وزير الداخلية الفرنسي والحرب ضد الإسلام السُّنّي!
نقلة جديدة في العداء الفرنسي ضد الإسلام، فالكلام هذه المرة ليس عن الإرهاب المسلح أو التشدد أو التطرف الموجود في كل الأديان وفي كل الدول بغض النظر عن معتقداتها، وإنما السعي لحشد أوربا وأمريكا ضد العالم الإسلامي
التصريحات العدوانية لوزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان ضد ما سمّاه “الإرهاب الإسلامي السُّنّي” نقلة جديدة في العداء الفرنسي ضد الإسلام، فالكلام هذه المرة ليس عن الإرهاب المسلح أو التشدد أو التطرف الموجود في كل الأديان وفي كل الدول بغض النظر عن معتقداتها، وإنما السعي لحشد أوربا وأمريكا ضد العالم الإسلامي، واعتبار المسلمين كلهم عدوا!
اعتبر وزير الداخلية الفرنسي أن الإرهاب الإسلامي السُّنّي هو أبرز تهديد لبلاده وأوربا، داعيا خلال زيارة إلى الولايات المتحدة لتعزيز التعاون الأمني مع واشنطن لمواجهة هذا الخطر، وتجاوز صلاحياته كوزير داخلية مسؤول عن الأمن الداخلي، وأعرب عن أسفه لرحيل الأمريكيين من أفغانستان، وانتقد انسحاب فرنسا من منطقة الساحل الأفريقي!
عندما ينتقد وزير الداخلية الفرنسي الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، فهو يعبّر عن تطرفه وعدم تقديره للأمور، فهو يريد أن يستمر الأمريكيون في التضيحة بأبنائهم إلى ما لا نهاية من أجل فرنسا، وكأنه لا يريد الاعتراف بحجم الهزيمة العسكرية لأمريكا على مدار عقدين في أفغانستان، ولولا الهروب من العراق وتسليم الحكم للشيعة العراقيين وإيران لكانت الفضيحة أكبر وأشد.
لا ندري بأي منطق ينتقد الوزير الفرنسي حكومته التي ينتمي إليها بسبب انسحابها من الساحل الأفريقي، والعجز عن الاستمرار في احتلال أراضي الغير بالقوة المسلحة، بعد شعورها بالخطر وازدياد موجة العداء لفرنسا في المستعمرات الأفريقية، خاصة بعد الانقلاب العسكري والتمرد في مالي ثم بوركينا فاسو وأفريقيا الوسطى، واستدعاء الروس للخلاص من الاحتلال الفرنسي.
هذه التصريحات تأتي في إطار التوجه المعادي للمسلمين الذي يقوده إيمانويل ماكرون ونخبة باريس لافتعال معركة داخلية لحشد الفرنسيين وتوحيدهم، لكن هذه المرة يتم تحديد الإسلام السُّنّي العالمي عدوا، والدخول في منطقة التقسيم المذهبي للأمة الإسلامية، رغم أن المذهب السُّنّي يُمثل الغالبية الساحقة في العالم الإسلامي.
المذاهب المسيحية والتسامح مع الإسلام:
لم يعد مقبولا استدعاء خطابات الحروب الصليبية، وحشد الجيوش لمحاربة الإسلام، الذي أصبح مكونا أساسيا للمجتمعات في كل دول العالم، ولا يمكن تجاهله، ففي عالم اليوم لا توجد حدود جغرافية فاصلة بين أتباع الأديان، ولا توجد دولة لا يوجد بها مسلمون، بل فرنسا التي تعلن الحرب على الإسلام بها اليوم ملايين المسلمين، مواطنون وليسوا غرباء.
من الواضح أن درجة التسامح مع المسلمين تختلف في المذاهب المسيحية من دولة إلى أخرى، فأفضل الدول الغربية في التعامل مع الإسلام المحلي هي الدول البروتستانتية والمحور الأنجلوساكسوني: الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا، ففي هذه الدول يحظى المسلمون بحرية العبادة ويشاركون في الحياة السياسية، ولا تتعاطف المجتمعات مع جماعات اليمين المتطرف التي تمارس العنف ضد الآخرين.
وفي الدول الكاثوليكية الأوربية -باستثناء فرنسا- توجد درجة معقولة من التسامح مع المسلمين، تتفاوت من دولة إلى أخرى حسب حجم اليمين المتطرف، ورغم العلمانية الطاغية والارتداد عن المسيحية فإن الثقافة المتوارثة وكراهية المسلمين منذ أيام الحروب الصليبية والحملات الاستعمارية ما زالت موجودة، ولكن بدأت تتراجع مع الوعي والمصالح والتعاون الاقتصادي والسياسي مع الدول الإسلامية.
أما الدول الأرثوذكسية فهي الأقل تسامحا مع المسلمين المحليين من أقليات وجاليات، لكن في السنوات الأخيرة مع عداوة الغرب الكاثوليكي والبروتستانتي للأرثوذكس، وبسبب العلاقات مع العالم الإسلامي والمصالح السياسية والاقتصادية، خفت حدة التعصب وزادت مساحة الحرية الدينية للمسلمين، وتُعَد روسيا أكبر مثال على ذلك، فروسيا التي ورثت الاتحاد السوفيتي الذي أذاق المسلمين الويلات لم تجد إلا التعاون مع المسلمين لمواجهة عقوبات الغرب.
نحن هنا نتحدث عن الفروق بين المذاهب المسيحية، ودرجة التسامح مع إخوانهم المواطنين المسلمين بشكل مجمل، وبالطبع هناك استثناءات، لكن كل هذه المذاهب التي تعتنقها الحكومات الغربية رغم خلافاتهم وصراعاتهم وحروبهم، فإنهم يتفقون معا في مواقفهم ضد العالم الإسلامي، ويتعاونون فيما بينهم لمنع استقلال الدول العربية والإسلامية عن الهيمنة الغربية.
لن تنجح فرنسا:
ما تفعله الحكومة الفرنسية من تحريض ضد الإسلام سيكلفها الكثير، من ناحية ستتسع الكراهية لفرنسا في العالم الإسلامي، ومن ناحية أخرى عدم الاستقرار الداخلي، فدعاوى المقاطعة للشركات الفرنسية وسط الشعوب الإسلامية مستمرة ومتصاعدة، ويتحمل رجال الأعمال الفرنسيون الكثير من الخسائر نتيجة التصريحات والسياسات الهوجاء لماكرون ومعاونيه، ويكفي أن اسم فرنسا أصبح مقترنا بالعنصرية ومعاداة الإسلام.
وفي الداخل، فإن الحرب على الإسلام وإغلاق المساجد، ومصادرة الجمعيات الإسلامية، ومحاصرة المسلمين واضطهادهم والتطاول المستمر عليهم، يثير حالة من الغضب وتعميق الانقسام المجتمعي، وهذا ضد الاندماج الذي يتحدثون عنه، ولن يصل التحريض المتواصل إلى نتيجة إيجابية، فماذا يكون شعور المواطن الفرنسي المسلم إذا كان المطروح أمامه أن يترك دينه ولا شيء آخر؟!
يبدو أن النخبة الفرنسية رغم كل المنجزات الحضارية والتقدم العلمي لا تريد أن تتطهر من عقيدة الإرهاب، التي دفعتهم إلى احتلال بلاد المسلمين وقتل الملايين ونهب ثرواتهم، ويبدو أنهم لا يصدّقون أن العالم تغيّر، وأن انتشارهم العسكري خارج أراضيهم أيامه معدودة، وعليهم أن يسحبوا ما تبقى من جيوشهم، لأن شعوب الدول المسلمة المحتلة لم تعد تقبل وجودهم.
لن يفيدهم كثيرا افتعال معركة مع الإسلام، فالدول الغربية تعرف مصالحها جيدا، ولا تحتاج إلى مشورة الساسة الفرنسيين المتطرفين، ولن ترسل جيوشها لخدمة الزعامة الفرنسية ومشروعها الاستعماري، كما أن النموذج الفرنسي في التعامل مع المواطنين المسلمين أسوأ نموذج لتخريب الدول من داخلها، ويكفي دليلا أن فرنسا هي الدولة الوحيدة في أوربا التي تعيش هذه الحالة من الصراع الداخلي.
لا فائدة من هذه الحرب العبثية، فلن تستطيع فرنسا طرد ملايين المسلمين لأنهم مواطنون، ولأنها لا تستطيع العيش بدونهم فهم قوة العمل الأساسية مع تراجع الخصوبة وشيخوخة المجتمع الفرنسي، كما أن الحكومة لن تجد من يؤيدها في التخلص من المسلمين بالقتل والإبادة، كما كان يجري في العصور القديمة في ظل ثورة المعلومات والسماوات المفتوحة.
على الفرنسيين أن يجربوا الطريق الآخر، وهو احترام الإنسان وحرية الاعتقاد، ولينظروا إلى الدول المجاورة لهم مثل بريطانيا وألمانيا، ويتعلموا التسامح واحترام التنوع، ويتخلصوا من الكراهية والغل، ويتوقفوا عن ألعاب الصبيان واستدعاء الحروب الصليبية في عصر الإنترنت والذكاء الاصطناعي.
المصدر : الجزيرة مباشر
عامر عبد المنعم
كاتب صحفي
- التصنيف: