غزوة: « بني قريظة »

منذ 2023-03-13

قصة غزوة بني قريظة وما أحل الله تعالى بهم من البأس الشديد مع ما أعد الله لهم في الآخرة من العذاب الأليم، وذلك لكفرهم ونقضهم العهود التي كانت بينهم وبين رسول الله ﷺ وممالأتهم الأحزاب عليه...

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلاالله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:

فقال ابن القيم رحمه الله: «وأما قريظة فكانت أشد اليهود عداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأغلظهم كفرًا، ولذلك جرى عليهم ما لم يجر على إخوانهم من بني قينقاع والنضير»[1].

 

وقال ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية: «فصل في غزوة بني قريظة وما أحل الله تعالى بهم من البأس الشديد مع ما أعد الله لهم في الآخرة من العذاب الأليم، وذلك لكفرهم ونقضهم العهود التي كانت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وممالأتهم الأحزاب عليه، فما أجدى ذلك عنهم شيئًا وباءوا بغضب من الله ورسوله، والصفقة الخاسرة في الدنيا والآخرة»[2].

 

ذكرنا فيما تقدم أن يهود بني قريظة نقضوا العهد مع المسلمين وتآمروا مع الأحزاب على حرب المسلمين، فكان لا بد من تأديبهم على هذا الغدر.

 

ففي اليوم الذي رجع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق هو وأصحابه ووضعوا السلاح، أتاه جبريل بصورة دحيه الكلبي يأمره بقتال بني قريظة.

 

روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من الخندق، ووضع السلاح، واغتسل أتاه جبريل عليه السلام قَالَ: «قَدْ وَضَعْتَ السِّلَاحَ؟ وَاللَّهِ مَا وَضَعْنَاهُ، فَاخْرُجْ إِلَيْهِمْ»، قَالَ: «فَإِلَى أَيْنَ»؟ قَالَ: «هُنَا»، وَأَشَارَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِمْ»[3].

 

وفي رواية المسند من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «كأني انظر إلى جبريل عليه السلام من خلل الباب قد عصب رأسه من الغبار»[4].

 

وروى البخاري في صحيحه من حديث أنس رضي الله عنه أنه قال: كأني أنظر إلى الغبار ساطعًا[5] في زقاق[6] بني غنم[7] موكب جبريل حين سار رسول الله صلى الله عليه وسلمإلى بني قريظة [8].

 

ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديًا ينادي في الناس: «لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ العَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ»[9].

 

ووقع في رواية مسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنه: «الظهر» بدل «العَصْرَ»، مع اتفاق البخاري ومسلم على روايته عن شيخ واحد بإسناد واحد[10].

 

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «جمع بعض العلماء بين الروايتين باحتمال أن يكون بعضهم قبل الأمر كان قد صلى الظهر، وبعضهم لم يصلها، فقيل لمن لم يصلها: لا يصلين أحد الظهر، ولمن صلاها: لا يصلين أحد العصر، وجمع بعضهم باحتمال أن تكون طائفة منهم راحت بعد طائفة، فقيل للطائفة الأولى: الظهر، وقيل للطائفة التي بعدها: العصر، قال الحافظ: وكلاهما جمع لا بأس به»[11].

 

فأخذ بعض الصحابة بظاهر الأمر، فلم يصلوا العصر حتى جاؤوا بني قريظة وقد غربت الشمس، وقال البعض الآخر: إنما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسراع، وصلوا العصر في وقتها وهم في الطريق، فلما ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم لم يعنف واحدًا منهم[12].

 

واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة ابن أم مكتوم، وأعطى الراية لعلي بن أبي طالب وقدمه إلى بني قريظة، حتى إذا دنا من حصونهم سمع منها مقالة قبيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في موكبه من المهاجرين والأنصار حتى نزل على بئر من آبار قريظة يُقال لها بئر أنّا، ثم تحرك الجيش الإسلامي نحو بني قريظة أرسالًا حتى تلاحقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وهم ثلاثة آلاف والخيل ثلاثون فرسًا، فنازلوا حصون بني قريظة.

 

فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بحصنهم وكانوا في أعلاه، نادى بأعلى صوته نفرًا من أشرافها حتى أسمعهم: «يَا إِخْوَةَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرَ»، قالوا: يا أبا القاسم ما كنت جهولًا ولا فحاشًا[13].

 

فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسًا وعشرين ليلة، حتى اشتدت بهم الحال وأيقنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير منصرف عنهم حتى يناجزهم[14].

 

عرض عليهم رئيسهم كعب بن أسد ثلاث خصال، إما أن يسلموا ويدخلوا مع محمد صلى الله عليه وسلم في دينه، فيأمنوا على دمائهم وأموالهم وأبنائهم ونسائهم، وقد قال لهم: والله لقد تبين لكم أنه لنبي مرسل، وإنه الذي تجدونه في كتابكم، وإما أن يقتلوا ذراريهم ونساءهم بأيديهم، ويخرجوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالسيوف مصلتين[15] يناجزونه حتى يظفروا بهم، أو يُقتلوا عن آخرهم، وإما أن يهجموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ويكبسوهم يوم السبت؛ لأنهم قد أمنوا أن يقاتلوهم فيه، فأبوا أن يجيبوه إلى واحدة من هذه الخصال الثلاث، وحينئذ قال سيدهم كعب بن أسد في انزعاج وغضب: ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة واحدة من الدهر حازمًا[16].

 

ولم يبق لقريظة بعد هذه الخصال الثلاث إلا أن ينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنهم أرادوا أن يتصلوا ببعض حلفائهم من المسلمين لعلهم يتعرفون ماذا سيحل بهم إذا نزلوا على حكمه، فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أرسل إلينا أبا لبابة نستشيره، وكان حليفًا لهم، وكانت أمواله وولده في منطقتهم، فلما رأوه قام إليه الرجال، وجهش النساء والصبيان يبكون في وجهه، فرق لهم، وقالوا: يا أبا لبابة، أترى أن ننزل على حكم محمد؟ قال: نعم، وأشار بيده إلى حلقه، يقول: إنه الذبح، ثم علم من فوره أنه خان الله ورسوله فمضى على وجهه ولم يرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى المسجد النبوي بالمدينة، فربط نفسه بسارية المسجد وحلف ألا يحله إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وأنه لا يدخل أرض بني قريظة أبدًا، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره، وكان قد استبطأه قال: «أَمَا لَوْ جَاءَنِي لَاسْتَغْفَرْتُ لَهُ، فَأَمَا إِذْ فَعْلَ مَا فَعْلَ فَمَا أَنَا بِالَّذِي أُطْلِقُهُ مِنْ مَكَانَهُ حَتَّى يَتُوْبَ اللَّهُ عَلَيْهِ»[17].

 

وأقام أبو لبابة رضي الله عنه مربوطًا بالجذع ست ليال أو أكثر، تأتيه امرأته في وقت كل صلاة فتحله للصلاة، ثم يعود فيربط بالجذع، حتى نزلت توبته من الله تعالى، فأنزل الله:  {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}  [التوبة: 102].

 

وبرغم ما أشار إليه أبو لبابة قررت قريظة النزول على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد كان باستطاعة اليهود أن يتحملوا الحصار الطويل لتوفر المواد الغذائية والمياه والآبار ومناعة الحصون، ولأن المسلمين كانوا يقاسون البرد القارس والجوع الشديد وهم في العراء، مع شدة التعب الذي اعتراهم لمواصلة الأعمال الحربية من قبل بداية معركة الأحزاب، إلا أن حرب قريظة كانت حرب أعصاب، فقد قذف الله في قلوبهم الرعب، وأخذت معنوياتهم بالانهيار، وبلغ هذا الانهيار إلى نهايته أن تقدم علي بن أبي طالب والزبير بن العوام رضي الله عنه، وصاح علي: يا كتيبة الإيمان! والله لأذوقنَّ ما ذاق حمزة أو لأفتحنَّ حصنهم، وحينئذ بادروا إلى النزول على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم باعتقال الرجال، فوضعت القيود في أيديهم تحت إشراف محمد بن مسلمة الأنصاري، وجعلت النساء والذراري بمعزل عن الرجال في ناحية، وقامت الأوس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله، قد فعلت في بني قينقاع ما قد علمت وهم حلفاء إخواننا الخزرج، وهؤلاء موالينا فأحسن فيهم، فقال: «أَلاَ تَرْضَوْنَ أَنْ يَحْكُمَ فِيهِمْ رَجُلٌ مِنْكُمْ» ؟»، قالوا: بلى، قال: «فَذَاكَ إِلَىْ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ»، قالوا: قد رضينا، فأرسل إلى سعد بن معاذ وكان في المسجد النبوي يُطيب من جرحه الذي أُصيب به في الخندق، وكان قد أصاب أكحله في معركة الأحزاب، فأُركب حمارًا وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلوا يقولون، وهم كنفيه: يا سعد، أجمل في مواليك فأحسن فيهم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حكمك لتحسن فيهم، وهو ساكت لا يرجع إليهم شيئًا، فلما أكثروا عليه قال: لقد آن لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم، فلما سمعوا ذلك منه رجع بعضهم إلى المدينة، فنعى إليهم القوم[18]، ولما انتهى سعد إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال للصحابة: «قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ -أَوْ خَيركُمْ- فَأَنْزِلُوهُ»، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: السيد هو الله، فقاموا إليه فأنزلوه، ثم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ هَؤُلَاءِ نَزَلُوا علَى حُكْمِكَ»، فقال سعد: فإني أحكم فيهم أن تُقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم، وتقسَّم أموالهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ»، وفي رواية: أرقعة [19].

 

ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأُسارى، فجمعوا في دار رملة بنت الحارث امرأة من بني النجار، وقيل دار أسامة بن زيد، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ويمكن الجمع بينهما بأنهم جعلوا في بيتين[20].

 

ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تُحفر لهم الخنادق في سوق المدينة، ثم بعث إليهم، فجيء بهم أرسالًا[21] وتُضرب أعناقهم في تلك الخنادق ويُلقون فيها، وكانوا أربعمائة رجل على الأرجح[22]، وفي رواية ابن إسحاق في السيرة أنهم كانوا ستمائة أو سبعمائة رجل[23].

 

فلما أُخذوا للقتل فرقًا يتبع بعضهم بعضًا، قال بعضهم لسيدهم كعب بن أسد: يا كعب! ما تراه يصنع بنا؟

 

قال كعب: أفي كل موطن لا تعقلون؟! ألا ترون الداعي لا ينزع، وأنه من ذهب به منكم لا يرجع، هو والله القتل، فلم يزل يُؤتى بهم جماعات حتى فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم.

 

وكان من جملة من قتل مع بني قريظة حيي بن أخطب، فإنه كان دخل مع بني قريظة في حصنهم حيث رجعت عنهم قريش وغطفان وفاء لكعب بن أسد بما كان عاهده عليه، فلما أتُي به قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هَلْ أَخْزَاكَ اللَّهُ‏» ؟»، قال حيي: لقد ظهرت علي، أما والله ما لمت نفسي في عداوتك، ولكنه من يخذل الله يُخذل، ثم أقبل على الناس، فقال: أيها الناس، إنه لا بأس بأمر الله، كتاب وقدر وملحمة كتبها الله على بني إسرائيل، ثم جلس فضربت عُنُقه لعنه الله[24].

 

ولم يقتل من نساء بني قريظة إلا امرأة واحدة، فقد روى أبو داود في سننه من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: لم يُقتل من نسائهم - تعني بني قريظة - إلا امرأة، إنها لعندي تحدث تضحك ظهرًا وبطنًا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقتل رجالهم بالسيوف، إذ هتف هاتف باسمها أين فلانة؟ قالت: أنا، قلت: وما شأنك؟ قالت: حدث أحدثته، قالت: فانطلق بها فضربت عُنُقها، فما أنسى عجبًا منها أنها تضحك ظهرًا وبطنًا وقد علمت أنها تُقتل[25].

 

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر بقتل كل من أنبت منهم، وترك من لم يُنبت، فكان عطية القرظي ممن لم يُنبت، فخلَّى سبيله وأُلحق بالسبي، فروى الترمذي في سننه وابن حبان في صحيحه من حديث عطية القرظي قال: كنت فيمن حكم فيهم سعد ابن معاذ فشكوا فيَّ أمن الذرية أنا أم من المقاتلة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انْظُرُوا، فَإِنْ كَانَ أَنْبَتَ الشَّعْرَ فَاقْتُلُوهُ، وَإِلَّا فَلَا تَقْتُلُوهُ»[26].

 

واستشهد من المسلمين يوم قريظة رجلان وهم خلاد بن سويد الذي طُرحت عليه رحى، فشدخت رأسه شدخًا شديدًا فمات، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل تلك المرأة التي طرحت على خلاد بن سويد الرحى وتقدم ذكر ذلك، والشهيد الآخر هو أبو سنان بن محصن أخو عكاشة بن محصن مات ورسول الله محاصرًا بني قريظة [27].

 

واستوهب ثابت بن قيس الزبير بن باطا وأهله وماله، وكانت للزبير يد عند ثابت، فوهبهم له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له ثابت بن قيس: قد وهبك رسول الله صلى الله عليه وسلم إليَّ، ووهب لي مالك وأهلك فهم لك، فقال الزبير بعد أن علم بمقتل قومه: سألتك بيدي عندك يا ثابت إلا ألحقتني بالأحبة، فضرب عنقه، وألحقه بالأحبة من اليهود[28]، واستحيا ثابت من ولد الزبير بن باطا عبد الرحمن بن الزبير، فأسلم وله صحبة.

 

واستوهبت أم المنذر سلمى بنت قيس النجارية رفاعة بن سموأل القرظي، فوهبه لها فاستحيته، فأسلم وله صحبة.

 

وأسلم منهم تلك الليلة نفر قبل النزول فحقنوا دماءهم وأموالهم وذراريهم.

 

وخرج تلك الليلة عمرو بن سعدى – وكان رجلًا لم يدخل مع بني قريظة في غدرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم -فرآه محمد بن مسلمة قائد الحرس النبوي، فخلى سبيله حين عرفه، فلم يعلم أين ذهب.

 

وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم أموال بني قريظة بعد أن أخرج منها الخمس، فأسهم للفارس ثلاثة أسهم سهمان للفرس وسهم للفارس، وأسهم للراجل سهمًا واحدًا لهم[29].

 

وبعث من السبايا سبايا بني قريظة إلى نجد تحت إشراف سعد بن زيد الأنصاري، فابتاع بها خيلًا وسلاحًا.

 

واصطفى رسول الله لنفسه من نسائهم ريحانه بنت عمرو بن خُنافة إحدى نساء بني عمرو بن قريظة، فكانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توفي عنها وهي في ملكه، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عرض عليها أن يتزوجها ويضرب عليها الحجاب، فقالت: يا رسول الله بل تتركني في ملكك، فهو أخف علي وعليك فتركها، وقد كانت حين سباها قد تعصَّت بالإسلام وأبت إلا اليهودية، فعزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووجد في نفسه لذلك من أمرها، فبينما هو مع أصحابه إذ سمع وقع نعلين خلفه فقال: «إِنَّ هَذَا لِثَعْلَبَةَ بْنِ سَعْيَةَ يُبَشّرُنِي بِإِسْلَامِ رَيْحَانَةَ» – فجاءه فقال: يا رسول الله، قد أسلمت ريحانة، فسره ذلك من أمرها[30].

 

وذكر ابن سعد في طبقاته عن محمد بن كعب قال: كانت ريحانة مما أفاء الله على رسوله وكانت جميلة وسيمة، فلما قتل زوجها وقعت في السبي، فخيَّرها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختارت الإسلام، فأعتقها وتزوجها، وضرب عليها الحجاب، فغارت عليه غيرة شديدة، فطلقها تطليقة، فشق عليها وأكثرت البكاء فراجعها، فكانت عنده حتى ماتت مرجعه من حجة الوداع، فدفنها بالبقيع، وكان تزويجه إياها في المحرم سنة (6) من الهجرة قبل وفاته[31]، ولما تم أمر قريظة أُجيبت دعوة العبد الصالح سعد بن معاذ رضي الله عنه التي تقدمت، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد ضرب له خيمة في المسجد ليعوده من قريب، فلما تم أمر قريظة انتقضت جراحته، قالت عائشة: فانفجرت من لبته[32]، فلم يرعهم[33]– وفي المسجد خيمة من بني غفار، إلا والدم يسيل إليهم، فقالوا: يا أهل الخيمة، ما هذا الذي يأتينا من قبلكم؟ فإذا سعد يغذو[34] جرحه دمًا، فمات منها[35].

 

وفي الصحيحين من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اهتَزَّ عرشُ الرَّحمنِ لموتِ سَعدِ بنِ مُعاذٍ»[36].

 

ولما فرغ من جهاز سعد رضي الله عنه احتمله الناس وكان رجلًا طويلًا ضخمًا، فقال المنافقون: ما أخفها، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «إِنَّمَا كَانَتْ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ مَعَهُمْ»[37].

 

وقعت هذه الغزوة في ذي القعدة سنة (5هـ) ودام الحصار خمسًا وعشرين ليلة كما تقدم، وأنزل الله تعالى في غزوة الأحزاب وبني قريظة آيات من سورة الأحزاب ذكر فيها أهم جزئيات الوقعة، وبين حال المؤمنين والمنافقين، ثم تخذيل الأحزاب ونتائج الغدر من أهل الكتاب، ومنته على عبادة المؤمنين بكفايته لعدوهم[38].

 

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 


[1] زاد المعاد (3/ 153).

[2] البداية والنهاية (6/ 70).

[3] صحيح البخاري برقم (4117) وصحيح مسلم برقم (1769) مطولًا.

[4] (41/ 458) برقم (24994) وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط مسلم.

[5] ساطعًا: أي مرتفعًا، فتح الباري (7/ 408).

[6] الزقاق: بالضم – الطريق، النهاية (2/ 306).

[7] قال الحافظ في الفتح (7/ 408): بني غنم بفتح الغين وسكون النون، بطن من الخزرج، وهم بنو غنم بن مالك بن النجار، منهم أبو أيوب الأنصاري وآخرون.

[8] صحيح البخاري برقم (3214).

[9] صحيح البخاري برقم (4119)، وصحيح مسلم (177).

[10] قال الذهبي في السيرة النبوية (1/ 506): كأنه وهم.

[11] فتح الباري (7/ 409).

[12] صحيح البخاري برقم (4119)، وصحيح مسلم (177).

[13] مستدرك الحاكم (3/ 577) برقم (4388)، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية (6/ 74): ولهذا الحديث طرق جيدة عن عائشةﭫ وغيرها.

[14] المناجزة في الحرب «المبارزة».

[15] أي مجردة من غمدها.

[16] سيرة ابن هشام (3/ 191 – 192)، البداية والنهاية لابن كثير رحمه الله (6/ 79 – 80).

[17] أخرج قصة إرسال أبي لبابة إلى بني قريظة الإمام أحمد في مسنده (42/ 26 – 30) برقم (25097) وجود إسنادها محققو المسند، وذكرها ابن إسحاق في السيرة (3/ 192 – 193)، وأوردها الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (6/ 77 – 78).

[18] أخرج مجيء سعد بن معاذ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحكم في بني قريظة، البخاري في صحيحه برقم (4122)، ومسلم في صحيحه برقم (1768).

[19] أرقعة: يعني سبع سموات، وكل سماء يقال لها رقيع، والجمع أرقعة، النهاية (2/ 251).

[20] فتح الباري (7/ 414).

[21] أرسالًا أي: أفواجًا، وفرقًا متقطعة يتبع بعضهم بعضًا، النهاية (2/ 222).

[22] مسند الإمام أحمد (3/ 350)، وذكر ابن حجر رحمه الله في الفتح (7/ 414) أنه اختلف في عدتهم، قال ابن إسحاق: هم ما بين الستمائة أو سبعمائة، والمكثر يقول بين الثمانمائة والتسعمائة، ثم قال: فيتحمل في طريق الجمع أن يقال: إن الباقين كانوا أتباعًا.

[23] سيرة ابن هشام (3/ 196).

[24] سيرة ابن هشام (3/ 197)، والبداية والنهاية لابن كثير رحمه الله (6/ 91 – 92).

[25] برقم (2671) وحسنه الشيخ الألباني رحمه الله كما في صحيح سنن أبي داود (2/ 507) برقم (2325).

[26] سنن الترمذي برقم (1584)، وصحيح ابن حبان برقم (4761) واللفظ له، وصححه الشيخ الألباني  رحمه الله في صحيح سنن الترمذي (2/ 114) برقم (1288).

[27] سيرة ابن هشام (3/ 209).

[28] سيرة ابن هشام (3/ 198).

[29] سيرة ابن هشام (3/ 194 – 200).

[30] السيرة النبوية (3/ 200) قال د/ مهدي رزق الله أحمد في كتابه السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية (ص463): رواه ابن إسحاق بإسناد مرسل ولكنه يتقوى بالمتابعة، فقد روى ابن سعد في الطبقات (8/ 131) بإسناد رجاله ثقات يُحتج بهم ما عدى الواقدي، وقد عدها من زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم الواقدي (2/ 520 – 521)، والطبري في التاريخ (2/ 592)، وعدها ابن عبدالبر في الاستيعاب (4/ 309) بهامش الإصابة وابن حجر الإصابة (4/ 309)؛ في زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم.

[31] الطبقات الكبرى (8/ 102).

[32] اللبة: موضع القلادة من الصدر.

[33] يرعهم: يفزعهم.

[34] أي يسيل.

[35] صحيح البخاري برقم (4122)، وصحيح مسلم برقم (1769).

[36] صحيح البخاري برقم (3803)، وصحيح مسلم برقم (2466).

[37] سنن الترمذي برقم (3849)، وقال ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية (6/ 106): إسناده جيد، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح سنن الترمذي (3/ 237) برقم (3024).

[38] الرحيق المختوم للمباركفوري (ص278- 281)، اللؤلؤ المكنون في سيرة النبي المأمون (3/ 194- 224)، البداية والنهاية لابن كثير (6/ 70/ 109)، السيرة النبوية لابن هشام (3/ 189 – 209).