التعصب المرذول!
كثيرًا ما يظن البعض أنه بمجيء الإسلام انتهت عبادة الأصنام، ولم يخطر ببال هؤلاء أن لكل عصرٍ أصنامَه، وإن اختلفت صورة تلك الأصنام، فالله تعالى تعبَّدنا بأمورٍ لا تُصرف لسواه، ومتى صرفت كان هذا الغير بمثابة "الصنم" أيًّا كان شكله...
كثيرًا ما يظن البعض أنه بمجيء الإسلام انتهت عبادة الأصنام، ولم يخطر ببال هؤلاء أن لكل عصرٍ أصنامَه، وإن اختلفت صورة تلك الأصنام، فالله تعالى تعبَّدنا بأمورٍ لا تُصرف لسواه، ومتى صرفت كان هذا الغير بمثابة "الصنم" أيًّا كان شكله، شجرًا كان أو حجرًا أو طائرًا أو إنسانًا، وهأنذا أَلْفِتُ النظرَ لما كان عليه الأقدمون من انحرافٍ فى العبادة، وصرفها لغير الله، ثم أعرِّج على أحوال المسلمين اليوم مبيِّنًا أن ثمّ تشابهًا وقع بينهما.
انطماس الفطرة:
لقد عاشت البشرية رَدَحًا من الزمن مطموسةَ الفطرة، منكفئًا أهلها على أوهامٍ اعتقدوها صوَّرتها لهم عقولُهم؛ فكانوا قبل الإسلام يحسِّنون القبيحَ ويقبِّحونَ الحسنَ، وربما زينت لهم عقولُهم المريضةُ تعذيبَ أنفسهم وتعطيل مصالحهم، وحملهم ما لذَّ وطاب من الشراب والطعام والحليِّ لأحجار سافروا إليها أميالاً؛ بغية أن ترضى عنهم هذه الأحجار!!
ولما كان أمر الخلق والخالق سبحانه وتعالى أمرًا فطريًّا في نفوس البشر، جلَّ أن يغضَّ الطرف عنه أو ينكره عقل، سلَّموا لذلك وأقرُّوه؛ قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزمر: 38].
لكنهم راحوا يبرِّرون صنيعهم باتخاذ هذه الأحجار والأشجار والآلهة بقولهم: إنما هي وسيلة لتقرِّبهم إلى الإله الخالق جلا وعلا؛ {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3].
وبرغم ما كان للعرب قديمًا من صفات حميدة كصيانة الأعراض، والذَّود عنها بكل ما أوتوا، فربما استعرت الحرب بين قبيلتين سِنينَ؛ مثلما حدث بين (داحس) و(الغبراء)، وبرغم ما جُبلوا عليه من كرمٍ ضُربت به الأمثال، إضافة إلى سبق لسانهم بالفصحى، يتبارى فيها شعراؤهم فى محافلهم مثل سوق عكاظ ومجنَّة وذي المجاز.. برغم كل هذا وغيره، ضاقت عقولهم وعميت أبصارهم وبصائرهم، وانطمست فطرتهم عن أن يروا الحقيقة التى نطق بها الكون، وصرفوا العبادة عن الخالق سبحانه - مع اعترافهم بوجوده وخلقه - وجعلوها لأصنام اتخذوها، لا تنفع ولا تضر!
ومع تعدد صور الآلهة عندهم (أحجار، أشجار، نار، كواكب، نجوم ..) تتعدد مللهم ونحلهم، حتى إذا ما نظرتَ إليهم وجدتَهم مع قوَّتهم وإذعان القبائل لهم وعلمهم وأدبهم، ضعفاءَ منقادين جهلة أمام ما اتخذوا من آلهة.
دينٌ جديدٌ:
وهكذا دارت بهم الحياة حتى جاءهم النور الذي أضاء به الكون وبدّد بوجوده ظلام معتقداتهم، وأمام هذه الحقيقة التى جاء بها سيد الخلق محمد - صلى الله عليه وسلم - وقفوا حيارى مشدوهين، ثم أجمعوا أمرهم لا على اتباع الحق الساطع الذي تألفه العقول الذكية، وتقبله الطباع السويَّة؛ بل على وَأْد كلِّ ما دعا إليه هذا الدين الجديد الذي جاء به هذا الرسول، دعتهم لذلك عصبيتهم البغيضة لقبائلهم وتمجيدهم لأشخاص بعينهم؛ بل لقد كانت الإغارة على الغير عادة عند بعض القبائل، يُظهر ذلك قول الشاعر:
وَأَحْيَانًا عَلَى بَكْـرٍ أَخِينَا ♦♦♦ إِذَا ما لَمْ نَجِـدْ إِلَّا أَخَـانَا
وراح القوم يكيدون كيدًا مستغلِّين سطوتهم وجبروتهم فى الصدِّ عن هذا الدين؛ يقول عزَّ من قائل، مبيِّنًا وضاعة أدواتهم أمام إرادته سبحانه: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة: 32]، مستنكرين أن يسوَّى بينهم وبين عبيدهم؛ بل يجمع الآلهة فى إله واحدٍ؛ {أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5]، وهو ما استبعدوه، وراحوا يضعون الخطط يتزعمهم الشيطان وأخذوا رأيهم فى القضاء على الدعوة فى مهدها: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30].
ومع ما لاقاه النبي - صلى الله عليه وسلم - من عنت ومشقَّة، جعلته يدعو قومه سرًّا ويجتمع بأصحابه خفية، ظلَّ صابرًا محتسبًا، لا يدعو عليهم بعذاب يستأصل شأفتهم، ويطهِّر البشرية من رجسهم، شعارُه: "لعل الله يخرج من أصلابهم من يوحِّد الله"، وظلَّت الدعوة مهدَّدة حتى أظهر الله دينه وأتمَّ كلمته: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33].
وكتب الله لجزيرة العرب حالة أخرى بعد الكرِّ والفرِّ، والمعاهدات والمشاحنات، ودخل الناس فى دين الله أفواجًا، وصارت للمسلمين قوة ومنعة، وهكذا تمضي السنون وتُسَنُّ القوانين والنظم، وتفتح الفتوح ويتوالى الخلفاء، وتتَّسع رقعة الدولة الإسلامية التي رست قواعدها في وقت لا يساوي فى ميزان الدول شيئًا، حتى آلت إلى ما هي عليه الآن.
مسلمو هذا العصر:
ووسط حالة من التمزُّق حطَّت الأمة رحالها فى هذا العصر، وقد أصابها ما أصابها، حتى لا تكاد يُسمَع لها صوت كما كانت بُعَيْدَ مجيء الإسلام!
وبنظرة لما كان عليه العرب قبل الإسلام وما عليه المسلمون اليوم، نجد من القواسم المشتركة وأوجه الشبه ما يندى له الجبين، و(كأن) بعض المسلمين اليوم لا يزالون في مرحلة التِّيهِ والبحث عن إلهٍ يعبدونه!
فقد تنازع بعض مسلمي اليوم - إلا من رحم ربي- العصبيات، وتفرَّقوا على حطام الدنيا الزائل، وتوحّدوا على طمس القيم والمبادئ التى تقوِّض مضاجعهم، وتأتي على مصالحهم وآرائهم ومكانتهم؛ بدعوى التحرر من القيد، وأن الإسلام في المساجد بعدما أُشربوا الفتنة واستعذبوها، وصاروا عن الغرب في نشر مبادئهم وكلاء، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!
ولله درُّ القائل:
أنّى نظرت إلى الإسلام في بلدٍ *** تجدْهُ كالطير مقصوصًا جناحاهُ
كم صرَّفتنا يدٌ كنا نصرِّفهـــــــا *** وبات يحكمنا شعب ملكنــــــــاهُ
وما يدهش – مما يندى له الجبين- أن بعض هؤلاء اتخذوا لهم من دون الله أوصياءَ اعتبروهم (أولياء) ينذرون لهم، ويحلفون بهم، ويذبحون أمامهم، بل إن الأمر تعدَّى ذلك باتخاذ الفنانين والممثلين ولاعبي الكرة وغيرهم قدوةً ومثالاً يأتمرون بأمرهم وينتهون بنهيهم، وصارت السينما والتليفزيون والمباريات هي ما يزرع الفضيلة، وتحضُّ على مكارم الأخلاق، حتى جُنَّ جنون البشر بمتابعتهم إياها، وتمجيدهم لروَّادها ونجومها الذين يظهر عوارهم بين الحين والآخر، ومن ثم عوار معتقداتهم ومرجعياتهم، حتى أمست عبارات من أمثال: "أنا عبد المأمور" غير مستهجنة، والأعجب من هذا أن من يتبع هذه الدعوات الباطلة بإقامة الموالد لأموات يذبحون لهم فيها وينذرون، والائتمار بالحمقى والجهلة، أيًّا كان موقعهم - مديرين أو رؤساء أو غير ذلك – وأيًّا كانت مهنتهم – ممثلين أو لاعبي كرة أو غيرهم - وتمجيدهم واتخاذهم قدوة، من يتبع هذا يبرِّره بمثل ما برر به السابقون حين عبدوا الأصنام وإن اختلفت العبارة، معتبرين أن (هؤلاء وسيلتهم للتقرُّب إلى الله).
والحقيقة أقول: إن التاريخ يعيد نفسه، وإن الإسلام لا ينتصر بعددٍ ولا عُدَّةٍ فقط، بل بالتمسك بالتعاليم واتباع المنهج الحق المبين المنزَّل من الله، المنزه عن التحريف، والتعامل بالمنهج النبوي في رد كيد الأعداء مثلما فعل النبي الأمين صلى الله عليه وسلم: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21].
بهذا يكون الفوز ونستحق أن نتسمى بالإسلام، وإلا فما الفرق بين من يعتقد في حجرٍ قديمًا (الأصنام)، يتقرب إليه بغية أن ينفعه أو يصرف عنه سوءًا، ومن يعتقد في البشر الآن (أصنام هذا العصر)؟!
___________________________________________________________
الكاتب: محمد جمال حليم
- التصنيف: