متى يتوقف قتل المهاجرين في البحر المتوسط؟
يبدو أن البحر المتوسط أصبح مقبرة للمهاجرين واللاجئين الذين يبحثون عن فرصة للحياة، هربًا من البؤس وطلبًا للأمن بعيدًا عن بلادهم التي ضاقت بهم
يبدو أن البحر المتوسط أصبح مقبرة للمهاجرين واللاجئين الذين يبحثون عن فرصة للحياة، هربًا من البؤس وطلبًا للأمن بعيدًا عن بلادهم التي ضاقت بهم، ولم تفلح كل حملات التحذير من المغامرة والسفر عبر رحلات الموت في سفن غير آمنة وقوارب متهالكة، وأصبحت فكرة الهروب من الأوطان إلى أوربا هي الأمل حتى لو كانت نهايتها القتل والغرق بعيدًا عن الأهل والأحباب.
كشفت مظاهرات اليونانيين احتجاجًا على إغراق سفينة المهاجرين ومصرع 650 مهاجرا بينهم 100 طفل الجانب المظلم في ملف الهجرة عبر البحر المتوسط، فقد تكررت الوقائع التي تدين حرس السواحل اليوناني، وما يقوم به من ممارسات ضد السفن والقوارب التي تحمل المهاجرين إلى أوربا وتعمد إغراقها والتسبب في موت ركابها.
حسب ما هو منشور في الإعلام اليوناني فإن من بين ركاب السفينة الغارقة مصريين وسوريين وباكستانيين، ولأن عملية الهجرة تتم في سرية تامة فإن المعلومات الكاملة غير متاحة عن الأعداد والجنسيات، ولأن السفينة انطلقت من طبرق متجهة إلى إيطاليا فخط سيرها كان لابد أن يمر بجوار سواحل اليونان التي تتعامل بعدوانية لا نرى مثلها في أي دولة في العالم.
في كل الوقائع تتكتم السلطات في الاتحاد الأوربي على الممارسات اليونانية، وكثيرا ما تسرب السلطات اليونانية لقطات فيديو عن المعاملة السيئة والتعذيب الذي يتعرض له المهاجرون، بل يتم تجريدهم من ملابسهم في مشاهد غير إنسانية بغرض التخويف والردع لغيرهم!
الجهد الأوربي يحاول شيطنة الهجرة رغم أنها ليست حركة حديثة وإنما قديمة، لكن زيادتها في العقود الأخيرة بسبب سياسات الدول الغربية التي أدت إلى إفقار الدول؛ بسبب النهب المتواصل للثروات ومساندة الحكومات الفاسدة والمستبدة التي تحقق أهداف الأوربيين والأمريكيين، أو بتخريب الدول بالغزو والاحتلال كما في العراق وأفغانستان وسوريا، أو بإشعال الحروب الأهلية والطائفية كما جرى في ليبيا واليمن والسودان.
الأوربيون الذين يصرخون اليوم من الهجرة عليهم أن يبحثوا عن أسبابها، فالمهاجرون الأفغان والعراقيون والسوريون يهربون من بلادهم التي خربتها الجيوش الأمريكية والأوربية، كما أن الدوائر الغربية هي التي أفسدت ليبيا واليمن والسودان، لمنع الشعوب المسلمة من تأسيس أنظمة حكم مستقرة ولتنفيذ أجندة التقسيم الصهيونية.
إذا كان الأوربيون يشتكون من بضعة آلاف من الفارين من الصراعات والأزمات؛ فإن المنطقة العربية تعج بملايين اللاجئين وبها حوالي 16 مليون لاجئ بسبب تواصل النزاعات وأحدثها القتال الراهن في السودان (الرقم للمتحدثة الإقليمية باسم اللجنة الدولية للصليب الأحمر) والأعداد تزداد كل يوم بسبب التدخل الخارجي الغربي الذي يعمل على تغذية الحروب.
دولة مثل فرنسا التي تقود الآن الجهود الأوربية وتساند اليونان في ممارساتها المروعة لوقف المهاجرين أفسدت نصف قارة إفريقيا، وما زالت تستنزف الاقتصاد في تونس والجزائر والمغرب، وتنهب أكثر من 14 دولة إفريقية، وتستولي على 65% من احتياطاتها النقدية، وتطبع لها العملة (الفرنك الإفريقي) التي يتعامل بها شعوب تلك الدول لتضمن استعبادهم إلى الأبد.
موجات الهروب من جنوب المتوسط إلى أوربا ردّ طبيعي على سرقة الموارد، ونتيجة الاحتلال العسكري المباشر، ومن غير المقبول أن يكون الموت هو عقوبة الأبرياء الذين ضاقت بهم السبل فبحثوا عن لقمة العيش في أرض الله الواسعة، فمنذ عام 2014 وحتى 2020 -حسب المنظمة الدولية للهجرة- لقي نحو 50 ألف شخص مصرعهم وهم يحاولون الهجرة، وكثيرون منهم أثناء محاولة عبور البحر المتوسط!
الرؤية الفرنسية المتعصبة
موضوع الهجرة يحتاج إلى تنظيم وليس استنفارا وإعلان حرب، فالأوربيون بقيادة فرنسا يتصرفون بعصبية بالمقارنة مع أمريكا والمحور الأنجلوساكسوني، ففي الوقت الذي يستجيب فيه الأوربيون للسياسة الفرنسية المعادية للمسلمين بالعمل لحظر الهجرة تماما، والتعامل معها على أنها ظاهرة إجرامية، يتعامل المحور الأنجلوساكسوني بذكاء يحقق لهم المكاسب الاستراتيجية.
في الوقت الذي تركز فيه فرنسا ومعها الأوربيون على عقد اتفاقات مع الحكومات التي يأتي منها المهاجرون ودول المرور ليكونوا حراسا لحدود أوربا، وتقدم لهم المعونات لمنع الهجرة، فإن أمريكا وبريطانيا وكندا وأستراليا تعظم الاستفادة من المهاجرين وتستقبل 50% من إجمالي العقول المهاجرة والحاصلين على تعليم عال في مجالات التقنية والرعاية الصحية والتخصصات المتميزة، وتنظم عملية استقبالهم وتقنين أوضاعهم.
وقد أصدر البنك الدولي مؤخرا دراسة هامة بعنوان “المهاجرون واللاجئون والمجتمعات” دعا فيها إلى إعادة النظر في التعامل مع ملف الهجرة لصالح التنمية العالمية، ولتعظيم المنفعة للدول الأصلية ودول المقصد، فالدول الأصلية تستفيد من تدفقات التحويلات التي يرسلها المهاجرون والمغتربون، وتستفيد من العقول المهاجرة في برامجها التنموية كما فعلت الهند، ودول المقصد تلبي احتياجات سوق العمل لديها على المدى الطويل لسد النقص في العمالة بسبب تزايد المسنين ونقص المهارات والتخصصات.
ما يجري في البحر المتوسط جريمة ضد الإنسانية، وعار يلاحق كل من شارك بالقتل أو بالصمت، فمن الواضح أن العديد من السفن التي تقل المهاجرين يتم إغراقها بعيدا عن الإعلام، ولا أحد يشعر بها؛ فالذين يقتلون المهاجرين واللاجئين يتكتمون على جرائمهم، وأيضا الحكومات التي تتقيد باتفاقات مع فرنسا والاتحاد الأوربي تلتزم الصمت، ولا تريد أن تفتح على نفسها أبواب المساءلة.
الذين يقومون بإغراق السفن وقتل الأبرياء مصاصو دماء، لا عذر لهم، وهم يرتكبون جريمة بشعة تؤكد أن البشرية ما زالت تعاني من عقليات مريضة تتغذى عل سفك الدم الحرام، وكأن البشرية رغم ما وصلت إليه من تحضر ما زالت تعيش في عصور الظلام.
المصدر : الجزيرة مباشر
عامر عبد المنعم
كاتب صحفي
- التصنيف: