ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر
ومن فوائد الآية: الإشارة إلى أن العناية بتزكية النفوس أجدر من العناية باستقبال الجهات.
{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177].
{لَيْسَ الْبِرَّ} [البقرة: 177] اسمٌ جامع لكل خير، وطاعة لله ورسوله، وأصل البر: سعة الإحسان، وشدة المرضاة، والخير الكامل الشامل؛ ولذلك توصف به الأفعال القوية الإحسان، فيُقال: بر الوالدين، وبر الحج؛ وقال تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]، والمراد به هنا بر العبد ربه بحسن المعاملة في تلقي شرائعه وأوامره.
وقيل: البر في الأصل الخير الكثير؛ ومنه سمي (البر)؛ لسعته واتساعه؛ ومنه (البَرُّ) اسم من أسماء الله؛ كما قال تعالى: {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور: 28].
{أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [البقرة: 177] قال قتادة: "قبلة النصارى مشرق بيت المقدس؛ لأنه ميلاد عيسى على نبينا وعليه السلام؛ لقوله تعالى: {مَكَانًا شَرْقِيًّا} [مريم: 16]، واليهود مغربه"، ويزعم كل فريق أن البر ذلك.
وقيل: "سبب نزولها إنكار الكفار على المؤمنين تحويل قبلتهم عن بيت المقدس إلى الكعبة".
ومن فوائد الآية: الإشارة إلى أن العناية بتزكية النفوس أجدر من العناية باستقبال الجهات، فنَفَى البر عن استقبال الجهات، مع أن منها ما هو مشروع كاستقبال الكعبة؛ إما لأنه من الوسائل لا من المقاصد، فلا ينبغي أن يكون الاشتغال به قصارى همة المؤمنين؛ ولذلك أسقطه الله عن الناس في حال العجز والنسيان، وصلوات النوافل على الدابة في السفر؛ ولذلك قال: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ...} [البقرة: 177]، فإن ذلك كله من أهم مقاصد الشريعة، وفيه جماع صلاح النفس والجماعة؛ ونظير هذا قوله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة: 19]، فيكون النفي على معنى نفي الكمال، وإما لأن المنفى عنه البر هو استقبال قبلتي اليهود والنصارى، فذلك الاستقبال غير مشروع في أصل دينهم، ولكنه شيء استحسنه رهبانهم؛ ولذلك نفى البر عن تولية المشرق والمغرب؛ تنبيهًا على ذلك.
{وَلَكِنَّ الْبِرَّ} [البقرة: 177] البر الحقُّ لا يحصل باستقبال المشرق والمغرب، بل بمجموع أمور {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 177]، ويتضمن أربعة أمور: الإيمان بوجوده، والإيمان بربوبيته، والإيمان بألوهيته، والإيمان بأسمائه وصفاته؛ مما أثبته الله سبحانه وتعالى لنفسه، أو أثبتته له رسله من الأسماء والصفات إثباتًا بلا تمثيل، وتنزيهًا بلا تعطيل؛ على حد قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].
{وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 177]، ويشمل كل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت؛ كفتنة القبر، ونعيمه، وعذابه، وقيام الساعة، والبعث، والحساب، والصراط، والميزان، وتناول الكتب باليمين أو الشمال، والجنة، وما ذكر من نعيمها، والنار، وما ذكر من عذابها، وغير ذلك مما جاء في الكتاب والسنة عن هذه الأمور مفصلًا أحيانًا، ومجملًا أحيانًا.
والإيمان باليوم الآخر يستلزم الاستعداد له بالعمل الصالح؛ ولهذا يقرن الله سبحانه وتعالى الإيمان أن يقوم العبد بطاعته سبحانه وتعالى؛ فالذي يقول: إنه مؤمن باليوم الآخر، ولكن لا يستعد له فدعواه ناقصة، ومقدار نقصها بمقدار ما خالف في الاستعداد.
{وَالْمَلَائِكَةِ} [البقرة: 177]، ويشمل الإيمان بذواتهم، وصفاتهم، وأعمالهم إجمالًا فيما علمناه إجمالًا، وتفصيلًا فيما علمناه تفصيلًا.
ونؤمن على سبيل الإطلاق بأنهم عباد مكرمون، وممتثلون لأمر الله عز وجل، لهم نصيب من تدبير الخلق بإذن الله؛ منهم الموكَّل بالقَطَرِ، والنبات، والموكَّل بالنفخ في الصور، وفيهم ملائكة موكلة بالأجنة، وملائكة موكلة بكتابة أعمال بني آدم، وملائكة موكلة بحفظ بني آدم؛ كما قال تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 11]، لكن كل هذا بأمر الله عز وجل وبإذنه، وليس لهم منازعة لله عز وجل، ولا معاونة في أي شيء من الكون؛ قال الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 22، 23]، فنفى جميع ما يتعلق به المشركون:
{لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} انفرادًا، {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ} مشاركة، {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} معاونة، {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} ، فنفى الشفاعة والوساطة إلا بإذنه، ثم قال تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ: 23]، وهم الملائكة إذا سمعوا الوحي صُعقوا؛ فليس لهم أي شيء في التصرف في الكون، لكنهم يمتثلون أمر الله عز وجل.
{وَالْكِتَابِ} [البقرة: 177]: تعريف الجنس المفيد للاستغراق؛ أي: آمن بكتب الله تعالى المنزلة على رسله، ووجه التعبير بصيغة المفرد أنها أخف مع عدم التباس التعريف بأن يكون للعهد؛ لأن عطف النبيين على "الكتاب" قرينة على أن اللام في "الكتاب" للاستغراق، فأُوثرت صيغة المفرد؛ طلبًا لخفة اللفظ.
فنؤمن بأن كل كتاب أنزله الله على أحدٍ من رسله، فهو حق: صدق في الأخبار، وعدل في الأحكام، ولكننا لا نكلف بالعمل بما فيها فيما جاءت شريعتنا بخلافه.
والكتب المعروفة لدينا هي: التوراة، والإنجيل، والزبور، وصحف إبراهيم، وصحف موسى، والقرآن الكريم، وصحف موسى اختلف العلماء أهي التوراة أو غيرها، وأما ما لم نعلم به فنؤمن به إجمالًا، فتقول بقلبك، ولسانك: آمنت بكل كتاب أنزله الله على كل رسول.
{وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة: 177]، فنؤمن بكل نبي أوحى الله إليه، فمن علمنا منهم نؤمن به بعينه، والباقي إجمالًا؛ وقد ورد في حديث صححه ابن حبان أن عدة الرسل ثلاثمائة وبضعة عشر رسولًا، وأن عدة الأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألفًا؛ فإن صحَّ الحديث فهو خبر معصوم يجب علينا الإيمان به، وإن لم يصحَّ؛ فإن الله تعالى يقول: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر: 78]، ونحن لا نكلف الإيمان إلا بما بلغنا، فالذين علمناهم من الرسل يجب علينا أن نؤمن بهم بأعيانهم، والذين لم نعلمهم نؤمن بهم إجمالًا؛ كما قال تعالى: {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة: 285]؛ وقد ذكر في القرآن أربعة وعشرون رسولًا؛ قال تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ} [الأنعام: 84]؛ أي: إبراهيم، {إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 84 - 86]؛ فهؤلاء ثمانية عشر، ويبقى شعيب، وصالح، وهود، وإدريس، وذو الكفل، ومحمد صلى الله عليه وسلم.
ولم يصرح في الآية بالإيمان بالقدر؛ لأن الإيمان بالكتاب يتضمنه.
وقدم الملائكة والكتب على الرسل، وإن كان الإيمان بوجود الملائكة، وصدق الكتب، لا يحصل إلا بواسطة الرسل؛ لأن ذلك اعتبر فيه الترتيب الوجودي؛ لأن الملك يوجد أولًا ثم يحصل بوساطة تبليغه نزول الكتب، ثم يصل ذلك الكتاب إلى الرسول، فرُوعيَ الترتيب الوجودي الخارجي، لا الترتيب الذهني.
وقدم الإيمان على أفعال الجوارح؛ وهو: إيتاء المال، والصلاة والزكاة؛ لأن أعمال القلوب أشرف من أعمال الجوارح، ولأن أعمال الجوارح النافعة عند الله تعالى إنما تنشأ عن الإيمان.
{وَآتَى الْمَالَ} [البقرة: 177]: أعطى المال؛ قال الشعبي: "إن في المال حقًّا سوى الزكاة، وتلا هذه الآية"، {عَلَى حُبِّهِ} [البقرة: 177]، مع شدة حبه له، وتعلق النفس به، وهذا وصف عظيم، أن تكون نفس الإنسان متعلقة بشيء تعلق المحب بمحبوبه، ثم يُؤثِرُ به غيره ابتغاء وجه الله تعالى؛ كما جاء في الحديث الشريف الذي رواه البخاري عن هريرة رضي الله عنه، قال: ((جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أي الصدقة أعظم أجرًا؟ قال: «أن تصدق، وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر، وتأمل الغنى، ولا تمهل، حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان».
وذكر أصنافًا ممن يؤتون المال؛ لأن إتيانهم المال ينجم عنه خيرات ومصالح:
{ذَوِي الْقُرْبَى} [البقرة: 177]: من تقرب إليك بولادة؛ أي: أصحاب القرابات بالنسب، الأقرب فالأقرب... أمر المرء بالإحسان إليهم؛ لأن مواساتهم تكسبهم محبتهم إياه، والتئامهم، وهذا التئام القبائل الذي أراده الله بقوله: {لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13]، فليس مقيدًا بوصف فقرهم - كما فسر به بعض المفسرين - بل ذلك شامل للهدية لأغنيائهم، وشامل للتوسعة على المتضائقين، وترفيه عيشتهم؛ إذ المقصود هو التحابب.
قال بعض أهل العلم: إن إعطاء ذوي القربى أولى من إعطاء اليتامى، والمساكين؛ لأن الله بدأ بهم، اللهم إلا أن يكون هناك ضرورة في اليتامى ترجح إعطاءهم.
{وَالْيَتَامَى} [البقرة: 177]: من مات والده وهو لم يبلغ الحنث، فأما من ماتت أمه، فليس بيتيم، ومن بلغ فليس بيتيم؛ وسُمِّيَ يتيمًا من اليتم؛ وهو الانفراد؛ ولهذا إذا صارت القصيدة جميلة، أو قوية يقولون: هذه الدرة اليتيمة؛ يعني أنها منفردة ليس لها نظير.
واليتامى مظنة الضعف؛ لظهور أن المراد اليتيم المحتاج حاجة دون الفقر، وإنما هو فاقد ما كان ينيله أبوه من رفاهية عيش، فإيتاؤهم المال يجبر صدع حياتهم.
{وَالْمَسَاكِينَ} [البقرة: 177]: الفقير المعدَم الذي أسكنته وأذلته الحاجة، فلم يقدر على التصرف.
{وَابْنَ السَّبِيلِ} [البقرة: 177] المسافر البعيد، الدار المنقطع عن أهله وماله، ولو كان غنيًّا في بلده، فليس معه ما يوصله إلى بلده، سُمِّيَ بذلك لملازمته السبيل؛ وهو الطريق.
{وَالسَّائِلِينَ} [البقرة: 177]: الفقير المحتاج الذي أذن له في سؤال الناس لدفع غائلة الحاجة عن نفسه؛ لأن شأن المرء أن تمنعه نفسه من أن يسأل الناس لغير حاجة غالبًا، فالسؤال علامة الحاجة غالبًا، ولو أدخل الشك في العلامات الاعتيادية لارتفعت الأحكام، فلو تحقق غنى السائل لَما شرع إعطاؤه لمجرد سؤاله.
{وَفِي الرِّقَابِ} [البقرة: 177]: عتق العبيد، والمكاتب، وفكاك الأسرى.
والترتيب جاء للأولى فالأولى... وثنَّى بإيتاء المال بعد ذكر الإيمان؛ لأن المال من آثر الأشياء عند العرب، ومن مناقبها الجلية، ولهم في ذلك أخبار وأشعار كثيرة، يفتخرون بذلك حتى هم يحسنون للقرابة، وإن كانوا مسيئين لهم، ويحتملون منهم ما لا يحتملون من غير القرابة.
فلما كان ذلك من شيمهم الكريمة، جعل ذلك من البر الذي ينطوي عليه المؤمن، وجعل ذلك مقدمة لإيتاء الزكاة، يحرص عليها بذلك؛ إذ من كان سبيله إنفاق ماله على القرابة واليتامى والمساكين، وإيتاء ابن السبيل على سبيل المكرمة؛ فلأن ينفق عليه ما أوجب الله عليه إنفاقه من الزكاة التي هي طهرته، ويرجو بذلك الثواب الجزيل عنده أوكد وأحب إليه.
{وَأَقَامَ الصَّلَاةَ} [البقرة: 177]: إقامتها الإتيان بها مستقيمة؛ لأن أقام الشيء يعني جعله قائمًا مستقيمًا، وليس المراد بإقامة الصلاة الإعلام بالقيام إليها، واعلم أن (الصلاة) من الكلمات التي نقلها الشارع عن معناها اللغوي إلى معنى شرعي؛ فمعناها في اللغة: الدعاء؛ كما قال تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 103]؛ أي: ادع لهم بالصلاة، فقل: صلى الله عليكم، ولكنها في الشرع: عبادة ذات أقوال وأفعال معلومة، مفتتحة بالتكبير، ومختتمة بالتسليم.
وهذا النفي السابق للبر، والاستدراك لا يحمل على ظاهرهما؛ لأنه نفى أن يكون التوجه إلى القبلة برًّا، ثم حكم بأن البر أمور؛ أحدها: الصلاة، ولا بد فيها من استقبال القبلة، فيُحمل النفي للبر على نفي مجموع البر، لا على نفي أصله؛ أي: ليس البر كله هو التوجه للقبلة.
{وَآتَى الزَّكَاةَ} [البقرة: 177] أيضًا من الكلمات التي نقلها الشرع عن معناها اللغوي إلى معنى شرعي؛ فالزكاة في اللغة من زكا يزكو - أي نما وزاد - وبمعنى الصلاح؛ ومنه قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس: 9]؛ أي أصلحها، وقومها، لكن في الشرع "الزكاة" هي التعبد ببذل مال واجب في مال مخصوص لطائفة مخصوصة؛ وسميت زكاة؛ لأنها تنمي الخلق، وتنمي المال، وتنمي الثواب؛ تنمي الخلق بأن يكون الإنسان بها كريمًا من أهل البذل، والجود، والإحسان، وهذا لا شك من أفضل الأخلاق شرعًا وعادة، وتنمي المال بالبركة، والحماية، والحفظ؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما نقصت صدقة من مال»؛ وتنمي الثواب؛ كما قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261]؛ وفي البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب - ولا يصعد إلى الله إلا الطيب - فإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبه، كما يربي أحدكم فَلُوَّه حتى تكون مثل الجبل».
وقدمت الصلاة على الزكاة؛ لأنها أفضل العبادات البدنية، وتكرر في كل يوم وليلة، وتجب على كل عاقل بالشروط المذكورة.
{وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} [البقرة: 177]: لا يتأخرون عن الإيفاء بالعهد عن وقت المعاهدة، وذكر الوفاء بالعهد لِما فيه من الثقة بالمعاهد، ومن كرم النفس، وكون الجد والحق لها دربة وسجية، وإنما قيَّد بالظرف؛ وهو {إِذَا عَاهَدُوا} [البقرة: 177]؛ أي: وقت حصول العهد، فلا يتأخر وفاؤهم طرفة عين، وفيه تنبيه على وجوب الاحتياط عند بذل العهد بحيث لا يعاهد، حتى يتحقق أنه يستطيع الوفاء، كأنه يقول: فإن علموا ألَّا يفُوا فلا يعاهدوا... فالوفاء بالعهد فيه فضيلة فردية، وهي عنوان كمال النفس، وفضيلة اجتماعية؛ وهي ثقة الناس بعضهم ببعض.
{وَالصَّابِرِينَ} [البقرة: 177]: الصبر: حبس النفس على طاعة الله، أو عن معصيته، أو على أقداره المؤلمة... فهم صابرون في أمور لهم فيها طاقة، وأمور لا طاقة لهم بها.
وأعلى هذه الأنواع: الصبر على طاعة الله؛ لأن فيه تحملًا، ونوعًا من التعب بفعل الطاعة؛ ثم الصبر عن المعصية؛ لأن فيه تحملًا، وكفًّا عن المعصية، والكف أهون من الفعل؛ ثم الصبر على أقدار الله المؤلمة؛ لأنه على شيء لا اختيار للعبد فيه، ولهذا قيل: "إما أن تصبر صبر الكرام، وإما أن تسلو سلو البهائم".
{فِي الْبَأْسَاءِ} [البقرة: 177]: مشتقة من البؤس، وهو سوء الحالة من فقر ونحوه من المكروه؛ قال الراغب: وقد غلب في الفقر، ومنه البئيس الفقير، فالبأساء الشدة في المال {وَالضَّرَّاءِ} [البقرة: 177]: شدة الحال على الإنسان كالمرض وما يضر أحوالهم، مشتقة من الضر، ويقابلها السراء: وهي ما يسر الإنسان من أحواله، {وَحِينَ الْبَأْسِ} [البقرة: 177]: عند القتال واشتداده في سبيل الله تعالى، وهذا من باب الترقي في الصبر من الشديد إلى أشد، وفيه استيعاب لأنواع الصبر.
فلله هذا الاستقراء البديع الذي يعجز عنه كل خطيب وحكيم غير العلَّام الحكيم، وقد جمعت هذه الخصال جماع الفضائل الفردية والاجتماعية، الناشئ عنها صلاح أفراد المجتمع من أصول العقيدة وصالحات الأعمال.
{أُولَئِكَ} [البقرة: 177]: الذين جمعوا تلك الأوصاف الجليلة، من الصدق مع الله بحسن الإيمان والعمل، والصدق مع الناس بحسن العهد.
{الَّذِينَ صَدَقُوا} [البقرة: 177]: أي: في دعواهم الإيمان والبر، وهو الصدق في الأحوال، وهو مقابل الرياء؛ أي: أخلصوا أعمالهم لله تعالى دون رياء ولا سمعة، بل قصدوا وجه الله تعالى، وكانوا عند الظن بهم.
{وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177]: فحصر فيهم الصدق والتقوى حصرًا ادعائيًّا للمبالغة، ودلت على أن المسلمين قد تحقق فيهم معنى البر، وفيه تعريض بأن أهل الكتاب لم يتحقق فيهم؛ لأنهم لم يؤمنوا ببعض الملائكة وبعض النبيين، ولأنهم حرموا كثيرًا من الناس حقوقهم، ولم يفوا بالعهد، ولم يصبروا، وفيها أيضًا تعريض بالمشركين؛ إذ لم يؤمنوا باليوم الآخر، والنبيين، والكتاب، وسلبوا اليتامى أموالهم، ولم يقيموا الصلاة، ولم يؤتوا الزكاة.
وقد اشتملت هذه الآية الكريمة على الدين كله بأقسامه الثلاثة: الإسلام من صلاة وزكاة؛... إلخ، والإيمان بالله وملائكته؛... إلخ، ومن إحسان في وفاء وصدق وصبر وتقوى الله تعالى؛ إذ هي مراقبة الله سرًّا وعلنًا.
خالد سعد النجار
كاتب وباحث مصري متميز
- التصنيف: