معركة المراغمة في المسجد الأقصى

منذ 2023-04-06

فمَن تعبَّد لله بمراغمة عدوِّه؛ فقد أخذ مِن الصِّدِّيقيّة بسهم وافر. وعلى قدْر محبّة العبد لربِّه وموالاتِه ومعاداةِ عدوِّه يكون نصيبُه مِن هذه المراغمة

الحمد لله ربّ العالَمين، والصلاة والسلام على خاتَم النبيّين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

فإنّه طالما وُجد في الأرض حقّ وباطل؛ فقد شاءت حكمة الله -عز وجل- أن تستمرّ المدافعة والمراغمة بين الطرفين، حتّى وإنْ كان أهل الحقّ في حالة ضعف؛ كما في قول الله -عز وجل-: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة: 251].

ولمّا كان هذا النوع مِن العبوديّة لا يُقدِّره حقّ قدْره إلّا القليل مِن المسلمِين، لا سيّما في زمن الذلّ والتسامح المزيَّف والتطبيع المُهين الذي يُخيّم على كثير مِن أرجاء الأمّة الإسلاميّة؛ لذا جاء هذا المقال بعنوان (معركة المُراغمــة في المسجد الأقصى)؛ إحياءً لهذه العبوديّة الغائبـــة، وبثًّا لروح الأمل والشعور بالعزّة في نفوس الشباب المسلِم.

 

معنى المُراغَمَـــة:

بالرجوع إلى الدلالة اللغويّة لِلفظة المراغمة؛ نجد أنّها مشتَقّة مِن الرَّغام، يقال: رَغِم أنفُه، أي: أُلصِقت بالرَّغام وهو التراب، وراغمْتُ فلانًا: هجرتُه وعاديتُه. يقولون: ما أَرغَمُ مِن ذلك شيئًا، أي: ما أكرَهه وما أنقِمه[1].

لذلك يمكن تعريف المُراغمة شرعًا بأنّها «اسمٌ جامِع لكلّ ما يَحصُل به إغاظةٌ لأعداء الله ومُعاداة وإذلال مِن قول أو فعل»؛ وعليه فالمقصود بعبوديّة المراغمة إذن أن تعبد الله -عز وجل- بفعل أشدّ ما يكرهه العدوّ. 

ونستطيع القول: إنّ مادّة المُراغمة كثيرًا ما تُستعمل في معنى الكراهة والإذلال -سواء في الاستعمال اللغويّ أو الشرعيّ-، وهي مع ذلك تتضمّن معنى المفاعلة، وهذا يقتضي المشاركة بين اثنين فأكثر.

 

المراغمة عبوديّة الخواصّ:

ثمّة لون عظيم مِن العبادة يغفل عنه كثير مِن المسلمِين؛ ألَا وهو عبوديّة المراغمة، لا سيّما في زمن الهوان الذي يسود قطاعًا عريضًا مِن الديار الإسلاميّة، لذلك يبيّن ابن القيّم -رحمه الله- مكانة هذه العبوديّة الغائبــة بقوله: «فعبوديّتُه فيها عبوديّةُ خواصِّ العارفين، وهي تسمّى عبوديّة المراغمة، ولا ينتبه لها إلّا أولو البصائر التّامَّة. ولا شيءَ أحبّ إلى الله مِن مراغمةِ وليِّه لعدوِّه وإغاظتِه له ... فمَن تعبَّد لله بمراغمة عدوِّه؛ فقد أخذ مِن الصِّدِّيقيّة بسهم وافر. وعلى قدْر محبّة العبد لربِّه وموالاتِه ومعاداةِ عدوِّه يكون نصيبُه مِن هذه المراغمة. ولأجل هذه المراغمة حُمِد التَّبختُرُ بين الصَّفَّين، والخيلاءُ والتَّبخترُ عند صدقة السِّرِّ؛ حيث لا يراه إلّا الله تعالى؛ لمَا في ذلك مِن إرغام العدوِّ ببذل محبوبه مِن نفْسه وماله لله. وهذا بابٌ مِن العبوديّة لا يعرفُه ويسلكُه إلّا القليلُ مِن النّاس. ومَن ذاق لذَّتَه وطعمَه بكى على أيّامه الأُوَل»[2].

وقد نبّه الله -عز وجل- إلى هذه الشَّعيرة الضَّائعة في مواضع عديدة مِن كتابه العزيز؛ تنويهًا بشأنها، كما قال -سبحانه وتعالى-: {وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ} [التوبة: 120]، وكما قال -سبحانه وتعالى- أيضًا: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح: 29]، ونصوص الشريعة مِن آي الكتاب وسُنّة نبيّنا -صلى الله عليه وسلم- تموج موجًا بالدلائل والوقائع التي تدلّ على هذه العبوديّة الشريفة، كما أنّ آثار السلف الصالح -رضي الله عنهم- طافحةٌ بذلك؛ فموقف ربعيّ بن عامر -رضي الله عنه- مع قائد الفرس -على سبيل المثال- يُعدّ مِن أجلى صور المراغمة، ولذا فإنّ كلّ مُنكِرٍ لمشروعيّة المُراغَمة، فلَه حظُّه مِن الدَّروشة والانهزاميّة ولا بدّ!

 

مظاهر مِن مُراغمة المرابطين في المسجد الأقصى للاحتلال الصهيونيّ:

في الوقت الذي يدخل فيه المطبِّعون للأقصى مِن باب المَغارِبة الذي لا يدخل منه إلّا اليهود المحتلّون في هذه الآونة، ويتمّ ذلك تحت حماية شرطة الاحتلال الصهيونيّ، ما زالت فئام مِن الشعب الفلسطينيّ تتقرّب إلى الله -عز وجل- بعبوديّة المراغمة للمحتلّ الصهيونيّ ومكايدته، ولقد تتبّعتُ إبداعات الـمــرابطِين في مراغمة المحتلّ وإغاظته رغم قلّة الحيلة وضعف النصير، فظهر لي مِن ذلك ما يأتي:[3]

1- صلاة المراغمة: ومِن ذلك أن يصلّي المرابط مقابل باب المغاربة، ذاك الباب الذي يدخل منه اليهود المقتحِمون للمسجد الأقصى، ومِن ذلك أيضًا أداء عشرات الفلسطينيّين لصلاة الضحى مقابل المصلّى القِبلي في المسجد الأقصى، وتمتدّ هذه الصلاة لساعات متواصلة؛ وذلك لحَرْف مسار المستوطنين أثناء اقتحامهم الثَّرى الطاهر، كما يدخل في ذلك أداء الـمــرابطِين والـمــرابطات المُبْعَدِين ظلمًا عن المسجد الأقصى لصلوات الفرائض قُرب أبواب المسجد الخارجيّة.

2- شدّ الرحال إلى المسجد الأقصى -فرّج الله كربه- وإعمارُه، لا سيّما مِن الفلسطينيّين الذين يقيمون في القدس والداخل الفلسطينيّ؛ على الرّغم مِن الإجراءات المشدّدة مِن قِبَل الاحتلال الصهيونيّ؛ وذلك لأنّ مجرّد الوجود في المسجد الأقصى المُبارك يغيظ أعداء اللّه، كما أنّه يمنع مِن استفراد الاحتلال الغاشم به.

3- المُراغمة بالزجاج: حيث لاحظ المرابطون أنّ كثيرًا مِن المستـوطنــين يدخلون المسجد الأقصى حُفاة، كنوع مِن الطقوس الخاصَّة بهم؛ فقام المرابطون بتكسير الزجاج في المسارات التي يمرّ منها المستــوطنــون، فأفسدوا عليهم أداء طقوسهم التوراتيَّة.

4- الإرباك الصوتيّ: ويشمل الإرباك الصوتيّ هتافات المصلِّين، والجهر بالتكبير، وإطلاق المفرقعات على المستوطنين المقتحمِين، وتفعيل صفّارات إنذار كاذبة.

والحقّ أنّ إبداعات الـمــرابطِين التي بلغتْ أعلى درجاتها في مراغمة المحتلّ، وإن كانت لمْ تستطع منع اقتحام المستـوطنــين للمسجد الأقصى، إلّا أنّها جعلتْ اقتحامهم له عسيرًا بطيئًا، وأفسدتْ عليهم احتفالاتهم وطقوسهم وخُططهم، وألقت الذعر في قلوبهم، كما أنّها أشعلتْ روح الإباء والعزّة في نفوس الـمــرابطِين أمام المحتلّ الصهيونيّ.

ولمَا لهذه التطبيقات العمليّة للمراغمة مِن أثر نفْسيّ قاسٍ في إغاظة المحتلّ واستفزازه؛ فقد عمدت شرطة الاحتلال إلى منع كثير مِن تلك المَشاهد، كأداء الفلسطينيّين للصلوات في المنطقة الشرقيّة، وإقامة مجالس العِلم الصباحيّة على مصاطب المسجد الأقصى؛ وذلك مِن خلال تجريمها قانونيًّا، وإبعاد مَن يؤدّيها مِن الـمــرابطِين والـمــرابطات عن مدينة القدس أو اعتقاله أو الاعتداء الوحشيّ عليه.

 

وخلاصة القول: إنّ المراغمة عبوديّة الخواصّ الثابتة بمنطوق النصوص الشرعية ومفهومها، وباب مِن أبواب الجهاد، كما أنّ مواقف السلف الصالح -رضي الله عنهم- طافحةٌ بهذا اللّون مِن العبوديّة، وما فتئ الـمــرابطون يسيرون على خُطَا الرعيل الأوّل في إحياء هذه العبوديّة الشريفة، بالتّالي فلا يصحّ أن يُنعت مَن يحقّقها بالتَّنطُّع في الدِّين.

وصلوات الله وسلامُه على أشرف خَلْقه وتاج رسُله محمّد وعلى آله وصحبه، وأسأله -سبحانه وتعالى- أن يعزّنا بدِينه، وأن يُرغم أنوف المحتلّين والمجرمين في وحل آسِن، وأن يعجِّل للمسجد الأقصى بالتحرير، وآخِر دعوانا أنِ الحمد لله ربّ العالَمين.


[1] انظر، الزمخشري: أساس البلاغة، (رغم)، (1/ 366). وابن منظور: لسان العرب، (رغم)، (12/ 245 - 246).

[2] ابن القيّم: مدارج السالكين، (1/ 53 - 55).

 

[3] - لمزيد مِن التطبيقات العمليّة للمراغمة، ينظر كتاب (كيف ننصر المسجد الأقصى؟) للباحث الفلسطينيّ د. محمّد وصفي الجلّاد، كما يُرجى متابعة صفحات المهتمّين بالشأن المقدسيّ على مواقع التواصل الاجتماعي كصفحة الأستاذ زياد ابحيص، وصفحة الباحث في دراسات بيت المقدس د. أنس زاهر المصري، وشبكة القسطل (https://alqastal.info ).

_______________________________________________________________

الكاتب: حمزة شواهنة