قبائح تؤذي المؤمنين في حياتهم الاجتماعية (1)

منذ 2022-11-16

سوف أتناول ستة أمراض خطيرة على المجتمع، والتي تُخالف في حقيقتها قِيَمَ المجتمع الإسلامي، وهي مظهر من مظاهر سوء الخُلق في الحياة الاجتماعيَّة...

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على سيِّد الأنبياء والمرسلين.

 

أمَّا بعدُ:

فالمجتمع الصالح يجب أن يكون أفراده كالجسد الواحد في تعاونهم؛ إسهامًا في السَّراء والضرَّاء، ومشاركةً في الحال والمآل، والمؤمن لا يَعتزل الناس، بل يُقيم بينهم صابرًا عليهم، مُصَحِّحًا نيَّته في ذلك، فإن هذه طريقة الأنبياء - عليهم السلام - والخلفاء والأئمَّة المتَّقين، ويُجاهد نفسه بالعلم وآدابه، وتسديده وتقويمه، وليس الطريق إلى السلامة من الآفات الهرب من الناس، فما تلك طريقة الأنبياء والمُصلحين.

 

فالمجتمع الذي اصطبَغ أفراده بصبغة بالإيمان، لا يرضى بأن يَستشري في جسده أمراض جاهليَّة خبيثة؛ إذ هو أقرب ما يكون إلى تقوى الله، وابتغاء مَرضاته.

 

وسوف أتناول ستة أمراض خطيرة على المجتمع، والتي تُخالف في حقيقتها قِيَمَ المجتمع الإسلامي، وهي مظهر من مظاهر سوء الخُلق في الحياة الاجتماعيَّة؛ حيث ورَد ذِكرها في الآيتين الكريمتين من سورة الحجرات، مبيِّنًا ضررَها وخطرَها على المسلمين في حياتهم؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 11- 12].

 

مظاهر سوء الخُلق التي تؤذي المؤمنين في حياتهم الاجتماعية:

السخرية:

الله - سبحانه وتعالى - عمَّ بنَهْيه المؤمنين؛ تنزيهًا لمجتمعهم أن يسخروا من مؤمن، ومما يزيد من هذا العموم عمقًا، أنَّ الله - سبحانه وتعالى - نهى الجنسين عن السخرية، ونهى كلَّ جنس أن يسخرَ بعضُه من بعض.

 

وقد علَّل الله - سبحانه وتعالى - النهي للجنسين عن السخرية؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ} [الحجرات: 11].

 

هذا التفصيل يُقصد منه استئصال مرض السخرية من المجتمع المؤمن، فالمسخور منه لا شكَّ أنه قد يكون خيرًا من الساخر، وإن لَم يكن خيرًا منه، فهو مثله في الإنسانيَّة والإيمان، فلا وجه للسخرية للأمرين؛ يقول جار الله الزمخشري عند تفسير آية الحجرات: "والمعنى وجوب أن يعتقدَ كلُّ ساخرٍ أنَّ المسخور منه ربما كان عند الله خيرًا من الساخر؛ لأنَّ الناس لا يَطلعون إلا على ظواهر الأحوال، ولا عِلْمَ لهم بالخفيات، وإنما الذي يَزِن عند الله خلوص الضمائر وتقوى القلوب، وعِلْمهم بذلك بمعزلٍ، فينبغي ألاَّ يَجترئ أحد على الاستهزاء بِمَن تَقتحمه عينه، إذا رآه رَثَّ الحال، أو ذا عاهة في بدنه، أو غير لَبيِقٍ في مُحادثته، فلعله أخلَصُ ضميرًا وأتقى قلبًا ممن هو على ضد صفته، فيَظلم نفسه بتحقير مَن وقَّره الله والاستهزاء بمن عظَّمه الله"[1].

 

ولقد بلَغ زُهد السلف الصالح في الخوف من السخرية حدًّا بعيدًا؛ صيانة لأنفسهم، وتوقِّيًا لها من الوقوع في شرور السخرية، وما أشْنَعها وأقبحها حين تَنتشر هذه الصفة الخبيثة بين أفراد المجتمع، فيَكثر الساخرون الذين لا يراعون ما نهى الله ورسوله عنه، ويقل الذين يراعون أمرَ الله ونَهْيه، ويدفعون الساخرين ويَزجرونهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

 

ومن القبائح التي تؤذي المؤمنين في حياتهم الاجتماعية:

اللمز:

وهو "العيب والطَّعن والضَّرب باللسان، وعيب الغير في غيبته"، ويُشبه الغمز في الوجه، وأصله "الإشارة بالعين والرأس والشفة مع كلام خفي"[2].

والنهي عن السخرية واللمز ليس فقط ما في الآفتين من الأضرار وبذور التفرقة والعدوان في المجتمع، وإنما لأنهما من معالم الكفر والنِّفاق، والمعاول التي يُهدم بها الدين، ويُنال من المؤمنين؛ لذلك كانت الآية تخاطب نفوس المؤمنين في عُمق، وتسترحم ضمائرهم لأنفسهم، وتُثير عاطفتهم؛ {وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} [الحجرات: 11]؛ أي: لا تعيبوا بعضكم بعضًا؛ فإنكم كفرد واحد، فلا يحلُّ لمؤمن أن يعيبَ أخاه المؤمن؛ لأن من عاب أخاه المؤمن، كأنما عاب نفسه.

 

والْتِزام المسلمين بذلك مع الأُمم التي دَعَوها إلى الإسلام، من أبرز الأسباب التي فتَحَت لهم قلوب الناس واختاروهم عمَّن سواهم.

والمجتمع المؤمن في الأصل لا يتَّصف بهذه الصفات؛ لأنه مجتمع متماسك كالبُنيان يشدُّ بعضه بعضًا، واللمز مؤدٍّ إلى العداوات والمُشاحنات، وقد يؤول الأمر إلى التقاتُل وسَفْك الدماء.

 

مِن مظاهر سوء الخُلق التي تؤذي المؤمنين في حياتهم الاجتماعية:

النبز واللقب:

وهو "دعاء المرء صاحبَه بما يَكرهه من اسم أو صفة، وعمَّ الله بنَهْيه ذلك، ولَم يُخَصِّص به بعض الألقاب دون بعضٍ، فغير جائز لأحد من المسلمين أن يَنبِز أخاه باسمٍ يَكرهه، أو صفة يكرهها"[3].

 

ولا فرْقَ في ذلك بين اللقب والكنية التي تُشعر بالذَّم، فالاتفاق حاصل بين أهل العلم على تحريم تلقيب الإنسان بما يَكره؛ سواء كان صفة له، أو لأبيه، أو لأُمه، أو لغيرهما، والدِّين يرفض هذا ولا يُجيزه؛ تمسُّكًا بهذا النهي من ربِّ العالمين؛ {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} [الحجرات: 11]؛ أي: لا يَحِلُّ لمؤمن أن يُلَقِّب أخاه المؤمن بلقب يَكرهه، فإن ذلك يُفضي إلى العداوة والبغضاء، ولَم يُسْتَثنَ من هذا إلاَّ ما كانت الحاجة إليه ماسَّة، ولا يُعْرف المُلَقَّب إلا بلقبه، لا لقَصْد نَبْزه بلقبٍ؛ كما هو العمل عند علماء الجرح والتعديل.

 


[1] الكشَّاف؛ الزمخشري، باب سورة الحجرات، ج 4 / 368، ط 3، 1407، دار الكتاب العربي: بيروت.

[2] انظر: لسان العرب، مادة: "لمز، وهمز".

[3] جامع البيان؛ ابن جرير الطبري، ج 26، ص 133، 1408، دار الفكر، بيروت، لبنان.

_________________________________________________________

الكاتب: أ. سلمان الجدوع