وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ
{وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (42)} البقرة
{بسم الله الرحمن الرحيم }
قال تعالى في سورة البقرة
{وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (42)}
{{وَلاَ تَلْبِسُواْ}} اللبس خلط بين متشابهات في الصفات يعسر معه التمييز أو يتعذر {الْحَقَّ} الحق: الأمر الثابت من "حق" إذا ثبت ووجب، وهو ما تعترف به سائر النفوس بقطع النظر عن شهواتها {بِالْبَاطِلِ} الباطل: ضد الحق، وهو الأمر الزائل الضائع، والمراد به هنا ما تتبرأ منه النفوس وتزيله مادامت خالية عن غرض أو هوى، وسمي باطلا لأنه فعل يذهب ضياعا وخسارا على صاحبه.
فلبس الحق بالباطل ترويج الباطل في صورة الحق، حتى يوهم أنه يريد الحق، قال تعالى: {{وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ}} [الأنعام:137] لأنهم أوهموهم أن ذلك قربة إلى الأصنام.
واليهود كانوا يأتون بمشتبهات تُشَبِّه على الناس؛ فيقولون مثلاً: محمد حق، لكنه رسول الأميين لا جميع الناس.
وأكثر أنواع الضلال الذي أدخل في الإسلام هو من قبيل لبس الحق بالباطل، فقد قال الذين ارتدوا من العرب ومنعوا الزكاة أننا كنا نعطي الزكاة للرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ونطيعه فليس علينا طاعة لأحد بعده، وهذا نقض لجامعة الملة في صورة الأنفة من الطاعة لغير الله.
وقد فعل ذلك الناقمون على عثمان -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فلبسوا بأمور زينوها للعامة كقولهم رقي إلى مجلس النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في المنبر وذلك استخفاف لأن الخليفتين قبله نزل كل منهما عن الدرجة التي كان يجلس عليها سلفه. وسقط من يده خاتم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وذلك رمز على سقوط خلافته.
وقد قالت الخوارج: «لا حكم إلا لله» فقال علي -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: «كلمة حق أريد بها باطل».
وحرف أقوام آيات بالتأويل البعيد ثم سموا ذلك بالباطن وزعموا أن للقرآن ظاهرا وباطنا فكان من ذلك لبس كثير، ثم نشأت عن ذلك نحلة الباطنية. ثم تأويلات المتفلسفين في الشريعة كأصحاب الرسائل الملقبين بإخوان الصفاء. ثم نشأ تلبيس الواعظين والمرغبين والمرجئة فأخذوا بعض الآيات فأشاعوها وكتموا ما يقيدها ويعارضها نحو قوله تعالى: {{يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ}} [الزمر: 53] فأوهموا الناس أن المغفرة عامة لكل ذنب وكل مذنب ولو لم يتب وأغضوا عن آيات الوعيد وآيات التوبة.
وللتفادي من هذا الوصف الذي ذمه الله تعالى قال علماء أصول الفقه: إن التأويل لا يصح إلا إذا دل عليه دليل قوي، أما إذا وقع التأويل لما يظن أنه دليل فهو تأويل باطل، فإن وقع بلا دليل أصلا فهو لعب لا تأويل.
ومن فوائد الآية: أنه ليس هناك إلا حق وباطل؛ وإذا تأملت القرآن والسنة وجدت الأمر كذلك؛ قال تعالى: {{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}} [الحج:62]، وقال تعالى: {{وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}} [سبأ:24]، وقال تعالى: { {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}} [يونس: 32]، وقال تعالى: {{وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ}} [الكهف: 29]، وقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «(وَالْقُرْآنُ حَجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ)» [مسلم]
فإن قال قائل: أليس هناك مرتبة بين الواجب، والمحرم؛ وبين المكروه، والمندوب. وهو المباح؟ قلنا: بلى، لا شك في هذا؛ لكن المباح نفسه لا بد أن يكون وسيلة إلى شيء؛ فإن لم يكن وسيلة إلى شيء صار من قسم الباطل كما جاء في الحديث: «(لَيْسَ مِنَ اللَّهْوِ إِلَّا ثَلَاثٌ: تَأْدِيبُ الرَّجُلِ فَرَسَهُ، وَمُلَاعَبَتُهُ أَهْلَهُ، وَرَمْيُهُ بِقَوْسِهِ وَنَبْلِهِ) » [ضعيف أبي داود]؛ وهذه الأشياء الثلاثة إنما استثنيت؛ لأنها مصلحة. كلها تعود إلى مصلحة.
{{وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ}} إنما نهوا عن الأمرين معا على وجه الجمع تعريضا بهم بأنهم لا يرجا منهم أكثر من هذا الترك للبس وهو ترك اللبس المقارن لكتم الحق فإن كونه جريمة في الدين أمر ظاهر. أما ترك اللبس الذي هو بمعنى التحريف في التأويل فلا يرجا منهم تركه إذ لا طماعية في صلاحهم العاجل.
وهذا من معجزات القرآن وهو أنه شرح من أحوال بني إسرائيل ما لا يعلمه إلا أحبارهم وخاصتهم مع حرصهم على كتمانه والاستئثار به خشية المزاحمة في الجاه والمنافع، فجاء القرآن على لسان أبعد الناس عنهم وعن علمهم صادعا بما لا يعلمه غير خاصتهم، فكانت هذه المعجزة للكتابيين قائمة مقام المعجزة البلاغية للأميين.
وفي الآية: تحريم كتمان الحق؛ لقوله تعالى: {{وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ}} ؛ ولكن هل يقال: إن الكتمان لا يكون إلا بعد طلب؟
الجواب: نعم، لكن الطلب نوعان: طلب بلسان المقال؛ وطلب بلسان الحال؛ فإذا جاءك شخص يقول: ما تقول في كذا، وكذا: فهذا طلب بلسان المقال؛ وإذا رأيت الناس قد انغمسوا في محرم: فبيانه مطلوب بلسان الحال؛ وعلى هذا فيجب على الإنسان أن يبين المنكر، ولا ينتظر حتى يُسأل؛ وإذا سئل ولم يُجب لكونه لا يعلم فلا إثم عليه؛ بل هذا هو الواجب؛ لقوله تعالى: {{وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}} [الإسراء:23]
فإذا رأى من المصلحة ألا يبين فلا بأس أن يكتم كما جاء في حديث علي بن أبي طالب -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "حدثوا الناس بما يعرفون؛ أتحبون أن يُكَذب الله ورسوله؟!"؛ وقال ابن مسعود: "إنك لن تحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة"؛ فإذا رأيت من المصلحة ألا تبين فلا تبين ولا لوم عليك.
{وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} وأنتم من ذوي العلم، فلا يناسب من كان عالماً أن يكتم الحق ويلبسه بالباطل.
وهذه الحال، وإن كان ظاهرها أنها قيد في النهي عن اللبس والكتم، فلا تدل بمفهومها على جواز اللبس والكتم حالة الجهل، لأن الجاهل بحال الشيء لا يدري كونه حقاً أو باطلاً، وإنما فائدتها: أن الإقدام على الأشياء القبيحة مع العلم بها أفحش من الإقدام عليها مع الجهل بها.
جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار
alnaggar66@hotmail.com
خالد سعد النجار
كاتب وباحث مصري متميز
- التصنيف: