنها لاتعمى الأبصارُ ولكنْ تعمى القلوبُ التي في الصدور} [46/هود]. هذه القلوب التي أفسدتْها موبقاتُ الببعد عن الله، وعن قرآنها وسُنَّةِ نبيِّها، فاشتغلت بالأهواء، فأعماها الفساد، فالويل لها يوم فسدتْ، والويل لها إن لم تصلح حالَها قبل فوات الأوان. يقول رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «الا وإنَّ في الجسدِ مضغة إذا صَلَحَتْ صَلَحَ الجسدُ كلُّه، وإذا فسدتْ فسدَ الجسد كلُّه، ألا وهي القلب». إن اقتراف المعاصي، والرضا بعمل الموبقات، وقبول ألبسة الفساد المحلية والمستوردة... هي التي أضعفت الأمة، ومهدت الطريق لأعدائها وللمرتدين من أبنائها ليمتلكوا أمرها، فمتى يتذكر أولو الألباب من أبناء الأمة ؟‍ ومتى سيعلمون أن اللهَ يجازي الناسَ بأعمالهم، يقول عزَّ وجلَّ: {ليجزي اللهُ كلَّ نفسٍ ما كسبتْ إن الله سريعُ الحساب} [51/ إبراهيم].

ولعل هؤلاء المنغمسين في بحور الرذائل والمحرمات وهم يرون مصارع قومهم قد فقدوا إحساسَهم وعقولَهم، وإلا فكيف يهنأ لهم عيشٌ، وتطيبُ لهم حياةٌ ؟‍‍‍‍‍‍ ‍‍ولكنَّ الأمرَ يلزمه قرارٌ صعبٌ من ذي إرادة وعقل حتى يُغيِّرَ حالَه البائسة المترهلة، وينقل نفسَه إلى ميادين المجد والسؤدد، تحت لواء التوحيد وحبِّ الله ورسولِه. حيثُ المبادرةُ إلى الطاعات وعمل الخيرات، والقوة التي يتغلب بها على هوى نفسِه والشيطان، ويسعى بها إلى تأكيد مسيرة أهل الفضل من الأبرار والمجاهدين، ويستخدمها في إصلاح مجتمعه بالحسنى لدفع الأعاصير العاتية التي تجتاحها في الليل والنهار. وتلك مآثر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حيثُ ادخروا قوتهم لخدمة الإسلام، وبها عاشوا في عزة وكرامة، وعليها يُبعثون، روى الإمام مسلم رحمه الله عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يُبعثُ كلُّ عبدٍ على ما مات عليه». وإن لم تتغير نفوس أبناء الأمة، وإن لم ترتفع عن الدنايا، فإن الأمة ستبقى في محيط الفوضى، وعلى مستنقعات الرذيلة، وعلى هذه المبادئ الهدَّامة التي اختلقتها الصهيونية والماسونية والقوى التبشيرية، وملأت أسواقنا بشتى بضائعها، وسلطت عليها الطغاة والمستبدين الذين كانوا على الأمة أكثر إجراما ممَّن نصَّبوهم عليها، ولا زلنا نذكر ـ على سبيل المثال ـ المنبوذ بورقيبة واستهزاءَه واستخفافَه بالأمة ودينِها، يوم ألغى المحاكم الشرعية الإسلامية، ودعا إلى الإفطار في رمضان، وإلى السفور والفجور... تماما كما يفعل مَن جاء بعده، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

جاء المصطفى صلى الله عليه وسلم فأنقذ سيرة الأمة، وحفظ عليها وعيُها، حيث انطلق أصحابُه الأبرار بإيمانهم وصبرهم وجهادهم وابتكاراتهم، فكانوا الروَّادَ في كلِّ العلوم والمعارف. فمتى يُصغي أبناءُ الأمة ـ اليوم ـ إلى نداء ربِّهم، ويفقهون معنى قوله: {لنهلكنَّ الظالمين} [14/إبراهيم]. ومتى يعلم هؤلاء الأبناء أن الله سبحانه يريد أن يمنَّ عليهم بالتوبة والفتح والتأييد، ويعيد بهم ولهم مجدَ أجدادِهم يقول تعالى: {ونريد أن نمنَّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين} [5/القصص].

وحقَّ للأمة أن تقف متأملةً معالم من سيرة الجيل الأول والزمن الأول، لتعلم مكانة نبيِّها ودينها. فقد بعثه الله هاديا ومبشرا ونذيرا.يقول الله تعالى: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عليه ماعنتتم حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ 128} {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ لْعَرْشِ لْعَظِيمِ} [التوبة 129].  ويقول سبحانه وتعالى. ولقد بشَّر به الأنبياء، يقول عزَّ وجلَّ {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مصَدِّقًالِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّااءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ} [6/الصف]، وهاهو رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج من بين العرب الذين شهدوا له بالأمانة والصدق قبل النبوة. روى الإمامُ مسلمٌ يرحمه اللهُ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ اصطفى من ولدِ إسماعيلَ، واصطفى من بني إسماعيل كنانة واصطفى من كنانةَ قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم» وكلما هلَّ شعرُ ربيعٍ الأولِ تأتي على الأمةِ ذكرى مولدِه صلى الله عليه وسلم. ففي يومِ الإثنين الثاني عشر من شهرِ ربيعٍ الأول من عام الفيل والموافق للعام 571 للميلاد وُلِدَ المصطفى صلى الله عليه وسلم.

وقد ابتهجتْ بمولدِه السماواتُ والأرضُ، وقد جعله اللهُ رحمةً للأمةِ وللعالمين من الثقلين الإنسِ والجنِّ، وقد بشَّرت به الأنبياءُ عليهم الصلاةُ والسلام، كما في الآيةِ التي أوردناه قبل فليل في سورة الصف. ولقد نقلَ ابنُ اسحق وفي سيرة ابنِ هشام أن رجالا من الأنصار قبل بعثة ومولدِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم كانوا يسمعون من اليهود المقيمين حولهم في المدينة عن قرب موعد ولادة رجل في العرب يكون نبيَّ هذه الأمة، ويقول الأنصار وكانت بيننا وبين اليهود شرورٌ ومشاكلُ، فإذا نلنا منهم ما يكرهون، قالوا: إنه تقارب زمانُ نبيٍّ يُبعثُ، وسنقتلُكم معه كقتلِ عادٍ وإرم. فلما بُعثَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كذّبوا وحاربوه لعنةُ اللهِ عليهم. كما تباشرت الجنُّ في يومِ مولدِه، وكانم العربُ يسمعون مَنْ يكلمهم ولا يرونه من الجن، بل إنَّ وحوشَ البرِّ بشَّرت به صلى الله عليه وسلم كما في قصة راعي الغنم والذئب الذي أنطقه الله وأخبر الراعي بمولده صلى الله عليه وسلم

ولقد أوردَ الإمامُ البخاري والإمامُ مسلمٍ في صحيحيهما ما صرَّحَ به هرقلُ ملكُ الرومِ حين استلمَ الرسالةَ التي بعثها النبيُّ صلى الله عليه وسلم إليه يدعوه فيها إلى الإسلامِ حيثُ قال: وقد كنتُ أعلمُ أنه خارجٌ في هذه الفترة من الزمن، ولكنْ لم أكنْ أظنُّ أنه منكم.

وُلِدَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سيِّدا لولد آدم، فكانَ خيرَ الناسِ خَلْقًا وخُلُقًا، وكان سيدَ الثقلين، بل إنَّ ربَّ العزةِ والجلالة أقسم بعُمرِه الشريفِ صلى الله عليه وسلم فقال: {لَعَمْرُكَ إنهم لفي سكرتهم يعمهون} [72/الحجر]. وأثنى اللهُ على خُلُقِه فقال: {وإنك لَعَلَى خُلُقٍ عظيم} [4/القلم]، ورفع اللهَ ذكرَه في السماوات والأرض فقال: {ورفعنا لك ذكرَك} [4/الشرح]. فاسمُه يرتفعُ مع اسمِ ربِّه خمس مرات في اليوم والليلة. وقد اتخذه الله خليلا كما ورد في حديث الإمام مسلم يرحمه الله. ولقد جبله اللهُ سبحانه على مكارمِ الأخلاقِ، ومآثر الشيم، فهو صلى الله عليه وسلم أعظمُ الخلقِ مكانةً، وأصدقُهم حديثا، وأجودُهم وأسخاهم يدا، وأشدُّهم احتمالا وصبرا، وأعظمُهم عفوا ومغفرةً، وكان لايزيدُه شدةُ الجهلِ عليه إلا حلما وتكرُّمًا، روى البخاري في صحيحه عن عبدالله بن عَمْرو رضي الله عنهما في صفة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في التوراة: (يقول الله: محمَّدٌ عبدي ورسولي، سميتُه المتوكل، ليس بفظٍّ ولا غليظٍ، ولا سخَّابٍ بالأسواقِ، ولا يدفعُ السيئةَ بالسيئةِ، ولكن يعفو ويصفحُ، ولن أقبضَه حتى أُقيمَ الملةَ العوجاءَ، بأن يقولوا: لا إله إلا الله، وأفتحُ به أعينًا عُميا، وآذانا صُمًّا، وقلوبا غُلْفًا).

فما أعظمَه من إنسان وما أجلَّه من نبي، وهو الذي يحزن إذا أصابَ أُمتَه السوءَ يقول الله تعالى: {النبيُّ أولى بالمؤمنين من أنفسِهم}  [6/الأحزاب]. يقول رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مؤمنٍ إلا وأنا أولى الناسِ به في الدنيا والآخرة، اقرؤوا إذا شئتُم» : {النبيُّ أولى بالمؤمنين من أنفسِهم} وقال صلى الله عليه وسلم: «أنا أولى الناسِ بكل مؤمن من نفسِه» أخرجه مسلم.فهو شفيعُنا يوم لاينفعُ مالٌ ولا بنون، ولذلك لايكونُ المؤمنُ مؤمنا حقًّا إلا إذا كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم أحبَّ إليه من نفسِه وماله و ولدِه والناسِ أجمعين. أخرج البخاري في صحيحه أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لايؤمنُ أحدُكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من والدِه و ولدِه والناسِ أجمعين» وأخرج أيضا أنه صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيدِه لايؤمنُ أحدُكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من والدِه و ولدِه». ولذا افتدتْ نسيبة أم عمارة الأنصارية رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بنفسِها وزوجِها و ولديْها يومَ أُحُد، وحين رأى النبيُّ صلى الله عليه وسلم هذا التَّفاني منها ومن أسرتها قال: «بارك اللهُ عليكم أهلَ بيت»، فسمعتْه نسيبة فقالت: ادعُ اللهَ أن يجعلَنا نرافقُك في الجنة. فقال صلى الله عليه وسلم: «اللهم اجعلْهُم رفقائي في الجنة» وعند ذلك قالت الصَّحابية الفدائية رضي اللهُ عنها: ما أُبالي ما أصابني من أمر الدنيا: فذلكُم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم التي لايكملُ إيمانُ المرءِ إلا بحبِّه وطاعته، قال صلى الله عليه وسلم: «ثلاثٌ مَنْ كُنَّ فيه وجدَ حلاوةَ الإيمانِ: أن يكونَ اللهُ ورسولُه أحبَّ إليه ممَّا سِواهُما. وأنْ يحبَّ المرءَ لايُحبُه إلا للهِ، وأنْ يكرهَ أن يعودَ في الكفرِ كما يكرهُ أنْ يُقذَفَ في النار» (رواه البخاري ومسلم).

ومن أجلِ أن يكونَ المسلمُ مترجما لحقيقةِ حبِّه لرسولِه صلى الله عليه وسلم فإنه يجبُ أن توافقَ أعمالُه أقوالَه، ويراعي المحبة في تقديم أوامرِه على كل مافي حياتِه الدنيويةِ. ولقد سُئل الخليقةُ الراشديُّ عليُّ بنُ أبي طالب رضي الله عنه، كيف كان حبُّكم لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال: كان واللهِ أحبَّ إلينا من أموالِنا وأولادِنا وآبائنا وأمهاتِنا، ومن الماءِ الباردِ على الظمأ. وحين سألَ أبو سفيان (قبل أن يُسلم) الصحابي زيدَ بنَ الدَّثِنَة رضي الله عنه، وقد أخرجه كفارُ مكة ليقتلوه، وكان أسيرا لديهم.فقال له أبو سفيان: أُنشدُك بالله يازيدُ أتحبُّ أنَّ محمدا الآن عندنا مكانك نضربُ عُنُقَه وإنك في أهلك ؟! فقال زيد رضي الله عنه: واللهِ ما أُحبُّ أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبُه شوكةٌ تؤذيه وإني جالسٌ في أهلي.فقال أبو سفيان: مارأيتُ من الناسِ أحدا يحبُّ أحدا كحبِّ أصحابِ محمدٍ محمَّدا. وعن أنس رضي الله عنه قال: (لما كان يومُ أحدٍ حاصَ أهلُ المدينةِ حَيصةً، قالوا: قُتِلَ محمَّـدٌ. حتى كثرت الصوارخُ في ناحية المدينة. فخرجتْ امرأةٌ من الأنصار متحزِّمةً، فاستُقبلتْ بابنِها (أي بخبر استشهادِ ابنها) ثم بأبيها ثم بزوجها وأخيها، قال أنس: لاأدري بأيِّهم استُقبلت أولا. فلما مرَّت على أحدِهم قالت: مَنْ هذا ؟ قالوا: أبوك، أخوك، زوجُك، ابنُك. فقالت: مافعلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالوا: أمامك. حتى دفعتْ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فأخذتْ بناحيةِ ثوبِه ثمَّ قالت: بأبي أنت وأمي يارسولَ الله، لاأبالي إذْ سلمتَ من عطبٍ). رواه ابن هشام في السيرة وأورده صاحب البداية والنهاية.

وبمولدِه صلى الله عليه وسلم جاءَ الحقُّ وظهرَ دينُ الله، وانقسم الناسُ إلى فريقين، فريقٍ كفرَ وصدَّ عن سبيلِ الله فخسرَ وخابَ وكان أهلُه من أصحابِ النار، وفريقٍ آمن واتبعَ الهدى ففازَ في الدارين، وكان من أصحاب الجنَّةِ. يقول الله تعالى في سورةِ محمَّـدٍ صلى الله عليه وسلم: {الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضلَّ أعمالهم، والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزِّلَ على محمد وهو الحق من ربهم كفَّرَ عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم} [1/2/3/محمد]. والمؤمنون ينجون بفضل إيمانهم بربهم وبنبيِّهم صلى الله عليه وسلم في أول منازل الآخرة، ألا وهو عذابُ القبر، فهو للكافر حفرة من حفر النار، وللمؤمن المقبولِ روضةٌ من رياض الجنة، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنَّ الشهيدَ والمرابطَ في سبيلِ اللهِ ومَن يموتُ في يوم الجُمُعَةِ من أُمتِه صلى الله عليه وسلم والمبطون... يُعصَمون من عذابِ القبرِ بفضلٍ من الله ورحمة. كما تحظى أُمتُه بشفاعتِه يوم القيامةِ، فيُخرِجُ المؤمنين من النارِ، وله أيضا الشفاعةُ الكبرى، وهي خاصةٌ له دون الأنبياء في ذلك الموقف العظيم.

وببركته صلى الله عليه وسلم تُحاسبُ أُمتُه أول الناسِ، ويسترُ اللهُ على أهلِ الذنوبِ ذنوبَهم فلا يفضحهم على رؤوسِ الأشهاد، وإن أولَ  الأعمالِ حسابا الصلاةُ فإن قُبلت قُبلَ العبدُ ونجا، ومَن ضيَّعها في الدنيا خسرَ وخابَ يومَ الحساب. فإذا وُضِعتْ أعمالُ الناسِ في الميزان، وهو ميزان حقيقي له كفَّتان، وإنما تُثقلُه الأعمالُ الصالحاتُ الباقياتُ، كما جاءَ عن نبيِّنا صلى الله عليه وسلم من أذكار مثلِ: لا إله إلا الله، وسبحان الله وبحمدِه وسبحان الله العظيم، كما يُثقلُه حُسْنُ الخُلُقِ. ثمَّ تأتي أمةُ محمَّدٍ إلى حوضِه المورود، ومَنْ شربَ منه فإنه لايظمأُ أبدا، ولكل نبيٍّ حوضٌ، وأعظمُها حوضُ نبيِّنا محمَّـدٍ r: ماؤُه أبيضُ من اللبنِ، وأحلى من العسلِ، وأطيبُ من المسكِ، وآنيتُه ذهبٌ وفِضَّةٌ، كعددِ نجومِ السماءِ التي يراها الناسُ في ليالي الدنيا، وطولُ الحوضِ أبعدُ من أيْلَة بالأردن إلى عدن في اليمن كما جاء عن المصطفى صلى الله عليه وسلم، ويأتي ماءُ الحوضِ من نهر الكوثر الذي خصَّ اللهُ به رسولَه محمَّدًا صلى الله عليه وسلم. ويأتي فضلُ رسولِ الله على الأمةِ بعدَ فضلِ ربِّه عليه وعلى أمتِه عند الصراطِ، وهو جسرٌ ممدودٌ على ظهرِ جهنَّمَ ليعبرَ عليه المؤمنون إلى جنَّاتِ الخلودِ، وقد وصفه النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقال: «إنه مدحَضَةٌ مزلَّةٌ، عليه خطاطيفُ وكلاليبُ كشوكِ السَّعدانِ، أدقُّ من الشَّعرةِ وأحدُّ من السَّيفِ» (رواه مسلم). وعنده يُعطَى المؤمنون النور على قَدرِ أعمالِهم، فأعلاهم كالجبال، وأدناهم في طَرَفِ إبهامِ الرجلِ، فيضيءُ لهم فيعبرونه بقدر أعمالِهم أيضا، فيمرُّ المؤمنُ كطَرْفِ العينِ وكالبرقِ وكالريح وكأجاوِدِ الخيلِ، وكما قال نبيُّنا صلى الله عليه وسلم: «فناجٍ مُسَلَّمٌ مرسَلٌ، ومكدوسٌ في جهنم» (متفق عليه). أما الكافرون والمنافقون فلا نورَ لهم، يرجعون طلبا للنور، فيضربُ بينهم وبين المؤمنين بسور، فلا يجدون نورا، ويطلبون أن يجوزوا على الصراطِ فيتساقطون في جهنم. ثمَّ يأتي بعد ذلك فضلُ أبي القاسمِ صلى الله عليه وسلم أيضا. ففي الحديث الذي يرويه البخاري رحمه الله يقول رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يخلصُ المؤمنون من النارِ فيُحبسون على قنطرةٍ بين الجنة والنارِ، فيُقتَصُّ لبعضِهم من بعضٍ مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هُذِّبُوا و نُقُّوا أذِنَ لهم في دخولِ الجنةِ، فوالذي نفسُ محمَّدٍ بيدِه لأَحدُهُم أهدى بمنزلِه في الجنةِ منه بمنزلِه كان في الدنيا». كلُّ ذلك في جنَّةٍ أعدَّها اللهُ لأوليائه المؤمنين من خلقِه، وفي الجنةِ مالا عينُ رأتْ ولا أُذُنٌ سمعتْ ولا خطرَ على قلبِ بشر. بناؤُها فضةٌ وذهبٌ وملاطُها مسكٌ، وحصباؤُها لؤلؤ وياقوت وترابُها زعفران، لها ثمانيةُ أبوابٍ، عرض البابِ منها مسيرةُ ثلاثةِ أيام، لكنه يغصٌّ من الزحام، وفي الجنةِ 100 مِئَةُ درجةٍ مابين الدرجتين كما بين السماء والأرض. الفردوسُ أعلاها ومنه تتفجرُ أنهارُها، وسقفُه عرشُ الرحمن جلَّ جلالُه، وأنهارُها عسلٌ ولبنٌ وخمرٌ وماءٌ، تجري دون أخدودٍ، يُجريها المؤمنُ كيف شاء، أُكُلُها دائمٌ دانٍ مذلَّلٌ، بها خيامٌ من لؤلؤ مجوَّفةٌ عرضُها ستون ميلا، للمؤمنِ في كلِّ زاويةٍ فيها أهلٌ جُرْدٌ مُرْدٌ كُحْلٌ، لايفنى شبابُهم ولا ثيابُهم، لابولٌ ولا غائطٌ ولا قذارةٌ، أمشاطُهم ذهبٌ ورشحُهُم مسك، نساءُ الجنةِ حِسانٌ أبكارٌ عرُبٌ أترابٌ، وأولُّ مَن يدخلُ الجنَّةَ محمَّدٌ وأُمتُه، يتمنى المرءُ فيها شيئا فيُعطَى عشرةُ أمثالِ ماطلب، وأعظمُ ما فيها رؤيةُ الله الرحيم الرحمن، ثم رضوانُه سبحانه وتعالى، ثم الخلودُ فيها. هذا الفضلُ أرشدنا إليه نبيُّنا صاحبُ هذه الذكرى، ذكرى مولدِه صلى الله عليه وسلم في هذه الأيام المباركات، فالدنيا ستفنى وتبلى، ثمَّ إلى جنَّةٍ أو نارٍ، يقول صلى الله عليه وسلم: «كلُّ أُمتي يدخلون الجنةَ إلا مَن أبى». قالوا: ومَنْ يأبى يارسولَ الله ؟ قال: «مِنْ أطاعني دخلَ الجنةَ ومَن عصاني فقد أبى». وقال نبيُّنا صلى الله عليه وسلم: «لايدخلُ الجنةَ مدمنُ خمرٍ، ولا مؤمنٌ بسحرٍ، ولا قاطعُ رَحِمٍ، ولا كاهنٌ، ولا منَّان». وقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قطعَ ميراثَ وارثِه قطعَ اللهُ ميراثَه من الجنة يومَ القيامةِ». وقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كانت الدنيا همَّه جعلَ اللهُ فقرَه بينَ عينيه، وفرَّقَ عليه شملَه، ولم يأْتِه من الدنيا إلا ما قُدِّرَ له». وقال صلى الله عليه وسلم: «من تشبَّه بقومٍ فهو منهم» وفي حديثٍ آخرَ: «ليس منَّا مَنْ تشبَّه بغيرِنا». وقال صلى الله عليه وسلم: «مِنْ تركَ صلاةَ العصرِ حَبِطَ عملُه». وقال صلى الله عليه وسلم: «إياكم والحسد فإن الحسدَ يأكلُ الحسناتِ كما تأكلُ النارُ الحطبَ» أو قال: (العشبَ). وهكذا نقرأُ لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم العديدَ من النصائحِ والإرشاداتِ، ونستبين من خلالها سبلَ النجاةِ، ونتعرفُ على ماينفعُنا، وعلى مافيه ضررٌ لنا ولأمتنا، وهدانا إلى جميعِ المآثرِ والفضائلِ في كلِّ شأن من شؤون الحياة، من حُسنٍ للخُلُقِ، والرحمةِ بالناسِ والبدء بالسلام، والتحابُبِ في الله، والمداومةِ على فعل الخيرات، والستر على المسلمين، وارتداءِ لباسِ التقوى الذي تراه في تقديم الأعمال الصالحة، كإدامةِ الوضوءِ والصلاةِ والذكر والصدقة، واغتنام الأوقات والساعات الفاضلات في جوف الليلِ، وعند انشغال الناسِ في النهار، وفي مخالفة الشيطان الذي يحاول إبعاد المسلمين عن الاقتداءِ برسولِهم صلى الله عليه وسلم في قراءة القرآنِ بتدبُّر وعمل، وفي الاشتغال بذكرِ اللهِ وقيام الليلِ والتَّضرع للهِ عندَ السَّحر، والمحافظةِ على الجماعة في المساجد فذاك هو الرباط. إنَّ ما أصابَ الأمةَ اليومَ إنما لبعدِها عن هَدْيِ نبيِّها صلى الله عليه وسلم، وذلك بما كسبتْ أيادي أبنائها ــ هداهم اللهُ ــ قال تعالى: {ما أصابك من حسنة فمن الله، وما أصابك من سيئةٍ فمن نفسِك}. ومن رحمةِ الله بهذه الأمة أنه لن يهلكها، وقد ينالُ الأعداءُ منها، ولعلها ترجعُ إلى رحابِ سُنَّةِ المصطفى صلى الله عليه وسلم فيصلح اللهُ حالَها، وما ذلك على اللهِ بعزيز. فالخيرُ كلُّ الخيرِ بيد الله ومن عنده سبحانه، يقول رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «والخيرُ كلُّه في يديك، والشرُّ ليس إليك» (رواه مسلم).

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

____________________________________________________

الكاتب: شريف قاسم