الفساد: صور ومخاطر

منذ 2022-12-12

إن عالم اليوم يموج بفتن وبلايا، عمت بنيرانها مجتمعات وأفرادًا، واستشرت في أوساطهم حمى الفساد الذي أصبح هاجسًا مقلقًا يتنادى العقلاء لدرئه

إن عالم اليوم يموج بفتن وبلايا، عمت بنيرانها مجتمعات وأفرادًا، واستشرت في أوساطهم حمى الفساد الذي أصبح هاجسًا مقلقًا يتنادى العقلاء لدرئه، وهذا أمر مطلوب شرعًا، فقضية الفساد عالجها القرآن في أكثر من خمسين آية كلها تحذِّر من الفساد والإفساد بجميع صوره وشتى أشكاله، حتى يبتعد المسلمون عنه.

 

والفساد هو كل عمل ضد الإصلاح، قال تعالى: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ}؛ يعني: لا يحب المعاصي، وقطع السبيل، وإخافة الطريق، (تفسير الطبري) وقيل: الفساد هو الخراب، والآية بعمومها تعم كل فساد كان في أرض أو مال أو دين، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى. (تفسير القرطبي).

 

وفي مطلع سورة البقرة رد على أهل الفساد الذين يزعمون الإِصلاح، فقال تعالى في شأن المنافقين: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة: 11]، فهم يرون عملهم وإفسادهم إِصلاحًا: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 12].

 

وأعظم فساد هو فساد الدين والعقيدة بالشرك والبدع والخرافات؛ قال تعالى: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} [الأعراف: 56]؛ أي: لا تشركوا بالله في الأرض ولا تعصوه فيها، وذلك هو الفساد فيها (الطبري)، ومن ذلك فساد الأفكار بالإلحاد، والدعوة إلى الضلال، ومخالفة الشريعة والتنكر لها.

 

وفساد المعاصي خطره جسيم وشؤمه وبيل، كما في التنزيل: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41]، وبالطاعة والعبادة تصلح أحوال الدنيا والآخرة، فتزكو الأعمال والأخلاق ويبارك في الأرزاق.

 

والإسراف ومجاوزة الحد في الغي والتمادي في المعاصي إفساد؛ قال تعالى على لسان موسى عليه الصلاة والسلام: {كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [البقرة: 60].

 

وسفك الدم الحرام من أشنع صور الفساد، ولذا قالت الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة: 30]، وقتل النفس المعصومة بغير حق من كبائر الذنوب؛ قال صلى الله عليه وسلم: «لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ»؛ (أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ)، وقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا»؛ (أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ).

 

ومن صور الفساد الذي فشا بين العباد الفساد الاجتماعي من عقوق الوالدين وقطيعة الرحم وإساءة الجوار، قال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22].

 

والسحرُ والشعوذة فساد وإفساد، فقال تعالى: {فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 81]، وقد سمى الله تعالى فاعله مفسدًا، وذلك لما يترتب عليه من فساد الأسر والتفريق بين الزوجين وخراب البيوت، ومن أسباب الفساد تأخير الزواج وعضل المرأة ومنعها من كفئها، قال صلى الله عليه وسلم: «إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ»؛ (أخرجه الترمذي).

 

ومن الفساد بخس الموازين وتطفيف المكاييل؛ قال تعالى على لسان شعيب: {فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} [الأعراف: 85]، ومن الفساد الغش في البيع والمعاملات، فلما مر النبي صلى الله عليه وسلم على صُبْرَةِ طعام فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا، فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلًا، فَقَالَ: «مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ» ؟»، قَالَ: أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «أَفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ، مَنْ غَشَّ، فَلَيْسَ مِنِّي»؛  (أخرجه مسلم).

 

ومن صور الفساد التعامل بالرشوة وقبولها، وهذا بلاء عظيم، ففي الحديث: «لعن الله الراشي والمرتشي»؛ (رواه أبوداود والترمذي وابن ماجه).

 

ومن الفساد الاعتداء على الأموال والممتلكات العامة بالاختلاس، واستغلال المنصب والوظيفة للمصلحة الذاتية، وهذا كله فساد وخيانة للأمانة، وقد وبخ النبي صلى الله عليه وسلم من يستغل منصبه وعمله في استجلاب منافعه الخاصة، فقال: «مَا بَالُ الْعَامِلِ نَبْعَثُهُ فَيَأْتِي، يَقُولُ: هَذَا لَكَ وَهَذَا لِي، فَهَلَّا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَيَنْظُرُ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لَا»؟ (أخرجه البخاري)، وقال صلى الله عليه وسلم: «هَدَايَا الْعُمَّالِ غُلُولٌ»؛ (رواه أحمد)، فهدايا العمال حرام؛ لأنها طريق يوصل إلى تضييع الأمانة بمحاباة المهدي لأجل هديته.

 

ومن مظاهر الفساد الغش في التعليم والتدريب وتزوير الشهادات، وانتحال الألقاب العلمية، فينتج جيل جاهل ألف الكسل والاتكالية، ليس أهلًا للقيادة وتصريف الشؤون، ومما يعطل المصالح ويضر بالأرواح الإهمال وسوء الخدمة في المرافق، والغش في الغذاء والبناء والمقاولات.

 

ومن صور الفساد فساد الأخلاق في أوساط الشباب بسلوك طرق الغواية ومسالك الردى، وإصلاح ذلك بإيلاء الشباب عناية فائقة بإحسان التربية والتعليم وشغل فراغهم بالمفيد والنافع، وتنشئتهم على طاعة الله.

 

وبعد عباد الله، فإن جريمة الفساد من أخطر الجرائم التي تعود سلبًا على الفرد والمجتمع؛ لما ينتج عنها من تعطل المصالح، وتهديد الأخلاق وإسقاط الحقوق، والواجب محاربة الفساد، والإبلاغ عنه بالطرق المتاحة، وبذل النصح والتواصي بالحق، وإلا أُخِذَ العامة بذنب الخاصة؛ قالت زينب رضي الله عنها: «يَا رَسُولَ اللهِ، أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ» (متفق عليه).

 

الحمد لله وكفى، وسمع الله لمن دعا، وبعد؛ فاتقوا الله عباد الله: {وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} [الشعراء: 151، 152]، واعلموا أن المفسدين لن يفلح لهم عمل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 81]، والخير كله بالبعد عن الفساد والإفساد: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83].

 

واعلموا أن الله أمركم بِأَمْرٍ بَدَأَ فِيهِ بِنَفْسِهِ، وَثَنَّى بِمَلَائِكَتِهِ المُسَبِّحَةِ بِقُدْسِهِ، وَأَيّهَ بكم أيها المُؤْمِنُونَ مِنْ جِنِّهِ وَإِنْسِهِ، فَقَالَ قَوْلًا كَرِيمًا: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].

 

اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ مُحَمَّدٍ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِين الأَئِمَّةِ المَهْدِيِّينَ: أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ، وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ وَتَابِعِيهِمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.