أصحاب الفتنة

منذ 2023-06-12

إن هذا الصراع الذي نشاهده في مواقع التواصل الاجتماعي، صراع فكر يشوبه الكثير من عدم الحكمة؛ مما يُشتِّت الشباب في عقيدته، بل ويخرجه عن منهج الله المستقيم، وعن دعوة الحبيب المصطفىﷺ...

{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ}  [آل عمران: 7].

 

لقد كتبت هذا المقال من واقع أحداث الأمة الإسلامية، وصراعات الفكر الإسلامي بين شباب المسلمين المتحمسين -بفطرتهم الطيبة- لدينهم، وحبهم لربهم، فيجب أن نحسن الظن بكل مسلم.

 

إن هذا الصراع نشاهده في مواقع التواصل الاجتماعي، صراع فكر يشوبه الكثير من عدم الحكمة؛ مما يُشتِّت الشباب في عقيدته، بل ويخرجه عن منهج الله المستقيم، وعن دعوة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وعن منهجه العملي التطبيقي في واقع الدعوة.

 

فكانت دعوته كلها حب، وسماحة، ورفق، دعوة تجمع ولا تُفرِّق، وقد عبَّر عنها ربُّنا تعبيرًا يأخذ بالعقول والقلوب والوجدان  {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}  [آل عمران: 159]، إن واقع الدعوة الآن واقع مرير تدمى له القلوب.

 

إنه لأمر محزن أن نرى في الدعوة الآن ما يُفرِّق بين شباب المسلمين ويحزبهم؛ بل وتدفع بهم إلى العداوة والبغضاء بينهم، والتراشق بالألفاظ، بل ويُكفِّر بعضهم بعضًا!

 

وعندما تمعن في تحديد المشكلة أكثر تجد أن كل فريق من هؤلاء وهؤلاء يستعين بهجومه على الآخر بقول دعاتهم وتسجيلاتهم؛ أي: إن هناك من يدفع إلى هذه الفتنة ويُشعِلها، وهنا نقول ونستعين بالله: كفى فرقة بين المسلمين، وفرقة بين بلاد المسلمين.

 

ألم يشعر كل مسلم بهذه الفتنة وما ترتَّب عليها من تدمير الأوطان وخراب الديار وقتل شباب المسلمين بعضهم بعضًا.

 

وقد كشف الله لنا هؤلاء الذين يشعلون نار الفتنة هذه ووصفهم في كتابه الكريم  {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}  [آل عمران: 7] إن هذه الآية السابقة قد شخَّصت سبب الفتنة التي نحن فيها، وفي نفس الوقت وضعت العلاج.

 

{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}  [هود: 1]، فالقرآن العظيم كله في إجماله محكم، أمَّا آياته فمعظمها محكم  {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ}؛ أي: أصله الذي فيه عماد الدين وفرائضه وحدوده وما يحتاج إليه الناس في دنياهم وآخرتهم.

 

فهي واضحات الدلالة مانعات من الوقوع في الالتباس؛ لانكشاف معانيها لكل ذي عقل سليم، ويرجع إليها ما تشابه من آياته، وما استشكل من معانيها.

 

كما يتضمن القرآن الكريم آيات مُتَشابِهات لا يعلم تفسيرهنَّ كثير من الناس؛ كفواتح السور، وكأمور الغيب: قيام الساعة، وخروج يأجوج ومأجوج، ونزول عيسى، والحروف المقطعة.

 

ومن هنا تبدأ الفتنة حيث أصحاب القلوب المريضة الزائغة، لسوء قصدهم يتبعون الآيات المتشابهات وحدها؛ ليثيروا الشبهات عند الناس، كي يضلوهم، ولتأويلهم لها على مذاهبهم الباطلة، فيتركون المحكم الواضح ويذهبون إلى المتشابه، ويعكسون الأمر فيحملون المحكم على المتشابه  {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ}.

 

فهم يعكفون على الخوض في الآيات المتشابهات وحدها، ولا تتجه عقولهم إلى المحكم ليردوا المتشابه إليه، فيلازمون الأخذ بالمتشابه كما يلازم التابع متبوعه؛ لأنه يوافق اعوجاج نفوسهم وسوء نيَّاتهم، وتحكُّم أهوائهم وشهواتهم.

 

وهذا هو الواقع - مع الأسف الشديد - بكثرة في الفضائيات ومواقع التواصل بأشكاله المختلفة؛ مما أفسد على الأمة وحدتها، وعلى المسلمين دينهم وتوحيدهم لربِّهم.

 

وليبرر هؤلاء ما هم عليه من بدع وتبديل وتأويل لكلمات الله، فإنهم يهاجمون ويتهمون غيرهم بنفس ما هم عليه، ويزيد الأمر سوءًا أن هؤلاء الدعاة يدَّعُون أنهم هم الوحيدون الذين يفهمون الدين فهمًا صحيحًا، وغيرهم على باطل.

 

وقد ذَمَّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم هؤلاء الذين يتبعون ما تشابه من القرآن طلبًا للفتنة والتأويل الباطل، وحذَّر منهم في أحاديث كثيرة، ومن ذلك ما رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن عائشة رضي الله عنها، قالت: تلا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم هذه الآية:  {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ...}  [آل عمران: 7] إلى آخر الآيات، قالت: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمَّى الله فاحذروهم».

 

وبعد هذا فإن الله يحدد الطريق الصحيح من هذه الفتن الذي يجب أن يسلكه المؤمن الحق «وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا»  [آل عمران: 7].

 

فالراسخون في العلم يؤمنون بها، ويَكِلُون المعنى إلى الله فيسلمون ويسلمون، ولا يخوضون في الفتنة، ويتجنبون الحديث فيما يثير الشكوك والريبة عند العامة من المسلمين.

 

ومن هنا نناشد كل من يتخذ ما يثير الفتنة بين المسلمين أن يتقي الله ويخشاه، وينقذ نفسه قبل أن يأتي يوم لا رجعة فيه، فلا ينفعه إنس ولا جان،  {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ}  [البقرة: 191].

 

ونسأل الله الهداية للجميع، وأن يحفظ بلاد المسلمين من تلك الفتن.