الصراع على هوية أوروبا

منذ 2023-07-21

نحن هنا أمام خطابان أوروبيان: خطاب يعلن أن أوروبا مسيحية ويجب العودة لهذه الهوية، وخطاب آخر يقول الدين مجرد مكون لتلك الهوية حيث العلمانية هي الأساس. فأيهما نصدق؟

"أينما تذهب في أوروبا تجد الصليب"

هذه تدوينة كتبها وزير خارجية إيطاليا أنطونيو تاجاني نشرها عبر حسابه على فيسبوك، وفجرت جدلا واسعا.

وأضاف المسئول الإيطالي: هناك قاسم مشترك يربط كل أوروبا وهو المسيحية، من روما إلى برلين، ومن باريس إلى لشبونة، ومن مدريد إلى أثينا وحتى دول البلطيق، سنجد دائمًا الصليب.

وختم تاجاني تدوينته بالقول: نحن ندافع عن قيمنا وهويتنا وجذورنا.

والسؤال هنا ما الذي يدفع بوزير خارجية مثل تاجاني البالغ من العمر 69 عاما صاحب الخبرات الطويلة في السياسة الإيطالية إلى مثل هذا الحديث؟ وهو الصحفي السابق الذي دخل عالم السياسة مع الرئيس الإيطالي الأسبق برلسكوني عام 1994، وقضى معظم مسيرته السياسية في بروكسل، إما في البرلمان الأوروبي أو في المفوضية الأوروبية، ويصفه الباحث الإيطالي رافاييل كاركانو، بأنه الرجل المعتدل في الحكومة الإيطالية!!

فإذا كانت هذه تصريحات الرجل المعتدل في الحكومة الإيطالية، فماذا يكون وضع بقية الحكومة؟

وقد يقول قائل لماذا نستغرب ونندهش ممن يدافع عن هويته، وقيم منطقته وجذورها؟

أليس كل منا له الحق في ذلك، نعم ولكن السياق الذي قيلت فيه هذه التصريحات، وما عرّف به الاتحاد الأوروبي نفسه، يختلف عن ما أطلقه الوزير الإيطالي من تصريحات، بل يضعها في إطار صراع متصاعد يجري الآن في أوروبا يتمحور حول هوية أوروبا، وخوف من هوية جديدة باتت تفرض نفسها، وتكسب كل يوم أرضًا جديدة في تلك القارة العجوز... عنوان هذه الهوية هو الإسلام.

إذا لمعرفة خلفيات هذه التصريحات وما سيترتب عليها، يجب علينا سبر غور هوية الاتحاد الأوروبي سواء المعلنة أو الحقيقية، ثم تتبع السياق العام في أوروبا وبيئة الصراع الجارية الآن.

 

 أدى احتكاك الأوروبيين في حملاتهم الصليبية بالمسلمين، إلى نقل تقدمهم الحضاري إلى بلادهم، ومن ثم ظهر عصر النهضة الأوروبية، الذي قام على استبعاد الدين من حياتهم

الاتحاد الأوروبي علماني أم مسيحي:

كتب الوزير الإيطالي الأسبق كارلو كاليندا تدوينة يرد بها على ما كتبه وزير الخارجية الإيطالي، يقول فيها: القاسم المشترك الأدنى في أوروبا هو الديمقراطية الليبرالية وسيادة القانون.

وذهب كاليندا، إلى أن عدم فهم تاجاني (الوزير الإيطالي) لهذا الأمر يعني عدم فهم ماهية الاتحاد الأوربي.

ومضى موضحًا في تغريدته: المسيحية هي جذر ثقافي أساسي، إلى جانب الجذر اليوناني الروماني والديمقراطي، والجمهوري، والعلمي الإنساني، والليبرالي.

وأضاف: وزير الخارجية يجب أن يعلم أن الاتحاد الأوربي وُلد دون الاعتراف بجذوره المسيحية التي أدت إلى الحروب الدينية.

نحن هنا أمام خطابان أوروبيان: خطاب يعلن أن أوروبا مسيحية ويجب العودة لهذه الهوية، وخطاب آخر يقول الدين مجرد مكون لتلك الهوية حيث العلمانية هي الأساس.

فأيهما نصدق؟

دعونا نتبع قصة الصراع على الهوية في أوروبا منذ البداية.

 

أوروبا من المسيحية إلى العلمانية:

بعد منتصف القرن الثالث الميلادي، بدأت المسيحية المحرفة تثبت أقدامها في مناطق عديدة في الأراضي التي أُطلق عليها أوروبا، وكانت تابعة للإمبراطورية الرومانية، ولم يهدأ الاضطهاد ضد معتنقيها إلا بعد أن تولى الإمبراطور قسطنطين حكم الإمبراطورية الرومانية، وإليه يرجع الفضل فيما هو معروف بقرار ميلان عام 313 ميلادي، الذي فسره البعض على أنه اعتماد المسيحية دينًا رسميًا للدولة الرومانية، والتي كانت جاثمة على مساحات شاسعة من القارة الأوروبية، وبعد زوال الإمبراطورية الرومانية أصبحت روما تحت تصرف البابا الذي كان يتمتع، بفضل منزلته الدينية والروحانية، بنفوذ هائل في أوروبا، وكانت أوامره تنفذ في جميع أقطاره، وتحكم في الشعوب الأوروبية وخضع له ملوكهم، وسيطرت الكنيسة على جميع نواحي الحياة، هذه الأوضاع القاتمة دفعت بعضهم، إلى تسمية القرون الوسطى بالعصور المظلمة، أي العصور التي لم تكن لديها ما تقدمه للأجيال القادمة.

ومع ظهور الاسلام وتمدده على تخوم القارة الأوروبية، سواء من الغرب عندما أسس العرب الأندلس في إسبانيا والبرتغال وزحفوا إلى فرنسا، أو من الشرق على أيدي السلاجقة والعثمانيين، وفتحوا هضبة الأناضول، وزحفوا حتى طرقوا أبواب النمسا، كل هذا أدى الى اندلاع حروب مريرة بين المسلمين والمسيحيين امتدت قرونا طويلة، شن فيها المسيحيون في أوروبا حملات عرفت تاريخيًا باسم الحملات الصليبية، والتي جاءت محصلتها هزيمة حاسمة للأوروبيين.

ولكن محصلة ذلك الصدام كانت خطيرة وشكلت الذاكرة الجماعية للأوروبيين حتى اليوم، وتجلت بشكل روح عدائية امتدت على مر القرون.

يقول باترسون سميث في (كتابه حياة المسيح الشعبية): باءت الحروب الصليبية بالفشل، لكن حادثًا خطيرًا وقع بعد ذلك، حينما بعثت إنجلترا بحملتها الصليبية الثامنة، ففازت هذه المرة، إن حملة اللنبي على القدس أثناء الحرب العالمية الأولى هي الحملة الصليبية الثامنة، والأخيرة.

لذلك نشرت الصحف البريطانية صور اللنبي وكتبت تحتها عبارته المشهورة التي قالها عندما فتح القدس: (اليوم انتهت الحروب الصليبية).

 

وسعت معاهدة ماستريخت مفهوم الاتحاد الأوروبي، وذلك بإدخال مبـدأي السياستين الخارجية والأمنية المشتركتين، والتحرك نحو تنسيق السياسات الأوروبية بخصوص اللجوء والهجرة والمخدرات والإرهاب.

ولكن في جانب آخر أدى احتكاك الأوروبيين في حملاتهم الصليبية بالمسلمين، إلى نقل تقدمهم الحضاري إلى بلادهم، ومن ثم ظهر عصر النهضة الأوروبية، الذي قام على استبعاد الدين من حياتهم بعد أن أدركوا أن هذه الديانة المحرفة كانت السبب في شقائهم، فما لبثت أوروبا أن تقدمت في ظل تراجع المسلمين وتخليهم عن دينهم، فتأخروا وتقدم الأوروبيون ليأخذوا بثأرهم من المسلمين متسلحين بوجه علماني يخفي وجه مسيحي كامن منتقم.

 

ظهور الاتحاد الأوروبي:

في أوائل الخمسينات من القرن الماضي، تم الإعلان لأول مرة عن ما أطلق عليه بـالمجموعة الأوروبية للفحم والفولاذ، وذلك في عام 1951، حيث تكونت من 6 دول فقط، وبعدها بثلاث سنوات وقَّعت تلك الدول على اتفاقية روما التي وسَّعت مجالات التعاون الاقتصادي، وأصبحت المجموعة تحمل اسم المجموعة الاقتصادية الأوروبية.

وفي عام 1973م التحقت كل من بريطانيا والدانمارك، ثم اليونان عام 1981م، وإسبانيا والبرتغال في عام 1986م، ثم إيرلندا في عام 1993م، فالسويد وفنلندا والنمسا عام 1995م.

ليتحول الحلم إلى حقيقة بعدها بأكثر من 40 عامًا، عندما وقع قادة القارة العجوز معاهدة ماستريخت في عام 1992، والتي تأسس على إثرها الاتحاد الأوروبي، ليصبح كيانًا قائمًا بالفعل.

ووسعت معاهدة ماستريخت مفهوم الاتحاد الأوروبي، وذلك بإدخال مبـدأي السياستين الخارجية والأمنية المشتركتين، والتحرك نحو تنسيق السياسات الأوروبية بخصوص اللجوء والهجرة والمخدرات والإرهاب.

كما انبثق عن معاهدة ماستريخت للمرة الأولى مفهوم المواطنة الأوروبية؛ أي السماح لمواطني الدول الأعضاء في الاتحاد بالتنقل بحرية بين كل دول الاتحاد، كما وضع البند الاجتماعي الذي احتوته المعاهدة الأساسَ للسياسات التي يتبعها الاتحاد الأوروبي في مجالات حقوق العمال وغيرها من المسائل الاجتماعية.

ووضعت المعاهدة أيضًاً جدولاً زمنياً لتحقيق الوحدة الاقتصادية والمالية بين الدول الأعضاء، كما وضعت الشروط التي يتعين على الدول الراغبة في الانضمام إلى الاتحاد الوفاء بها.

وابتداء من عام 2004م امتد الاتحاد الأوروبي نحو دول أوروبا الشرقية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، حيث انضمت عشر دول جديدة هي أستونيا وبولندا وجمهورية التشيك وسلوفاكيا وسلوفينيا ولاتفيا وليتونيا والمجر، كما انضمت كلٌّ من قبرص ومالطا للاتحاد.

وفي عام 2007م انضمت رومانيا وبلغاريا، ووصل عدد أعضاء الاتحاد الأوروبي حتى عام 2013م تاريخ انضمام كرواتيا إلى 28 دولة.

بتبلور الوحدة السياسية والاقتصادية الأوروبية كان من الطبيعي أن تثور مشكلة الهوية الدينية في أوروبا.

فظهر الخلاف الأول على هوية أوروبا الموحدة، في اجتماع ماستريخت، والذي انبثق عنه الاتحاد الأوروبي، حيث أثارت بعد الدول ذات المرجعية الكاثوليكية، وعلى رأسها إيطاليا وبولندا، مطالب من شأنها الإشارة إلى الإرث المسيحي في الدستور الأوروبي الموحد، كمرجعية للكيان الوليد، وربما كبديل عن الهوية الوطنية لكل دولة، إلا أن مطالبهم قوبلت بالرفض من غالبية الدول الأخرى، والتي كان يحكمها التيارات الليبرالية، حيث أكدت جميعها على علمانية أوروبا، ودستورها الموحد.

ولكن في السنوات الأخيرة ومع صعود اليمين المتطرف في أوروبا، وهو الذي يمزج الدين المسيحي بالقومية الأوروبية، في مواجهة أجيال المهاجرين الذي ينتمي معظمهم الى الإسلام والذين أرادوا أن يمارسوا شعائر دينهم بحرية، شعرت القومية الدينية المتعصبة الأوروبية بخطورة ذلك الوضع على مستقبلهم وعلى هويتهم جراء تنامي أعداد المسلمين، فكانت الدعوات الى المطالبة بضرورة التمسك بهويتهم المركبة من القومية والدين لعلها توقف المد الإسلامي المتنامي.

ولكنهم يتناسون أنهم يريدون أن يطفئوا نور الله...ونور الله لا يطفئه الحديد والنار، وإن تخيل هؤلاء ذلك، والله متم نوره ولو كره الكافرون.

 _______________________________________
الكاتب: 
حسن الرشيدي