هَمَسات .. في كلمات ... (19)

منذ 2023-01-30

وصلنا إلى المحطة التاسعة عشر من سلسلة (هَمَسات .. في كلمات) ونسأل الله أن يجعل كاتبها وناشرها وقارئها (مَفَاتِيحَ لِلْخَيْرِ مَغَالِيقَ لِلشَّرِّ)

الحمد لله الرحيم الرحمن، والصلاة والسلام على النبي العدنان، وعلى آله وصحابته ومن تبعهم بإحسان، أما بعد:

فقد وصلنا إلى المحطة التاسعة عشر من سلسلة (هَمَسات .. في كلمات) ونسأل الله أن يجعل كاتبها وناشرها وقارئها (مَفَاتِيحَ لِلْخَيْرِ مَغَالِيقَ لِلشَّرِّ) .. اللهم آمين:

{(كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ)} إذن فالقرآن أنزل للتدبر، والتدبر هو (النظر إلى ما وراء الألفاظ من المعاني والعِبَر والمقاصد، الذي يثمر العلوم النافعة والأعمال الزاكية)[1]  ولكن وللأسف الشديد أن كثير من المسلمين قدر هجر القرآن تلاوة، فكيف سيتدبر هذا، ونرى أماكن تحفيظ القرآن الكريم كثيرة ومنتشرة وطلابها بأعداد غفيرة، لكن جل تركيزهم واهتمامهم على التحفيظ، أي استظهار الطالب الآيات عن ظهر قلب وهذا حسن، ولكنهم يُغفِلون الجانب الأهم وهو التدبر؛ لأنه الطريق للانتفاع بالقرآن والحصول على البركة: { (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ)} فلو أنهم اهتموا  بمسألة التدبر الذي يسبقه فهم الآيات -لأنك لا تستطيع تدبر شيء لم تفهمه- لكان خيرا كثيرا، (والقليل من الدرس للقرآن مع الفكر فيه وتدبُّره، أحبُّ إليَّ من قراءة الكثير من القرآن بغير تدبر ولا تفكر فيه، وظاهر القرآن يدل على ذلك، والسنة، وأقوال أئمة المسلمين) كما قال الإمام الآجري رحمه الله تعالى.

---------------

الذي لا يعرف حقيقة الدنيا، أو يعرفها لكنه يتعامى عن حقيقتها يعيش تعيسًا، فطبيعة الدنيا أن  لذَّاتها مشوبة بكدر، فكيف بلَسَعاتها وبمصائبها، فإذا تأملت فيها، وجدت شابًا قويًا جلدًا، موفور الصحة والطاقة، لكنه لا يملك كثير مال، فعنده شهية للطعام لكن بينه وبين بعض أنواع الطعام قلة ذات اليد، وآخرون يكادون ينفجرون من قوة الشهوة، بل إن شهواتهم قد تتعبهم وتؤرقهم ، لكنهم لا يملكون ما يعفِّون به أنفسهم، وهذا حال شريحة عريضة من شباب المسلمين اليوم، وإذا اتجهت إلى الجانب الآخر تجد من يملك أموالا كثيرة لكن حاصرته الأمراض، فيشتهي الطعام وعنده قيمته لكن هناك أمراض متربصة به، فيؤثر صحته على شهوة بطنه، وهناك من أرباب الأموال من يجوب البلدان طولا وعرضًا من أجل أن يرزق بولد ولكن هيهات، فالدنيا دار ابتلاء وليست اكتفاء، ودار عناء وليست دار هناء، فمن فهمها على أنها مزرعة للحياة الأبدية جعل من مصائبها تكفيرًا للسيئات، ورفعة للدرجات، وزيادة رصيد الحسنات، فإذا لم تجعل دنياك مزرعة لأخراك عشت ضيق الصدر، طويل الهم، فتعامل مع مصائب الدنيا بالصبر والاحتساب، ومع نعمها بالشكر للرحيم الوهاب.

---------------

قد تجد من دعاة العلمانية ومحاربو الفضيلة عبارات من مثل: الجهاز الذي تكتب به صنعه كافر، الكتاب الذي تقرأ منه صنعه كافر، اللباس الذي تلبسه صنعه كافر، وهكذا يعدد لك بعض الصناعات التي ابتكرها الكفار أو تفوقوا فيها، ويقول ذلك ساخرا من الإسلام والمسلمين لا سيما العلماء والدعاة منهم، وهذا منطق أعوج، إذ لا علاقة بين الصناعة وصحة المعتقد، أو صلاح الأخلاق وبراءات الاختراع، والعلماء متخصصون في العلم الشرعي ولا يلزمهم اتقان العلوم التجريبية الأخرى، بل النبي صلى الله عليه وسلم استخدم سلاح صنعه كفار، واقتنى آنية صنعها كفار، ولبس ثيابا نسجها كفار، وهلم جرّا، ورسالته واضحة قدمها في قوله: (إنما بعثت لأتمَّمَ مكارم الأخلاق)، فالمسلم يقبل من الكافر العلم الدنيوي النافع ويرفض ويحارب الرذيلة كالزنا وعمل قوم لوط وقبل ذلك الشرك، يقبل التقدم الصناعي ويرفض الخرافات من مثل نظرية التطور واعتقاد أن أجدادنا قردة، كذلك يقبل المسلم المعارف الإدارية النافعة ولا يلزم منه شرْعَنة قتل النفس التي حرم الله بما يسمونه (حق الإجهاض)،كذلك لا صلة بين الاستفادة من معادلات الفيزياء النافعة وسب الأنبياء بحجة (حرية التعبير)، الخلاصة أن كل نافع مقبول ولو كان من كافر، وكل ورذيلة مرفوضة من أي أحد كائنًا من كان.

---------------

يشكوا كثير من قراء الكتب ومحبي المعرفة، أن المعلومات التي قرأوها تتفلت منهم وتتبخر بعد مفارقتهم للكتاب، وهذا أمر طبيعي يحصل لكل قارئ، لكن هل عدمت الفائدة من القراءة لمجرد أنك أغلقت الكتاب وترى أنه لم يعلق بذهنك منه شيء، الجواب: لا، لأن هناك فوائد حصلت عليها ولم تشعر بها، فهناك معلومات تبقى معك مما قرأت وتعرِف ذلك عند التعرض لموضوع ما فتتذكر أنك قرأت عنه، كما أن القراءة مع النية الصالحة من طلب العلم الذي هو طريق الجنة، أيضا القراءة النافعة  متعة واستغلال مناسب للوقت، وهناك فائدة مهمة ربما لا ينتبه لها القارئ، وهو أن كثرة قراءتك يجعلك تعرف أفضل الكتب التي تحدثت عن موضوع ما، فلو سُئلتَ أو احتجت لمرجع في موضوع ما، فإن ستقول هذا الموضوع أجاد فيه المؤلف الفلاني في الكتاب الفلاني، أي أن القراءة طريق للإحالة إلى الكتب عند الحاجة لك ولغيرك.

---------------

الزواج سكن وطريق للمودة والرحمة والعِفَّة، وأيضا سبب لإكثار الأمة وتقويتها، بالإضافة للنفع الأخروي للذرية  الصالحة، ولكن قلَّ أن تخلوا حياة زوجين من منغصات وهذا حال الدنيا- وما أكثر المشاكل في البيوت بين الأزواج، أو الزوجة مع أهل زوجها، والواجب تقليل أسباب الخلاف والفرقة، وزيادة أواصر الائتلاف والمحبة، وهناك أسباب كثيرة لذلك، لكن هنا سنذكر باب وطريقا وسببا مهما لوصول المرأة لقلب زوجها ورفعتها في عينه، وأيضا ولوج الزوج إلى قلب زوجته وأسر قلبها، ذلكم السر هو الوالدين، نعم، فأيما زوجة أرادت أن تسرق قلب زوجها فعليها بالعناية والإجلال  لأمِه، فلا أحد أعظم في عين الابن من أُمِّه، ومن أكرمها زاد رصيد محبته في قلبه، وهذا للأسف تغفل عنه الكثير من الزوجات بل ربما رأت أم زوجها ندِّا لها ولا تقصر في تنغيص حياتها، وهذا يؤدي إلى المشاكل مع الزوج. بالمقابل لو اجتهد الزوج في إجلال أبِ زوجته وتفقده والاهتمام به لا سيما إن كان طاعنا في السن أو مريضا، فإن يكون قد أمسك بتلابيب قلب زوجته وعاشا حياة هنيئة رغيدة، لأنه ما دخل الحب والاحترام بين زوجين إلا غمرتهما السعادة، هذا سبب والأسباب كثيرة فلنحرص عليها حتى يسود الوئام في بيوت المسلمين.

---------------

وإلى اللقاء في باقة أخرى من الهمسات بإذن الله رب الأرض والسماوات.

 

 

 

 

 

[1] الخلاصة في تدبر القرآن الكريم د. خالد السبت