في رَوْضَة مَحَبَة النبي صلى الله عليه وسلم

منذ 2023-05-16

قال القاضي عياض: "اعلم أن مَنْ أحب شيئا آثره وآثر موافقته، وإلا لم يكن صادقا في حبه وكان مُدَّعِيَاً..."

نبينا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم، وخاتم النبيين وأفضلهم، خصَّه الله تعالى بخصال وخصائص كثيرة، انفرد بها عن بقية الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فهو أول مَنْ يعبر على الصراط يوم القيامة، وله المقام المحمود، ولواء الحمد، والشفاعة، والكوثر، وأول من يقرع باب الجنة ويدخلها، والأنبياء جميعا تحت لوائه يوم القيامة. عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسم قال: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي» (رواه أحمد).

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «آتِي باب الجنة فأسْتَفْتِح، فيقول الخازنُ: مَن أنت؟، فأقول: محمدٌ، فيقول: بك أُمرتُ ألا أفتح لأحدٍ قبلك» (رواه الحاكم).

ومِنْ فضل الله علينا أن جعلنا مِنْ أتباعه، ومِنْ ثم فمن أهم ما يجب علينا تجاه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن نحقق محبته اعتقاداً وقولاً وعملاً، ونقدمها على محبة النفس والولد والناس أجمعين، قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}[التوبة:24].

قال القاضي عياض عن هذه الآية: فكفى بهذا حضاً وتنبيها ودلالة وحجة على إلزام محبته، ووجوب فرضها، وعظم خطرها، واستحقاقه لها صلى الله عليه وسلم، إذ قرَّع - سبحانه - مَنْ كان ماله وأهله وولده أحب إليه من الله ورسوله، وأوعدهم بقوله تعالى: {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ}، ثم فسَّقهم بتمام الآية، وأعْلمهم أنهم ممن ضل ولم يهده الله.

وقال السعدي: هذه الآية الكريمة أعظم دليلٍ على وجوب محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى تقديمها على محبةِ كلِّ شيءٍ، وعلى الوعيد الشديد والمقت الأكيد على مَن كان شيء مِن المذكورات أحبَّ إليه من الله ورسوله وجهادٍ في سبيله، وعلامة ذلك أنه إذا عُرض عليه أمران، أحدهما: يحبه الله ورسوله، وليس لنفسه فيها هوى، والآخر: تحبه نفسه وتشتهيه، ولكنه يفوِّت عليه محبوبًا لله ورسوله أو يُنقصه، فإنه إن قدَّم ما تهواه نفسه على ما يحبه الله، دلَّ على أنه ظالمٌ تاركٌ لما يجب عليه.


وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يُؤْمِنُ أحدُكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين» (رواه مسلم). ولما قال عمر رضي الله عنه: (يا رسول الله! والله لأنتَ أحبّ إليّ من كل شيء إلا من نفسي، قال صلى الله عليه وسلم:  «لا، والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك» ، فقال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم: فإنك الآن والله لأنتَ أحب إليَّ من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:  «الآن يا عمر» (رواه البخاري).


قال ابن حجر: فجواب عمر أولا كان بحسب الطبع، ثم تأمل فعرف بالاستدلال أن النبي صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه لكونه السبب في نجاتها من المهلكات في الدنيا والأخرى، فأخبر بما اقتضاه الاختيار، ولذلك حصل الجواب بقوله: (الآن يا عمر) أي الآن عرفتَ فنطقتَ بما يجب.


ومن لوازم محبته صلى الله عليه وسلم الأدب معه، وتعزيره وتوقيره، كما قال الله تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ}[الفتح:9]. قال ابن تيمية: التعزير اسم جامع لنصره وتأييده ومنعه من كل ما يؤذيه، والتوقير: اسم جامع لكل ما فيه سكينة وطمأنينة من الإجلال، وأن يُعامَل مِن التشريف والتكريم والتعظيم بما يصونه عن كل ما يخرجه عن حَدِّ الوقار.

أبْشِر أيها المحب، أنتَ مع مَنْ تُحِب:
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! كيف تقول في رجل أحب قوماً ولم يلحق بهم؟ فقال:  «المرء مع مَنْ أحب» (رواه البخاري).

وعن أنس رضي الله عنه أن رجلا أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال له: (متى الساعة؟ قال:  «ما أعددتَ لها» ؟ قال: ما أعددتُ لها من كثير صلاة ولا صيام ولا صدقة، ولكنّي أحبّ الله ورسوله، فقال:  «أنت مع من أحببتَ» (رواه البخاري).

قال أنس رضي الله عنه: فأنا أحب النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر، وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم، وإن لم أعمل بمثل أعمالهم. وقال الصحابة رضوان الله عليهم: ما فرحنا بعد الإسلام بشيء فرحنا بهذا الحديث ، وذلك لشدة حبهم للنبي صلى الله عليه وسلم.

محبة النبي صلى الله عليه وسلم مِنْ محبة الله عز وجل:
محبة النبي صلى الله عليه وسلم أصل عظيم من أصول الدين، وهي تابعة لمحبَّة الله تعالى، قال ابن تيمية: محبة الله بل محبة الله ورسوله من أعظم واجبات الإيمان، وأكبر أصوله، وأجل قواعده، بل هي أصل كل عمل من أعمال الإيمان والدين، وقال: وليس للخَلْق محبَّة أعظم ولا أكمل ولا أتم من محبة المؤمنين لربهم، وليس في الوجود ما يستحق أن يُحبَّ لذاته من كلِّ وجه إلا الله تعالى، وكل ما يحب سواه فمحبته تَبَعٌ لحبِّه، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما يُحَب لأجل الله، ويُطاع لأجل الله، ويُتَّبع لأجل الله، كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}[آل عمران:31].


وقال ابن القيم: وكل محبة وتعظيم للبشر، فإنما تجوز تَبَعًا لمحبة الله وتعظيمه، كمحبته صلى الله عليه وسلم وتعظيمه، فإنها من تمام محبة مُرسِله وتعظيمه سبحانه، فإن أمته يحبونه لحبِّ الله، ويُعظِّمونه ويُجِلونه لإجلال الله له، فهي محبة لله من موجبات محبة الله.


وقال النووي: وأصل المحبة الميل إلى ما يوافق المحب، ثم الميل قد يكون لما يستلذه الإنسان ويستحسنه، كحسن الصورة والصوت والطعام ونحوها، وقد يستلذه بعقله للمعاني الباطنة كمحبة الصالحين والعلماء وأهل الفضل مطلقا، وقد يكون لإحسانه إليه ودفعه المضار والمكاره عنه، وهذه المعاني كلها موجودة في النبي صلى الله عليه وسلم لما جمع من جمال الظاهر والباطن، وكمال خلال الجلال، وأنواع الفضائل، وإحسانه إلى جميع المسلمين بهدايته إياهم إلى الصراط المستقيم ودوام النعيم والإبعاد من الجحيم.

اتباعه والاقتداء به صلى الله عليه وسلم:
في روضة محبة النبي صلى الله عليه وسلم ينبغي أن يُعْلم أن أهم علامات محبته: اتباعه في أقواله وأفعاله، وطاعة أوامره واجتناب نواهييه، والاقتداء والتأسي به صلوات الله وسلامه عليه، وشاهد هذا قول الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ}[آل عمران:31]، وقوله تعالى: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}[الحشر:7]، وقوله سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}[الأحزاب:21].


قال القاضي عياض: اعلم أن مَنْ أحب شيئا آثره وآثر موافقته، وإلا لم يكن صادقا في حبه وكان مُدَّعِيَاً، فالصادق في حب النبي صلى الله عليه وسلم مَنْ تظهر علامة ذلك عليه، وأولها الاقتداء به واستعمال سنته، واتباع أقواله وأفعاله، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، والتأدب بآدابه في عسره ويسره ومنشطه ومكرهه، وشاهد هذا قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[آل عمران:31]