حكم السمر بعد العشاء
اتَّفق العلماء على كراهة الحديث بعد العشاء، إلا ما كان في خيرٍ، وكراهة الحديث بعد العشاء المراد بها بعد صلاة العشاء، لا بعد دخول وقتها؛
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فالأصلُ في المسألة ما جاء عن أبي برزة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكرَه النوم قبل العشاء والحديث بعدها؛ (رواه البخاري (568)، ومسلم (647).
تحرير محل النزاع:
• اتَّفق العلماء على كراهة الحديث بعد العشاء، إلا ما كان في خيرٍ، وكراهة الحديث بعد العشاء المراد بها بعد صلاة العشاء، لا بعد دخول وقتها؛ (من شرح النووي لهذا الحديث في صحيح مسلم).
واختلفوا فيما يُستثنى من حكم الكراهة، كما سيأتي إن شاء الله.
• قال ابن رجب (فتح الباري 5/ 175):
وقد أخذ به الإمامُ أحمد، فكَرِهَ السمرَ في حديث الدنيا، ورخَّص فيه للمسافر، ورُوي عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا سمرَ إلا لثلاثة: مصلٍّ، أو مسافر، أو عروس»، وعنها: قالت: ما رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم نائمًا قبل العشاء، ولا لاغيًا بعدها؛ إما ذاكرًا فيغنَم، أو نائمًا فيسلَم.
• وفي الإنصاف للمرداوي (1/ 437): ويُكره الحديثُ بعدها إلا في أمر المسلمين، أو شغلٍ، أو شيء يسير، والأصح: أو مع الأهل، وقيل: يُكره مع الأهل، وقدَّمه في الفائق، قال في الرعاية، وابن تميم: ولا يُكره لمسافر ولمصلٍّ بعدها.
• وقد يُفرَّق بين الليالي الطوال والقِصَار، ويمكن أن تُحمل الكراهة على الإطلاق حسمًا للمادة؛ لأن الشيء إذا شُرع لكونه مَظنةً قد يستمر، فيصير مئنَّةً، والله أعلم؛ (فتح الباري لابن حجر 2/ 73).
• وأما النصف الأول - من الليل - فكان ينامه داود عليه الصلاة والسلام، وينامه نبيُّنا صلى الله عليه وسلم، فيكون النصف الأخير وهو النصف الثاني بأسداسه الثلاثة، هو أفضل الليل، فالسدسُ الرابع والخامس يقومه داود، والسدسُ الخامس والسادس يقومه نبينا عليه الصلاة والسلام؛ (شرح الاقتصاد في الاعتقاد للشيخ عبد العزيز الراجحي 4 / 26).
• الحكمة من النهي عن السمر بعد العشاء:
• قال القرطبي في تفسيره (12/ 138): قال العلماء: أما الكراهية للنوم قبلها، فلئلا يُعرِّضها للفوات عن كل وقتها، أو أفضل وقتها، ولهذا قال عمر: فمن نام فلا نامت عينه، ثلاثًا.
وممن كرِه النوم قبلها عمر وابنه عبد الله، وابن عباس وغيرهم، وهو مذهب مالك.
ورخَّص فيه بعضُهم، منه علي وأبو موسى وغيرهم، وهو مذهب الكوفيين.
وشرَط بعضُهم أن يجعل معه مَن يوقظه للصلاة، ورُوي عن ابن عمر مثله، وإليه ذهب الطحاوي، وأما كراهية الحديث بعدها، فلأن الصلاة قد كفَّرت خطاياه، فينام على سلامة، وقد ختم الكتاب صحيفته بالعبادة، فإن هو سمر وتحدَّث، فيملؤها بالهوس، ويجعل خاتمتها اللغو والباطل، وليس هذا من فعل المؤمنين.
وأيضًا فإن السمر في الحديث مظنة غلبةِ النوم آخر الليل، فينام عن قيام آخر الليل، وربما ينام عن صلاة الصبح.
وقد قيل: إنما يُكره السمر بعدها، لما روى جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إياكم والسمرَ بعد هَدْأة الرجل، فإن أحدكم لا يدري ما يَبُثُّ الله تعالى من خلقه، أغلِقوا الأبواب وأوكوا السقاء، وخَمِّروا الإناء، وأطفِئوا المصابيح»...
وقد قيل: إن الحكمة في كراهية الحديث بعدها، إنما هو أن الله تعالى لَما جعل الليل سكنًا - أي يُسْكَنُ فيه - فإذا تحدَّث الإنسان فيه، فقد جعَله كالنهار الذي هو متصرَّف المعاش، فكأنه قصَد إلى مخالفة حكمة الله تعالى التي أجرى عليها وجودَه، فقال: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} [الفرقان: 47] ا. هـ.
وقال ابن القيم: نهى أن يُسمَرَ بعد العشاء الآخرة إلا لمصلٍّ أو مسافر، وكان يُكرَه النومُ قبلها والحديث بعدها، وما ذاك إلا لأن النوم قبلها ذريعةٌ إلى تفويتها، والسمر بعدها ذريعة إلى تفويت قيام الليل، فإن عارَضه مصلحةٌ راجحةٌ كالسمر في العلم ومصالح المسلمين، لم يُكره؛ (إعلام الموقعين 3/ 118).
وأما النوم قبلها، فقد نزل فيه قرآنٌ يُتلى، فيما يروى عن أَبَانِ ابْنِ أَبِي عَيَّاشٍ، قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَابِدَةً، فَقَالَتْ: إِنَّمَا لِي مِنَ اللَّيْلِ هَذِهِ النَّوْمَةُ، مَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ إِلَى الْعِشَاءِ، وَإِنِّي أُوكِلُ مِنْ أَهْلِي مَنْ يُوقِظُنِي عِنْدَ الأَذَانِ بِالْعِشَاءِ، فَقَالَ أَنَسٌ: وَكِّلِي مِنْ أَهْلِكِ مَنْ لا يَدَعُكِ تَنَامِينَ حَتَّى تُصَلِّيهَا فَإِنَّ فِيهَا أُنْزِلَتْ: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَن الْمَضَاجِعِ} [سورة السجدة: 16]، وَكَانَ الْقَوْمُ قَبْلَ أَنْ تُفْتَرَضَ عَلَيْهِمْ يَنَامُونَ، فَلَمَّا فُرِضَتْ عَلَيْهِمُ اجْتَنَبُوا مَضَاجِعَهُمْ حَتَّى يُصَلُّوهَا؛ (تفسير يحيى بن سلام 2/ 690، والطبري 20 / 180).
عبد الله يوسف الأحمد
إمام جامع البواردي بالرياض