لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا

منذ 2023-01-30

فكان أول نداء عامًّا، أمروا فيه بأصل الإسلام، وهو عبادة الله، وثاني نداء ذكروا فيه بالنعم الجزيلة، وتعبدوا بالتكاليف الجليلة، وخوّفوا من حلول النقم الوبيلة

{بسم الله الرحمن الرحيم}

 

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) }

{{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ}} هذا أول خطاب خوطب به المؤمنون في هذه السورة، بالنداء الدال على الإقبال عليهم، وذلك أن أول نداء جاء أتى عامًّا { {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ}} وثاني نداء أتى خاصاً {{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ}} وهي الطائفة الكبيرة التي اشتملت على الملتين: اليهودية والنصرانية، وثالث نداء لأمة محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المؤمنين.

فكان أول نداء عامًّا، أمروا فيه بأصل الإسلام، وهو عبادة الله،وثاني نداء ذكروا فيه بالنعم الجزيلة، وتعبدوا بالتكاليف الجليلة، وخوّفوا من حلول النقم الوبيلة، وثالث نداء علموا فيه أدباً من آداب الشريعة مع نبيهم، إذ قد حصلت لهم عبادة الله تعالى، والتذكير بالنعم، والتخويف من النقم، والاتعاظ بمن سبق من الأمم، فلم يبق إلا ما أمروا به على سبيل التكميل، من تعظيم من كانت هدايتهم على يديه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

{{لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا}} يعني لا تقولوا عند مخاطبة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- راعنا، أي أمهلنا وانظرنا، وبدأ بالنهي، لأنه من باب التروك، فهو أسهل، ثم أتى بالأمر بعده الذي هو أشق لحصول الاستئناس قبل بالنهي.

وقد ذكر أن سبب نزول هذه الآية أن اليهود كانت تقصد بذلك إذ خاطبوا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الرعونة. أو أنه مفاعلة فيوهم مساواة، أي: راعنا بالقول الموجه المرشد نرعك بالاستماع والإنصات.

قال ابن عاشور: وقد ذكروا في سبب نزولها أن المسلمين كانوا إذا ألقى عليهم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الشريعة والقرآن يتطلبون منه الإعادة والتأني في إلقائه حتى يفهموه ويعوه فكانوا يقولون له: "راعنا يا رسول الله" أي لا تتحرج منا وارفق،، وكان المنافقون من اليهود يشتمون النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في خلواتهم سرا وكانت لهم كلمة بالعبرانية تشبه كلمة راعنا بالعربية ومعناها في العبرانية سب،، وقيل معناها لا سمعت دعاء، فقال بعضهم لبعض كنا نسب محمدا سرا فأعلنوا به الآن،، أو قالوا هذا وأرادوا به اسم فاعل من رعن إذا اتصف بالرعونة فكانوا يقولون هاته الكلمة مع المسلمين ناوين بها السب فكشفهم الله تعالى وأبطل عملهم بنهي المسلمين عن قول هاته الكلمة حتى ينتهي المنافقون عنها ويعلموا أن الله أطلع نبيه على سرهم.

قال ابن عثيمين: راعنا من المراعاة؛ وهي العناية بالشيء، والمحافظة عليه؛ وكان الصحابة إذا أرادوا أن يتكلموا مع الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قالوا: "يا رسول الله، راعنا"؛ وكان اليهود يقولون: "يا محمد، راعنا"؛ لكن اليهود يريدون بها معنى سيئاً؛ يريدون "راعنا" اسم فاعل من الرعونة؛ يعني أن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- راعن؛ ومعنى "الرعونة" الحمق والهوج؛ لكن لما كان اللفظ واحداً وهو محتمل للمعنيين نهى الله عز وجل المؤمنين أن يقولوه تأدباً، وابتعاداً عن سوء الظن؛ ولأن من الناس من يتظاهر بالإيمان مثل المنافقين. فربما يقول: "راعنا" وهو يريد ما أرادت اليهود؛ فلهذا نُهي المسلمون عن ذلك.

{{وَقُولُواْ انظُرْنَا}} من النظر لا من الانتظار، فإن نظر في الحقيقة بمعنى حرس وصار مجازا على تدبير المصالح.. فنهوا في هذه القراءة عن أن يخاطبوا الرسول بلفظ يكون فيه أو يوهم شيئاً من الغض، مما يستحقه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من التعظيم وتلطيف القول وأدبه. وأرشدهم تعالى إلى كلمة سليمة من كل شبهة تنافي الأدب وهي انظرنا.

ولم يكن نهياً عن شيء سبق تحريمه، ولكن لما كانت لفظة المفاعلة تقتضي الاشتراك غالباً، فصار المعنى: ليقع منك رعي لنا ومنا رعي لك، وهذا فيه ما لا يخفى مع من يعظم فنهوا عن هذه اللفظة لهذه العلة، وأمروا بأن يقولوا: انظرنا، إذ هو فعل من النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، لا مشاركة لهم فيه معه.

وقد دلت هذه الآية على مشروعية أصل من أصول الفقه وهو من أصول المذهب المالكي يلقب بسد الذرائع وهي الوسائل التي يتوسل بها إلى أمر محظور.

واعلم أن المقصود من هذه الآية يتوقف فهم المراد منها على العلم بأسباب النزول فلابد من البحث عنه للمفسر، وهذا منه تفسير مبهمات القرآن مثل قوله تعالى {{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا}} [المجادلة:1] ونحو {{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا}} فهي تطلب سبب نزولها ليظهر موقعها ووجه معناها، فإن النهي عن أن يقول المؤمنون كلمة لا ذم فيها ولا سخف لابد أن يكون لسبب، ومثل بعض الآيات التي فيها {وَمِنَ النَّاسِ}.

{{وَاسْمَعُوا}} أريد به سماع خاص وهو الوعي ومزيد التلقي حتى لا يحتاجوا إلى طلب المراعاة أو النظر، فأمرهم أن يسمعوا لنبيّهم إذا خاطبهم حتى لا يضطروا إلى مراجعته.

{{وَلِلكَافِرِينَ} } المراد بهم هنا اليهود {{عَذَابٌ}} عقوبة {{أَلِيمٌ}} مؤلم.

قال ابن عاشور: وإنما فصلت هذه الآية عما قبلها لاختلاف الغرضين لأن هذه في تأديب المؤمنين ثم يحصل منه التعريض باليهود في نفاقهم وأذاهم والإشعار لهم بأن كيدهم قد أطلع الله عليه نبيه، وقد كانوا يعدون تفطن المسحور للسحر يبطل أثره فأشبهه التفطن للنوايا الخبيثة وصريح الآيات قبلها في أحوالهم الدينية المنافية لأصول دينهم ولأن الكلام المفتتح بالنداء والتنبيه ونحوه نحو {{يَا أَيُّهَا النَّاسُ}} ونحوها لا يناسب عطفه على ما قبله وينبغي أن يعتبر افتتاح كلام.

ومن فوائد الآية:

** أنه ينبغي استعمال الأدب في الألفاظ؛ يعني أن يُتجنب الألفاظ التي توهم سبًّا، وشتماً؛ لقوله تعالى: {{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا}} .

** أن الإيمان مقتضٍ لكل الأخلاق الفاضلة؛ لأن مراعاة الأدب في اللفظ من الأخلاق الفاضلة.

** أنه ينبغي لمن نهى عن شيء أن يدل الناس على بدله المباح؛ فلا ينهاهم، ويجعلهم في حيرة.

** التحذير من مخالفة أمر الله، وأنها من أعمال الكافرين؛ لقوله تعالى: {{وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ}}

{{مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ}} «من» هنا لبيان الجنس؛ وليست للتبعيض أي كل أهل الكتاب {{أَهْلِ الْكِتَابِ}} وقد يوهم كون البيان قيدا، وأن الكافرين من غير أهل الكتاب لا يحسدون المسلمين، فعطف عليه بقوله{وَلاَ الْمُشْرِكِينَ} ودخلت «لا» للتأكيد، ولو كان في غير القرآن لجاز حذفها.

{{أَن يُنَزَّلَ}} بتشديد الزاي؛ وفي قراءة بدون تشديد؛ والفرق بينهما أن "التنزيل": هو إنزاله شيئاً فشيئاً؛ وأما "الإنزال": فهو إنزاله جملة واحدة؛ هذا هو الأصل؛ فهم لا يودون هذا، ولا هذا: لا أن ينزل علينا الخير جملة واحدة؛ ولا أن ينزل شيئاً فشيئاً.

{{عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ}} من الوحي الإِلهي المشتمل على التشريع المتضمن لكل أنواع الهداية وطرق الإسعاد والإِكمال في الدارين.

أو كان غير ذلك من سائر أنواع الخيرات، من خير الدنيا والآخرة، القليل والكثير؛ لو حصل للكافرين من أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ومن المشركين أن يمنعوا القطر عن المسلمين لفعلوا؛ لأنهم ما يودون أن ينزل علينا أيّ خير؛ ولو تمكنوا أن يمنعوا العلم النافع عنا لفعلوا؛ وهذا ليس خاصاً بأهل الكتاب والمشركين في زمان الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ بل هو عام؛ ولهذا جاء بصيغة المضارع: {ما يود}؛ وهو دال على الاستمرار.

وفيه أنه يحرم على المسلمين أن يُوَلُّوا هؤلاء الكفار أيّ قيادة؛ لأنهم ما داموا لا يودون لنا الخير فلن يقودونا لأيّ خير مهما كان الأمر؛ ولهذا يحرم أن يجعل لهم سلطة على المسلمين لا في تخطيط، ولا في نظام، ولا في أي شيء؛ بل يجب أن يكونوا تحت إمرة المسلمين، وتحت تدبيرهم ما أمكن؛ وإذا استعنا بهم فإنما نستعين بهم لإدراك مصالحنا وهم تحت سلطتنا؛ لأنهم لو استطاعوا أن يمنعوا القطر وينبوع الأرض عن المسلمين لفعلوا؛ إذاً فيجب علينا الحذر من مخططاتهم، وأن نكون دائماً على سوء ظن بهم؛ لأن إحسان الظن بهم في غير محله؛ وإنما يحمل عليه الذل، وضعف الشخصية، والخور، والجبن.

وفيه أن الإنسان الذي لا يود الخير للمسلمين فيه شبه باليهود والنصارى؛ لأن من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم.

  {{مِّن رَّبِّكُمْ}} وسبب عدم ودهم ذلك: أما في اليهود، فلكون النبوّة كانت في بني إسماعيل، ولخوفهم على رئاستهم، وأما النصارى، فلتكذيبهم في إدعائهم ألوهية عيسى، وأنه ابن الله تعالى، ولخوفهم على رئاستهم، وأما المشركون، فلسبّ آلهتهم وتسفيه أحلامهم، ولحسدهم أن يكون رجل منهم يختص بالرسالة، واتباع الناس له.

{{وَاللّهُ يَخْتَصُّ}} يفرد بها، وضد الاختصاص: الاشتراك {{بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ}} من عباده فحسد الكافرين لكم لا يمنع فضل الله عليكم ورحمته بكم متى أرادكم بذلك.

وهذا الاختصاص مقرون بالحكمة؛ يعني اختصاصه بالرحمة لمن يشاء مبني على حكمته سبحانه وتعالى؛ فمن اقتضت حكمته ألا يختصه بالرحمة لم يرحمه.

وفيه أن خير الله لا يجلبه ودّ وادّ، ولا يرده كراهة كاره؛ لقوله تعالى: {{وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ}} ؛ فلا يمكن لهؤلاء اليهود والنصارى والمشركين أن يمنعوا فضل الله علينا؛ وعلى هذا جاء الحديث الصحيح: «(وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ، لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ، لَمْ يَضُرُّوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الْأَقْلامُ، وَجَفَّتِ الصُّحُفُ)» .

{{وَاللّهُ ذُو}} صاحب، والوصف بـ «ذو»، أشرف عندهم من الوصف بصاحب، لأنهم ذكروا أن ذو أبداً لا تكون إلا مضافة لاسم، فمدلولها أشرف. ولذلك جاء ذو يزن، ذُو الْكَلَاع، ولم يسمعوا بصاحب يزن ونحوها.

وامتنع أن يقول في صحابي: ذو رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وجاز أن يقول: صاحب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

ولذلك وصف الله تعالى نفسه بقوله: {ذو الجلال} {{ذو الفضل}} .

  {{الْفَضْلِ}} ما كان من الخير غير محتاج إليه صاحبه، والله عز وجل هو صاحب الفضل إذ كل ما يمن به ويعطيه عباده من الخير هو في غنى عنه ولا حاجة به إليه أبداً.

وفيه إثبات أن فضله ليس كفضل غيره؛ ففضل غيره محدود؛ وأما فضل الله ففضل عظيم لا حدود له؛ فإن الله يضاعف لمن يشاء، والله واسع عليم؛ ومن فضله تبارك وتعالى أنه خص هذه الأمة بخصائص عظيمة كثيرة ما جعلها لأحد سواها؛ منها ما جاء في حديث جابر في الصحيحين عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «(أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي، نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لِي الْمَغَانِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً)» .

{{الْعَظِيمِ}} والعظمة من جهة سعته وكثرته.. وفيه تنبيه على أن واجب مريد الخير التعرض لفضل الله تعالى والرغبة إليه في أن يتجلى عليه بصفة الفضل والرحمة فيتخلى عن المعاصي والخبائث ويتحلى بالفضائل والطاعات عسى أن يحبه ربه.

 

جمع وترتيب

د/ خالد سعد النجار

alnaggar66@hotmail.com

 

خالد سعد النجار

كاتب وباحث مصري متميز