هَمَسات .. في كلمات ... (20)

منذ 2023-02-14

بفضل الله ومنته تحط رحالنا مع الثلة العشرون من سلسلة (هَمَسات .. في كلمات) التي نسأل الله أن يجعل كاتبها وناشرها وقارئها «مَفَاتِيحَ لِلْخَيْرِ مَغَالِيقَ لِلشَّرِّ»

الحمد لله العزيز الوهاب، واهب النعم، ودافع النقم، والصلاة والسلام على نبيه ومصطفاه، وعلى آله وصحابته إلى يوم التناد، أما بعد:

بفضل الله ومنته تحط رحالنا مع الثلة العشرون من سلسلة (هَمَسات .. في كلمات) التي نسأل الله أن يجعل كاتبها وناشرها وقارئها «مَفَاتِيحَ لِلْخَيْرِ مَغَالِيقَ لِلشَّرِّ» .. اللهم آمين:

من أسباب شقاء الإنسان، نظره إلى ما في يد غيره، ونسيان ما حباه الله من فضائله ونعمه، ومن كان كذلك حاله، فحياته تعيسة، وهمه دائم، وسخطه مستمر،  بالإضافة إلى إصابته بأمراض قلبيه كالحسد للآخرين؛  لذا حذرنا المصطفى من ذلك بقوله ( «لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا» )، والحاسد يركبه الهم والغم ولابد، وأيضا المتطلع إلى الآخرين ينسى فضل الله عليه؛ وبالتالي يجحد نِعَم الله عليه ولا يكون من الشاكرين، والسعادة كل السعادة في استشعار نِعَم الله عليك، وما أكثرها، واللهج بالحمد والثناء له سبحانه، واستعمال ما أنعم عليك في طاعته، أما ما تراه عند غيرك ولا تملكه فاسأل الله من فضله، ولا تحسد أحدا من خلق، فلو لم يكن من شؤم الحسد إلا أنه سوء أدب مع الله واعتراض على حكمته لكفى، واعلم أن من تنظر إليهم قد حرموا نِعَم أنت تتمتع بها، وهذا حال الدنيا، وإنما النعيم الكامل في جنات النعيم، وهاك العلاج النبوي الناجع، والبلسم المحمدي الشافي لهذه المشكلة: «(انْظُرُوا إِلَى مَنْ هو أَسفَل مِنْكُمْ وَلا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوقَكُم؛ فهُوَ أَجْدَرُ أَن لا تَزْدَرُوا نعمةَ اللَّه عَلَيْكُمْ)»

من الحقائق المقررة في عالم اليوم، أنه لا وجود فعلي لحرية التعبير، فهي وهم من الأوهام، فلا يوجد في أي بلد اليوم السماح بالحديث وانتقاد والسخرية من أي شيء بشكل مطلق، ولكنَّ كهنة العلمانية والديمقراطية يقدسون أشياء وإذا انتقدها أحد أو سخر منها اتهموه وخونوه وربما حاكموه وعاقبوه، ولا يجلعون ذلك ضمن انتهاك حرية التعبير، وفي المقابل يريدون من الآخرين خصوصا المسلمين أن يقبلوا أن الهجوم أو السخرية أو التعدي على عقيدتهم بحجة حرية التعبير، فحرية التعبير المقصود بها فعليا: حرية ما تسمح به أهواءهم وسخافات عقولهم، فمثلا يعتبرون الهجوم الصريح على العقدية الإسلامية، والفضيلة حرية تعبير، حتى وصل بهم الأمر إلى اعتبار سب الأنبياء والسخرية منهم حرية تعبير ينكرون على المسلمين عدم تقبلها، وإذا ما تعرَّضتَ -ولو من بعيد- لوثن من أوثانهم فإنهم يتهمونك بأبشع التهم وربما طرودك من بلادهم، هذا إذا لم يسجونك ويفرضوا عليك الغرامات، وهكذا تعلم أن أهل الباطل لا يريدون المساس بباطلهم ويطلبون من المسلمين السكوت بل والقبول لتطاول كهنة الديمقراطية والعلمانية على أغلى ما عندهم، فحريتهم المزعومة هذه تعمل في اتجاه واحد ولصالح أكابر المجرمين في الأرض.

الذين يتركون التعلم عموما والقراءة خصوصا فور انتهائهم من الجامعة أو المعهد واستلام الشهادة، هؤلاء لم يعرفوا العلم حق المعرفة، ولعلهم طلبوا العلم لأجل الشهادة، والشهادة لأجل الوظيفة، فإذا حصل -مَنْ هذا شأنه- على الوظيفة ألقى عص الترحال، وحسِب أنه وصَل إلى بر الأمان، وهذا يعود لخلل في الهدف، فالهدف السائد عند الكثير - وللأسف - التعلم للحصول على الدرجات والنجاح في الاختبار، ثم الشهادات ثم المال والجاه، ولا مكان للتعبد لله بهذا العلم والإخلاص لله تعالى في طلبه وبثِّه، ومجاهدة الأعداء به، والعلم النافع حتى ولو لم يكنْ متعلق بالشريعة فيما يسمى بالعلوم التجريبية يمكن طلبها بإخلاص لله تعالى ونفع الناس ابتغاء وجه الله فـ «(أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس)» ، والأمة محتاجة لجميع أنواع العلم النافع، والذي يطلب علمًا  لأجل دنيا خسر فقط فقد خسرانا مبينًا، وقد يكون سببا في هلاكه.

للعبادة شرطان لا تقبل إلا باجتماعهما، وإذا فقد أحدهما كان العمل هباء منثورا، الشرطان هما: الإخلاص لله سبحانه، وكون العمل على سنة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- ويسمى بالمتابعة، وزمننا هذا استجد فيه الكثير من الأمور ومن أبرزها وأوضحها: عالم مواقع التواصل الاجتماعي التي من لم يكن من أهلها أصابه غبارها، وفيها الخير والشر، والسيء والجيد، وما فتئ كثير الناس ينشرون كل غسيلهم في هذا المواقع، من أكلهم وشربهم وغرف نومهم، وحيواناتهم، ولو استطاعوا لنشروا -في بث مباشر-أحلامهم وهم نيام، وإذا ييسر الله لأحدهم الوصول إلى بيت الله الحرام وأداء العمرة، فتجده لا ينسى أن يصور كل فعل قام به، من بداية السفر إلى صورته بلباس الإحرام الأبيض حاسرا عن رأسه وقد كشف كتفه الأيمن، وانتهاء بصلعته بعد الحلق إيذانا منه بانتهاء أعمال العمرة، وكل ذلك موثق بالصور الملونة وربما المتحركة، وكأنه يقول للناس انظروا إلى عملي وامدحوني، ولو نظرنا في حال سلفنا الصالح لوجدنا أنهم حريصون على إخفاء أعمالهم خوفًا من الرياء والسمعة والعُجُب فعن ابن أبي عدي قال: (صام داود بن أبي هند أربعين سنةً لا يعلم به أهله، وكان خرازًا يحمل معه غذاءه من عندهم فيتصدق به في الطريق، ويرجع عشيًّا فيفطر معهم)، وقال سفيان الثوري: (بلغني أن العبد يعمل العمل سرًّا، فلا يزال به الشيطان حتى يغلبه، فيُكتب في العلانية، ثم لا يزال به الشيطان حتى يحبَّ أن يُحمد عليه، فيُنسخ من العلانية فيثبت في الرياء).

---------------

للتأليف أنواع كثيرة، ومنها ما ظهر بعد انتشار فن المقالة في الصحافة، حيث جَمَع كثير من المؤلفين مقالاتهم أو جُمعتْ لهم من بعد وفاتهم لتصبح كتبًا، وكذلك الحال بالنسبة للأعمدة الصحفية، ثم جاء عصر التدوين المصغر (تويتر) فجمعت التغريدات لتكون كتابا، كقطرات المطر الماء الذي ينساب من فوق سطوح المنازل، بل إن بعض المؤلفين يؤلف كتابه على طريقة المقالات، أي أن الكتاب عبارة عن مقالات متعددة تخدم موضوع الكتاب، ونحن في هذه السلسلة من الهمسات قد وصلنا بفضل الله وتوفيقه ومنته إلى ما يزيد على المائة همسة في عشرين باقة، وبإذن الله ستصدر هذه المجموعة في كتاب يحمل نفس العنوان، فسبحان الذي جعل من اجتماع قطرات المطر سيلا جاريا، ومن ائتلاف الحروف والكلمات كتابا نافعًا.

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وإلى اللقاء في الباقة الحادية والعشرين من سلسلة الهمسات.

baamer2000@gmail.com