الأخلاق طريق السعادة
ليس سعادة الأمّة وعزّة ديارها بكثرةِ أموالها ولا بجمَال مبانيها ولكن سعادتها وعزّتها برجالٍ تثقّفت عقولهم وحسُنت أخلاقهم وصحّت عقائدُهم واستقامت تربيّتهم واستنارت بصائرُهم، أولئك هم رجالُ الأخلاقِ والقوّة، وذلكم هو بإذن الله مصدرُ العزّة.
عبادةٌ تُقرِّب العبدَ من ربّه وتقربه إلى الناس، بها يثقُل الميزانُ يومَ القيامة، وتُرفَع الدرجاتِ وتزيدُ الحسنات، وثوابُها يتَضاعَف ولو باليسير منها، وخيرُ الخلقِ من كان مؤمِنًا واتّصَف بها، وهي أكثر ما يدخِل الناسَ الجنَّةَ، بها يكمُل الإيمانُ وتكون أعلى الدرجاتِ في الآخرة لمن أدَّاها، وهي مُنجِية برحمةِ الله من النّار، وبعَث الله نبيَّه محمّدًا صلى الله عليه وسلم للدَّعوةِ إليها، وقد كانَ النبيّ صلى الله عليه وسلم يدعو ربَّه في صلاتِه أن ينالها، وأقربُ الناسِ منزلةً إلى الرّسُل يومَ القيامةِ أحسنُهم اتصافاً بها، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يوصِي صحَابتَه بها.
إن تلكم العبادة - أيها المؤمنون - هي حسن الخلق.
الأخلاق - يا عباد الله - حُلَّة تقصُر دونها الحُلَل وسِتر لا يغني عنه سِتر، وهل افترق الإنسان عن حيوان الغابِ وسِباع الدواب إلا بالأخلاق؟!
الأخلاقُ تمتزِج بتصرّفات الإنسان كلِّها، في سلوكه جميعِه وأحواله كلِّها، في جدِّه وهزلهِ، وفرَحه وحزنِه، ورضاه وسَخَطه، وخطئِه وصوابِه. إنَّ نيل السّعادة والعيش في أكنافها، لا يُدرك بالمنصِب ولا بالجاه ولا يُنال بالشّهوات ومُتَع الحياة ولا بِجمال المظهَر ورقيق اللّباس، لا يُنال إلا بلباسِ التّقوى ورِداء الخُلُق، عملٌ صالح وقول حسَن، {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ}.
لنبحَث - أيها المؤمنون - بعنايةٍ عن أصولِ الأخلاق ومزكّيات النّفوس، ولنتأمّل في الأمانةِ والصّدق والعفّة والمروءة والحِلم والصّبر والاعتراف بالحقّ لأهله والجميلِ لأصحابه، ولنقدّر ما عند الآخرين مِن الفضلِ والعِلم والخِبرة، ولنؤثِر الحقَّ ولنحِبَّ أهلَه ولنأخُذ بالرّحمة وفروعِها وقوّة الإرادة وضبطِها والصّبر ومظاهِره وسماحةِ النّفس وعلوّ الهمّة والاحترامِ المتبادَل.
إنّ لمحاسنِ الأخلاق في دينِنا مكانةً عالية، فاتَّصفَ الرسُلُ عليهم السلام بأعاَليها وجميلِها؛ فنوحٌ عليه السلام صبر في دعوته تِسعمائة وخمسين عامًا، وإبراهيمُ عليه السَّلام كان كَريمًا، وإسماعيلُ عليه السَّلام كان صَادِقَ الوَعدِ، ويوسُف عليه السَّلام كان عفواً وقال : {لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ}، وموسَى عليه السَّلام كان حيِيًّا لا يُرى شَيءٌ من جِلدِه، ونبيُّنا محمّدٌ صلى الله عليه وسلم أكمَلُ الناسِ أَخلاقًا، وصَفَه الله بقولِه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}.
نشَأ نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعاش متحلِّيا بكلِّ خلقٍ كَريمٍ مبتَعِدًا عن كلِّ وَصفٍ ذَميم، قال له رجلٌ: يا خيرَ البريّة، فقالَ مُتواضعًا «ذاك إبراهيمُ» (رواه مسلم). وكان أكرمَ الخلقِ نَفسًا فما ردَّ سائلاً، وأطلقَهم وجهًا، قال جرير رضي الله عنه: ما رآني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلاَّ تَبَسَّم، وأشدَّهم وفاءً، إن مَرِض أحدٌ من صحابتِه عادَه، وإنِ افتقَده سأل عَنه، وكان أرحمَهم قلبًا، يتَجوَّز في صلاتِه إذا سمِع بكاءَ الصَّبيّ كراهَةَ أن يشقَّ علَى أمّه، وألينَهم طبعًا، إذا دخَل إلى بيتَه اشتغَل في مهنةِ أهله، وكان أعظَمَهم صبرًا، خَرج من بيتِه والحَجَر على بطنِه من الجوعِ فمَا اشتَكى، وأوسَعَهم عَفوًا، قاتله أعداؤُه وأَدمَوه ولما فتَح مكّةَ قال لهم «اذهَبوا فأنتمُ الطلقاءُ»، وأوفرَهم حِلمًا، آذاه قومُه فسَأله ملَك الجِبال أن يطبقَ عليهم جبلين فأبى، وقال لعائشةَ رضيَ الله عنها «عليكِ بالرِّفقِ، وإيَّاك والعنفَ والفحشَ» (متفق عليه). ولم يضرِب شيئًا قطّ بيدِه ولا امرأةً ولا خادمًا، (رواه مسلم).
بل انظروا إلى عباداتُ الإسلام الكبرى وأركانه العظمى، فهي تربينا على حسن الخلق، فالصّلاة تنهى عن الفحشاءِ والمنكر، والزّكاة صدقةٌ تطهِّر المسلمَ وتزكّيه، والصيام يجعل الصائم يدع قولَ الزور والعمل به والجهلَ، والحجّ لا رفث ولا فسوق ولا جدال فيه، ومن لم يكن له من عبادتِه ما يزكّي قلبَه ويطهِّر نفسَه ويهذّب سلوكه ويُحسِّن خلقه وينظّم صلتَه بالله وبالنّاس فليحاسِب نفسَه حتى لا يكونَ من المفلسين، «والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن مَن لا يأمَن جاره بوائقَه»، «ومَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرِم ضيفَه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقُل خيرًا أو ليصمت»، (والحياء شعبة من الإيمان).
عباد الله، المسلمون الأوائل فتحوا بلادًا إسلامية لم تتحرك إليها جيوش، ولم تزلزل بها عروش، ولم يرفع بها سيف ولا رمح، بل تجارٌ صالحون بأخلاقهم حقّقوا الفتح فكان فتحًا خُلُقيًا، ذهبوا يتعاملون بالدّرهم والدينار، فحقّق الله لهم بأخلاقهم الانتصار، بأخلاق أدهشت العقول والأفكار، وسلوك حسنٍ لفت الأنظار، فالعودة العودة - عباد الله - إلى مكارم الأخلاق قولاً وعملاً ودلالةً ومضمونًا، لا سيما وأن البعض زهد فيها، ورحل إلى أخلاق غير المسلمين، وبعضهم جمع من العلم فأوعى، لكنه خلا من الخلق الأوفى، وفقد آخرون الإخلاص والنية، فأخلاقهم نفعية لمصالح أرضية، فهو يبتسم للمصلحة، ويرحّب للمنفعة، أخلاقه توصف بأنها عالية، لكنها لمطالب دنيوية فانية، يرى أنها مظهر من مظاهر الحضارة، أو متطلب من متطلبات العمل، وهي في الحقيقة زيف ودجل، يتكلّفها المسكين على حظوة من مدير أو ثناء من بشر، فأنى له أن ينال أجرًا وثوابًا لعمل صار هباءً منثورًا؟!
لقد افتقدنا كثيرًا من الأخلاق الحميدة، فأين الحب والوفاء؟! أين الصدق والإخاء مع الخدم والضعفاء؟! أين العدل مع العمال والفقراء؟! أين بر الوالدين؟! أين حقوق الأقارب والجيران؟! أين معاشرة الناس بالحفاوة والوفاء؟! أين صدق الحديث؟! أين أداء الأمانة؟! أين معاشرة الزوجة بالإكرام والاحترام؟! أين بشاشة الوجه؟! أين طيب الكلام؟! أين إفشاء السلام؟! وأين، وأين، وأين؟!
أيها المسلمون، إن الأخلاقَ في ديننا تكاليفُ مطلوبَة كسائر العباداتِ والمطلوباتِ الشرعيّة فمنها الفرض والسنّة، ومنها المذموم والمنهيّ عنه تحريمًا وكراهة.
والحديث عن الأخلاق - ياعباد الله - ليس ترفًا علميًا، وليس نافلة في درجات العمل، بل هو طريق إلى السعادة لمن حسّن خلقه، وطريق إلى الشقاوة لمن أساء تعامله.
أيها المسلمون، إن من أخطر ما يضر الأخلاق ويفسد السلوك ويدمّر الفضائل حب الدنيا، فهو رأس كل بليّة، من أجلها يغشّ التجار، ومن أجلها يخون الناس الأمانات، بسبب حبّ الدنيا تُنكث العهود، وتجحد الحقوق، بسببها تنسَى الواجبات، وتستباح المحرمات، من أجل حب الدنيا يكذب العباد ويزوّرون، ومن أجلها تداس القيم ويباع الدين والشرف والعرض.
إن للأخلاق - يا عباد الله - ميزانًا واحدًا لا يتغير بتغير الأزمان والأماكن أو الأشخاص، لا يتغير بتغير الأشخاص ومواقعهم ومناصبهم، فالأخلاق مع الأغنياء والفقراء والضعفاء والكبراء، وكذا مع الحشم ومع الخدم، في حالة الفرح وفي حالة الألم، كما هي مع الزوجة والولد، بحب وصدق وصفاء، على قدم سواء، بما يرضي ربّ الأرض والسماء. فليس مع الأغنياء التزلّف والمديح، ومع الفقراء الاحتقار والتوبيخ.
ولا تنعدم الأخلاق حتى مع الأشرار، فمن الناس من تحسن إليه، وتتخلق معه اتقاء شره، ولو اشتغلت بتأديب كلّ جهول أعيتك الحيل.، فعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أن رجلاً استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فلما رآه قال: «بئس أخو العشيرة، وبئس ابن العشيرة»، فلما جلس تطلق النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه، وانبسط إليه، فلما انطلق الرجل قالت له عائشة: يا رسول الله، حين رأيت الرجل قلت له: كذا وكذا، ثم تطلقت في وجهه وانبسطت إليه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عائشة، متى عهدتني فَحّاشًا؟! إن شر الناس عند الله منزلةً يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شرّه» (رواه البخاري). قال الله تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}.
أيها المسلمون، إن ميزان الخلق لا يتغير مع اختلاف الزمان، فالخير يبقى خيرًا أبدًا، والشر يبقى شرًا أبدًا، والفضيلة تبقى فضيلة إلى يوم القيامة. فالسفور والتبرج مثلاً شر أبدًا، وهو دنس ورذيلة، ولا يتغير في زمن آخر على أنه تقدّم ورقيّ وفضيلة، وإلا اختلّ ميزان الأخلاق، وتعرضنا لسخط العليم الخلاّق. والوفاء بالوعود والانضباط بالمواعيد خير أبدًا، وسيبقى خيرًا إلى يوم القيامة مهما تغير الزمان.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا بُنَيَّ أَقِمْ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ * وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ}.
حسنُ الخلُق بابٌ عظيم لعلَّ فيه ما يعالِج ما انتابَ كثيرًا مِن المسلمين في هذا العصرِ من انحرافٍ وهبوط، فأمّة الإسلام تمرّ عليها في كثيرٍ من ديارها ومواقعها محنٌ عصيبة، مصائبُ لا تزَال تنصبّ ونوائب تنزِل، كأنّها لم تجِد غيرَ ديار المسلمين ديارًا، ولا غيرَ منازلهم منازلاً.
وإنّ دروسَ التاريخ وعبَر الزمن لتبيِّن أنّ كلَّ أمّة نهضت وكلّ حضارة ازدَهرت كان ذلك كلُّه بإذن الله وأمره بفضل أبنائِها الذين ملكوا نفوسًا قويّة وعزائمَ مضّاءة وهِممًا عالية وأخلاقًا زاكية وسِيَرًا فاضلة، يحكم ذلك سياجٌ الدّين الحقّ والعقيدة الراسخة، ابتعدوا عن سفاسِف الأمور ومحقَّرات الأعمال ورذائلِ الأفعال، لم يقَعوا فريسةً للفساد أو أسرَى الملذّات والشّهوات والاشتغال بعيوب الآخرين.
وليس سعادة الأمّة وعزّة ديارها بكثرةِ أموالها ولا بجمَال مبانيها ولكن سعادتها وعزّتها برجالٍ تثقّفت عقولهم وحسُنت أخلاقهم وصحّت عقائدُهم واستقامت تربيّتهم واستنارت بصائرُهم، أولئك هم رجالُ الأخلاقِ والقوّة، وذلكم هو بإذن الله مصدرُ العزّة.
عباد الله:
طوبى لمن شغَله عيبُه عن عيوبِ النّاس، وإيّاك أن تُسرَّ حين تمدَح بما ليس فيك، فهذا سخريةٌ منك وهُزء بك، وأنت أعرَف بنفسِك فلا تغترَّ بمَدح، ومن ابتُلي بالعجب فليفكِّر في عيوبه، وتعرَّف على أخلاقك بالنّظر في أحوالك في غضبِك وإذا خلوتَ وإذا احتجتَ وإذا استغنيتَ وإذا قدرتَ وإذا عجزتَ، واعلم أنّ النمامَ يفسِد في ساعة ما لا يفسِده الساحر في سنة، والحرّ عبدٌ ما طمِع، والعبدُ حرٌّ ما قنِع، ولا مروءةَ لمن لا دين له، وإهمالُ ساعة يفسِد رياضةَ سَنة، وإذا ذهَب حظّ النفس حضَر الإخلاص، وإذا انضمّ إلى الإخلاص الصوابُ كمُل النّصاب، والنفس غيرُ السّويّة تثير الفوضى في أحكمِ النُّظُم، والنّفس الكريمَة ترقع الفتوقَ في الأحوالِ المضطَربة، فتحِسن المسيرَ في أجواء الأعاصير، وإذا لم تصلُحِ النّفوس أظلمتِ الآفاق وبرزَت الفِتن.
ألا فاتّقوا الله رحمكم الله، واستقيموا على الدّين، واستمسِكوا بكريم الخلُق، فكمال العقول مقدّم على كمال الرّياضات والأجسام، فهل يتفكّر في ذلك المتفكّرون، وينظر في ذلك المربّون؟.
ثم صلّوا وسلّموا على صاحبِ الخلق العظيم نبيّكم محمّد الكريم، فقد أمركم بذلك الحكيم العليم فقال عزّ شأنه قولاً كريمًا: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ.......}.
_______________________________________________
الكاتب: الشيخ مراد عياش اللحياني
- التصنيف: