غرائس الخيـر

منذ 2023-09-14

إنَّ الدين الإسلامي دين التسامح والرحمة، وهو دعوة مستمرة إلى إحياء الأرض وعمارتها بالخير والنشاطات ذات النفع العائد على الناس، فالنبي ﷺ ما بعث إلا رحمة للعالمين، ولكي يخرجهم من الظلمات إلى النور.

الغرائس جمع غريسة، وهي: فعيلة بمعنى مفعولة. وفي لسان العرب([1]) أنها (الفسيلة ساعة توضع في الأرض حتى تعلق، والجمع غرائس وغراس، و الأخيرة نادرة).

والمراد بغرائس الخير في هذا المقال: تلك البذور المعنوية التي تحتوي على مختلف مواد الخير من الاستقامة والنفع والإحسان والصلاح والتسامح والوسطية والاعتدال، وتسقى بماء التوجيه والتربية والقدوة الحسنة.

وتزرع في تربة خصبة تتمثل في وجدان الناشئة وأفكارهم وقيمهم، وترعى بالملاحظة اللطيفة والمتابعة المستمرة. وتتعاهد بالرعاية إلى أن تؤتي ثمارها طيبة، كما هو شأن الأشجار الطيبة المثمرة النافعة المباركة.
 

الإسلام وغرائس الخيـر:

إنَّ الدين الإسلامي دين التسامح والرحمة، وهو دعوة مستمرة إلى إحياء الأرض وعمارتها بالخير والنشاطات ذات النفع العائد على الناس، فالنبي ﷺ ما بعث إلا رحمة للعالمين، ولكي يخرجهم من الظلمات إلى النور.

فإذا كان إحياء الأرض يترتب عليه من الثواب الكثير، حتى إنه لا ينتفع كائن حي بما غرسه الإنسان إلا كتب الله له في ذلك أجرا، فكيف بغارس المعاني النبيلة.

 

غرائس الخيـر حماية لبيئة الفطرة قالوا قديمًا:

الإنسان ابن بيئته، وفي هذه العبارة القصيرة معانٍ عديدة وكثيرة، ذلك أنَّ طبائع الإنسان يمكن أن تكتسب من علاقة الفرد بمجتمعه.

وكذلك الأمر مرتبط بصورة مباشرة بالتربية الأسرية أولا وأخيرا، فكما أن الصفات غير الحميدة تكتسب فإنه أيضا يمكن غرس وزرع القيم في النفوس.

والخير والشر نقيضان موجودان، لا يمكن نكران أي منهما، لكن الشخص يتخير الطريق التي نشأ فيها وتربى عليها. ففي الحديث عن أبي هريرة رضى الله عنه، قال: قال النبيﷺ: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ» » (متفق عليه) .

فإن كانت الفطرة تتغير وتتأثر بالتربية والتنشئة والمحيط والبيئة، ويكتسب الإنسان ما يضادها ويناقضها فالعادات والطباع والسلوك من باب أولى.

فإذا كان الشخص يولد على الفطرة، وعلى الصفاء فيستقر على ذلك أو يتغير حسب التنشئة والتربية فكذلك الشأن في الأخلاق والسلوك تقبل التغير بحسب المؤثرات.

 

الأمهات الغارسات الماهرات:

لمَّا كان حديثنا عن غرائس الخير فإنه يجدر بنا أن نبارك لغارسي الخير، ولذلك فإننا هنا نعبر عن التكريم والتبجيل للأمهات الماجدات، المنشئات المربيات، الحريصات على إعداد جيل قادر على الحفاظ على درجة من الإصلاح لنفسه، وعلى إحداث تغييرات فيمن حوله.

فالصالح في نفسه المصلح لغيره خير من الذي يقتصر صلاحه على نفسه، ويدفع الله بالمصلحين الشر والهلاك، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117] إنَّ دور الأمهات في غرس الخير دور بالغ الأهمية، وهذان نموذجان من نماذج غارسات الخير، أسوقهما لتتخذ منهما الأمهات نبراسا في غرس الخير: النموذج الأول: أم الإمام الشافعي: كانت أم الإمام الشافعي تأخذه بعد وفاة أبيه وتتنقل به من محضن علم إلى آخر، وتجوب البلدان كي تحافظ على هذه الأمانة، فما كانت جهودها لتضيع سدى، فقد أنتجت تلك الجهود إماما عظيما يشار إليه بالبنان، ولا يزال اسمه يذكر في صروح العلم.

النموذج الثاني: أم الإمام الأوزاعي: وهذه أم الإمام الأوزاعي، فقد كانت أمّاً فاضلة كريمة، وكان لها فضل عظيم -بعد فضل الله -في طلب الأوزاعي للعلم، قال العباس بن الوليد: (كان الأوزاعي يتيماً فقيراً في حجر أمه، تنقله من بلد إلى بلد). وقد أثمر هذا الغرس فكان الإمام الأوزاعي من أكابر علماء الأمة، وظهرت عناية أمه به فقد حفلت كتب التراجم بنصح الأوزاعي للإسلام وأهله، وزهده وورعه، وحسن أخلاقه وكمال عقله، وفصاحته وحسن عبارته.

 

غرائس الخير تقي من غرائز الشر:

ربما خطر في بالك ـ وأنت تقرأ هذا العنوان ـ الجملة الشهيرة التي وردت في الأثر([2]) (صنائع المعروف تقي مصارع السوء)، ما أجملها من جملة! وما أعظم معانيها! وانطلاقا من هذه القاعدة اللطيفة الجميلة، فإنَّ غرائس الخير التي يتم زرعها في نفوس الأبناء منذ الصغر، ويتم إعداد الجيل عليها بصورة قوية ومتينة، تَقِيهِمْ بلا شك من خطر المشاريع التي تهدف إلى حرف بوصلة قلوبهم النقية.

إنَّ أهل الشر في الأرض لا ينفكون عن محاربة الفضيلة، ويبثون السموم ليل نهار من أجل إغواء الجيل وتفريغه من منظومة القيم والأخلاق القيمة والنبيلة.

لذلك فإن اتباع المربين بصفة عامة، والأهل تحديدا نهجًا تربويا قويما منذ الصغر؛ يسهم بصورة عظيمة في حماية أبنائهم من شر الهجمات التي تستهدف منظومة القيم لديهم. فلا تركنوا أيها الآباء إلى الراحة تاركين أبناءكم يواجهون سيلا من المشاريع المنظمة التي تهدف إلى حرفهم عن طريق الصلاح، وجرهم إلى طريق آخر لا تحمد نتائج السير فيه إطلاقا.

 

صلاح الأبناء حصاد لصلاح الآباء والأمهات:

 إنَّ السير في طريق الصلاح يعكس أثرا عظيما على النفوس، فلا يكون الأمر محصورا فقط على نفع الأبناء من جهة القيم التي يربون عليها، بل إن بركة صلاح الآباء تنال أبناءهم في دينهم ومعاشهم. ولنا في قصة صاحب الحائط التي وردت في سورة الكهف عبرة وآية، قال تعالى: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف: 82].

ففي هذه الآية أن صلاح الآباء يفيد العناية بأحوال الأبناء. قال البغوي في تفسيره([3]): قال ابن عباس: (حفظا بصلاح أبيهما)، وقيل: كان بينهما وبين الأب الصالح سبعة آباء، قال محمد بن المنكدر: (إن الله يحفظ بصلاح العبد ولده وولد ولده، وعترته وعشيرته وأهل دويرات حوله، فما يزالون في حفظ الله ما دام فيهم).

قال سعيد بن المسيب: (إني لأصلي فأذكر ولدي فأزيد في صلاتي). وإن هذا الصلاح الذي كان عليه الأبوان لهو غرس من غرائس الخير التي لا تنقطع آثارها، ففاعل الخير لا يعدم جوازيه!

ولو لم يكن من المحفزات على غرس الخير في الولد إلا كون دعاء الولد الصالح من أعمال المسلم التي تبقى ولا تنقطع بموته ـ لكفى ذلك.

 

بالقدوة والحسنة تنمو غرائس الخيـر:

كثير من الآباء والمربين يظلون سنوات عديدة وهم ينظرون لأبنائهم قواعد التربية الصحيحة، وتجف الألسن، وتنفد الأوقات، وتذبل صفحات الكتب وهي تتقلب بين الأصابع دونما أثر حقيقي يساوي الجهد المبذول.

وهذا الأمر ليس إشكالا في الكتب أو الأقوال أو الجهود، ولكن المشكلة أن الدعوة النظرية لم تعزز بتربية تطبيقية يراها الطفل أو الابن بصورة مباشرة في سلوكيات أبيه أو أمه في يومهما وفي حياتهما. فإذا أردت أن تكون إمامي وقائدي وقدوتي، فعليك أن تكون أمامي.

وهذه القاعدة إن كانت قد قيلت في ظروف بعيدة عن جو التربية الأسرية، إلا أن معناها العميق لا ينحصر في زاوية واحدة فقط.
والتربية بالقدوة تتطلب جهدا جهيدا، وحرصا بالغا في العزيمة والإصرار؛ ذلك أن القراءة من المجلدات والجلوس لإلقاء المحاضرات، والدخول في المناظرات ربما كان أيسر وأسهل كثيرا من تجسيد السلوكيات الإيجابية بغرض انعكاسها على الأبناء، كي يروها ماثلة أمامهم، فيجسدوها واقعا في حياتهم. فاحرص أيها الأب، أيها المربي، على امتثال سلوكيات واقعية في حياتك، فالعبرة بالخواتيم، والفطن من عمل لما بعد ترك هذه الحياة، وإن ذلك لكنز عظيم للأبناء.
 

الهمة العالية أساس التربية:

لقد أخبرنا النبي ﷺ بقاعدة عظيمة فيما يحبه الله، من الأمور وما يكره سبحانه، فقال: «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ مَعَالِيَ الْأَخْلَاقِ، وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا» ([4])  (رواه الحاكم والطبراني وغيرهما وصححه الألباني).

وإن هذه القاعدة فيما يحبه الله  من صفات يكتسبها المرء في حياته، ترسخ في أذهاننا قاعدة عظيمة حول أهمية أن يكون الإنسان طموحا، وأن يحرص على أن يرتقي بأحلامه وطموحاته إلى عنان السماء، فالهمة العالية تقود صاحبها إلى النشاط، والنشاط يدفع الإنسان إلى الجد والاجتهاد في سعي منه متواصل كي يظفر بكل ما هو طيب وجميل. إنَّ تربية الجيل منذ صغره على عظم التطلعات، يخرج لنا أفرادا يتمتعون بهمم عالية، لو أرادت أن تزيح الجبال لفعلت، والعكس صحيح، فإن تربية النشء تربية عشوائية اعتباطية تؤدي بنا إلى جيل أفراده فارغون من الهمم والمعنويات، يفتقدون كل ما هو منظم، ويفتقرون إلى كل ما هو جميل في الحياة، ويكونون بيئة خصبة لنمو الكسل والتواكل، وتكاثر فطريات العصر من تضييع الأوقات، والعشوائية، والسير بلا أهداف قِيَمِيَّة تستحق البذل والتضحية من أجلها.

 

ازرعوا المعروف ولا تنتظروا ثوابا إلا من الله تعالى:

عوِّدوا الأبناء والجيل على بذل المعروف، وصناعة الخير دون ارتقاب أو انتظار شكر أو ثواب من أحد.

اجعلوهم ينتهجون السير في طريق الصلاح والإصلاح طواعية دون إكراه أو دفع إليه جبرا. ابذلوا الجهود كي يسير الأبناء نحو طريق الخير دائما، وعززوا لديهم قيم الجمال والخير وأن ينثروها في كل مكان تطؤه أقدامهم. فصانع الخير لا يحرم نتاج وثمار عمله ولو بعد حين، وكما ورد في الشعر العربي: ازرع جميلا ولو في غير موضعه، فلن يَضيعَ جميل أينما زُرعا أيها العاملون في مجال إعداد الأبناء وتربيتهم، احرصوا كل الحرص على تقوية الروابط فيما بينكم وبين من تربونهم وتَلُون أمورهم، وضعوا الأهداف والخطط من أجل أن تكون غرائس الخير مثمرة لصنوف النفع، وأن تكون مجالات النفع متنوعة شامة لجوانب الحياة، فالخير نافع حيثما حل، صالح حيثما وقع. أسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يستعملنا وإياكم في طاعته، وأن يوفقنا لغرس الخير، وأن يبارك في أعمالنا وأعمارنا، وأن يصلح نياتنا وذرياتنا. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.

_______________________________________________________
([1]) في لسان العرب (6/ 154).

([2]) وردت في أحاديث بعضها مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وصححه الألباني بمجموع طرقه.

([3]) تفسير البغوي (3/ 211).

([4])فسر الخطابي السفساف: بـ(كل شيء لم يُحْكَم صُنعه)، وقال في القاموس: (والسفساف: الرديء من كل شيء، والأمر الحقير). ينظر: غريب الحديث للخطابي (1/ 302). القاموس المحيط (ص: 819).