بين الاستعمار والاستدمار
منذ 2011-11-12
بين الاستعمار والاستدمار
محمود حسن عمر
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحْدَه لا شريك له؛ المتفرِّد بالخَلق والتدبير، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، وصَفيُّه من خَلْقه وحبيبه.
أمَّا بعدُ:
أتحدَّثُ في هذا المقال عن الفارِق الكبير بين الفتْح الإسلامي للبلدان، وهو الاستعمار بمعناه الحقيقي، وبين الاستدمار الغربي للبلدان الذي هو استنزاف لثروات البلاد وطاقاتها لصالح المحتل، بل وقتْل أبناء هذه البلاد وتشريدهم.
أبدأ بالفتح الإسلامي للبلدان، وكيف استغلَّ المسلمون هذه الفتوحات لنشْرِ الدين الإسلامي ونشر العلم والحضارة.
أولاً: في عهْد النبي صلى الله عليه وسلم وإلى حين وفاته، تَمَّ فتْحُ السواد الأعظم من الجزيرة العربية، وأصبحتْ قبائل الجزيرة تحت لواء الإسلام، وكانتْ فتوحات النبي صلَّى الله عليه وسلَّم في هذه الحقبة مثلاً أعْلَى في الرأْفة والتعاطُف والتسامُح؛ فلم يشرِّد الأطفال، ولم يقتل الشيوخ ولا النساء، ولكنْ كان يُرْسِل إلى حاكم المكان الذي يريد فتْحَه، يَعرِض عليه الإسلام، فإن أبَى فالجزية، فإنْ أبَى فالحرب، فكانت الحرب آخر الخيارات عند النبي صلَّى الله عليه وسلَّم وكذلك خلفاؤه.
وبعد وفاة النبي صلَّى الله عليه وسلَّم وتولِّي أبي بكر الصِّدِّيق الخلافة، اتَّسعتْ دائرة الفتوحات، لتشملَ ما حول الجزيرة؛ بلاد الشام والعراق، ولقد سار الخليفة أبو بكر الصديق على نفْس النهج والطريق، كيف لا وهو الصِّدِّيق والرفيق في الغار؟ واتَّسع نطاق هذه الفتوحات في عهْد سيدنا عمر؛ حيث تَمَّ فتْحُ بلاد الشام والعراق كلِّها، وترسَّم المسلمون خُلق النبي صلَّى الله عليه وسلَّم في فتْح البلاد، وطبَّقوا وصيَّة النبي صلَّى الله عليه وسلَّم لهم التي كان يقولها لهم عند خروجهم للقتال والغزو، وهي قوله: «اغْزُوا باسم الله، وفي سبيلِ الله، وقاتلوا مَنْ كفَرَ بالله، اغْزُوا ولا تَغْدِرُوا، ولا تَغُلُّوا، ولا تُمَثِّلُوا، ولا تَقْتُلُوا وَلِيدًا».
هذه مبادئ الإسلام في الغزو والفتْح التي تربَّى عليها الصحابة الكِرام، ولقد وجَدَ أهل هذه البلاد المفتوحة السماحة والرحمة عند المسلمين؛ حيث أخَذَ المسلمون يُقبلون على الناس يَعرضون عليهم الإسلام بالرأفة واللين لا بالإكراه، كما فَعَل إيفان الرهيب قيصر روسيا عندما كان يُكْرِه المسلمين على دخول النصرانية بعد استيلائه على بلاد القوقاز، وكان دستورهم في ذلك قول الله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256].
مما جعلهم يقبلون على الإسلام جماعات؛ لما آنسوه من سماحة ويُسرِ الإسلام والمسلمين، ولِمَا وجدوه من الخلاص من استبداد وظُلم الروم والفُرس الذين أذاقوهم الذلَّ والاستعباد، واستنزاف الثروات، وتسخير الشعوبِ لصالح الدولة الغازية، وهذا ما يفعلُه الغربُ الآن في كل مكانٍ، وخاصة بلاد المسلمين.
واتَّسعتْ رقعة الفتوحات الإسلامية لتشمل مصر، وبلاد ما وراء النهر، وبلاد السودان، وبعض الفتوحات الصغيرة في بلاد المغرب - بَرْقَة وطرابلس - ولقد عمَّر المسلمون هذه البلاد بالعِلم والحضارة، وقبل كل ذلك بالإسلام والقرآن؛ حيث أقبل السوادُ الأعظم من أهل هذه البلاد على الإسلام؛ لِمَا وجدوا فيه من سماحة وعدل ومساواة، لا ذُلَّ، لا استعباد، لا استنزاف للثروات، ومَن بَقِي منهم على دينه، لم يُعذَّب ولم يُضطهَدْ، يبقى تحت حماية الدولة الإسلامية مقابل الجزية، وهؤلاء هم أهل الذِّمَّة.
ومع قيام الدولة الأموية واستئناف الفتوحات تَمَّ فتح بلاد المغرب كلها وباقي بلاد ما وراء النهر، بل امتدَّ الفتح ليشمل أوروبا - البرتغال وإسبانيا - بلاد الأندلس، منبع العلم والحضارة، تحوَّل شعوب هذه البلاد إلى الإسلام لِمَا ذكرته آنفًا، وبعد أنْ كانوا قبائل متفرِّقة يعيشون بقانون الغابة، يأكل فيهم القوي الضعيفَ، أصبحوا من رعايا الدولة الإسلامية وتحت حمايتها، لهم حقوق وعليهم واجبات، فأحسوا بالاستقرار، وإذا وُجِد الاستقرار وُجِدت الحضارة والمدنيَّة، فأقبلوا على العلم ودراسة القرآن وعلوم الدين الإسلامي واللغة العربية؛ حتى خرَج منهم علماء في كلِّ الفنون أضاؤوا ظلامَ الجهلَ بعِلمهم إلى اليوم.
وكان المسلمون يُرسلون الدُّعاة بل التجار - الذين كانوا يعملون بالتجارة والدعوة إلى الله - إلى البلاد البعيدة لدعوة أهْلها إلى الإسلام، مثل: بلاد الهند وإندونيسيا، والفلبين وماليزيا، وجزر سيلان وبنجلادش، فانتشرَ الإسلام في هذه المناطق على يد التجار المسلمين، بل أصبحَ الإسلام الديانة الرسميَّة لهذه البلاد فيما بعد؛ هكذا الإسلام.
كذلك حدَثَ هذا في بلاد إفريقيا؛ حيث انتشر الإسلام هناك عن طريق الدُّعاة المسلمين والتجار، فدخل معظمُ شعوب إفريقيا الإسلام، فأصبح الإسلام الدينَ الرسمي لكثيرٍ من شعوب المنطقة، مثل: نيجيريا، السنغال، مالي... إلخ، وانتشرَ العلم والحضارة في هذه البلاد، وتحسَّنتْ أحوال الناس؛ الفِكرية والمعيشيَّة.
وعندما تخلَّى المسلمون عن عقيدتهم الإيمانيَّة خذَلَهم الله، فأخَذَ بعض ما في أيديهم، وأعطاه لأعدائهم، فتدهورتْ أحوال المسلمين، وخاصة بعد ظهور قُوَى أوروبيَّة؛ مثل: البرتغال وإسبانيا في القرون الوسطى، فعمدوا إلى إقصاءِ المسلمين عن بلادهم، وقاموا بطرْدِ المسلمين من الأندلس وسط مذابح عظيمة راحَ ضحيَّتها آلاف المسلمين؛ من النساء والأطفال والشيوخ، كذلك فعَلَ الرومان عندما طردوا المسلمين من جزيرة "صقلية"، التي فتَحَها أسد بن الفرات.
ليت الأمرَ اقتصر على طرْد المسلمين من بلاد الغرب فحسب، بل عمدوا إلى طرْدِ المسلمين من البلاد الأخرى التي كانت معهم، وعملوا على محو المعالم الإسلاميَّة التي كانتْ قد استقرَّت في هذه البلاد، فقاموا بسياسات عِدَّة؛ منها: تغيير كل الأسماء الإسلاميَّة التي كانتْ تُطلق على البحار والأماكن؛ مثل: بحيرة فيكتوريا، إذ كانتْ تُسَمَّى البحيرة الإسلاميَّة، ولقد استطاع الغرب آنذاك أن يمحو بعضَ المعالم الإسلاميَّة من هذه البلاد بسبب تخاذُل المسلمين عن نُصرة إخوانهم، فنجد الأسبان قد قاموا بتحريف معظم أسماء المدن في الأندلس، وكذلك فعلت البرتغال بعد السيطرة شبه الكاملة على بلدان إفريقيا، وخاصة عند اكتشافهم طريقس رأْس الرجاء الصالح الذي حوَّل مجرى التجارة العالمي من بلاد الإسلام إلى المستعمرات التابعة للبرتغال، وطريق رأْس الرجاء الصالح المقصود به: طريق يربط إفريقيا بأوروبا، ونقطة الربط هذه موجودة اليوم عند مدينة "كيت داون" في جنوب إفريقيا نقطة الْتقاء المحيط الأطلسي بالمحيط الهندي.
أما في العصر الحديث، فقد قامتْ إمبراطوريَّات ضخمة؛ مثل: إمبراطورية فرنسا وإنجلترا، وروسيا، وقد اتفقتْ هذه الإمبراطوريَّات على هدفٍ واحد: هو القضاء على الإسلام والمسلمين، فأمعنتْ في احتلال البلاد الإسلامية مِن خارج بلاد العرب، ناهيك عن أعمال القتْل والتعذيب والتشريد والتجويع، فما أشبه اليوم بالبارحة.
وفي العصر الحديث، وفي أواخر الدولة العثمانية عندما تداعتْ عليها الأمم، تَمَّ تقسيم الدويلات الإسلامية بما فيها بلاد العرب ومصر على القوى الاستدماريَّة الكبرى، فراحتْ هذه الدول تُمْعِن في وضْع سياسة تعمل على مَحو العقيدة الدينيَّة من قلوب هذه الشعوب المسلمة؛ عن طريق تهميش الدين، وفَرْض الأحكام العُرفيَّة، وتهميش اللغة العربية وتدريس لغاتهم بدلاً عنها، كذلك سياسة قتْل العلماء، ولا سيَّما علماء الدين؛ حيث الصحوة والجهاد، ناهيك عن سياسة التجويع ونَشْر الأُميَّة والفقر بين ربوع هذه البلاد، كذلك استنزاف ثروات ومُمتلكات هذه البلاد في حروب هذه الدول، وتسخير أهلها لصالِحِ الإمبراطورية، والأمثلة على ذلك كثيرة منها: ما فعله نابليون في مصر، وما فعلتْه روسيا والصين في مسلمي بلاد التركستان، وما فعلتْه إنجلترا بعد ذلك في مصر، وما فعله الاستدمار الفرنسي في تونس والجزائر والمغرب، وما فعلتْه إيطاليا في ليبيا والحبشة - إثيوبيا حاليًّا - وما فعلتْه هولندا بإيعاز من إنجلترا في إندونيسيا، وما فعل ويفعل اليهود في فِلَسْطين.
أما في أواخر القرن العشرين، فظهر الكثيرُ والكثير من جرائم الاستدمار الغربي، منها: جرائم الصرب في البوسنة والهرسك، وجرائم روسيا المستمرَّة إلى الآن في الشيشان، وجرائم أرمينيا بمساعدة أمريكا وروسيا في أذربيجان المسلمة، وجرائم نصارى إثيوبيا بمساعدةِ أمريكا في إريتريا والصومال.
كان الهدفُ من هذه الجرائم واحدًا، وهو محو الدين الإسلامي والْهُويَّة الإسلامية من هذه البلاد وَفْق المخطَّطات اليهودية، وتجويع هذه البلاد واستنزاف ثرواتهم؛ حتى يتسنَّى لهم تنصيرُ هذه البلاد، ولقد نجحتْ هذه الْخُطة في بعض البلاد، وخاصة في بلاد إفريقيا الفقيرة، وبعض بلدان آسيا؛ حيث تراجَعَ عددُ المسلمين في هذه البلاد وقلَّتْ نسبتُهم؛ بفعل التنصير والتبشير تحت ضغط الفقر والجوع والاستنزاف.
وكان من نتيجة هذا الاستدمار آلاف القتْلَى؛ حيث المقابر الجماعيَّة في البوسنة والشيشان، حيث الفتيات المغتصبات، ولقد قام مركز جرائم الحرب التابع "لسراييفو" بِحَصْر جرائم الاغتِصاب فقط، فبلغتْ خمسين ألف جريمة دون مبالغة، ناهيك عن المشرَّدين من الأطفال والشيوخ؛ فأي استعمار هذا، إنه استدمار وسَعْي في الأرض بالفساد.
وبعدُ:
فالبون شاسع والفارق كبيرٌ بين حضارة الإسلام ووحشيَّة الغرب، بين الاستعمار بمعناه الحقيقي، وبين الاستدمار وقتْل الأنفس بغير جُرْمٍ.
فالمسلمون فتحوا البلاد ليس بحدِّ السيف، كما يدَّعي الغرب الآن الذين ينعتون الإسلام العنف والإرهاب، ولكن بالقرآن والعلم والسماحة والرحمة، فكان هدفُ المسلمين هو نشْر الدين والدعوة إليه، وتعمير البلاد وزراعة الأرض، والقضاء على الظلم بأنواعه، وعدم إكراه أحدٍ على الدخول في الإسلام؛ حيث كان شعارُهم: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256].
هذا هو الاستعمار بمعناه الحقيقي؛ لا قتلَ لا تجويع، لا هَتْك للأعراض، لا تشريد للشعوب، لا مقابر جماعيَّة، لا استنزاف لثروات الشعوب ولا استغلال لمواردهم.
هذا هو الإسلام وحضارته، وهذه هي الحضارة الغربية التي قامتْ على الغش والْجُثث، وتشويه الحقائق.
موقع الألوكة
رابط الموضوع:
http://www.alukah.net/Culture/0/34645/#ixzz1XwF7cKQk
محمود حسن عمر
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحْدَه لا شريك له؛ المتفرِّد بالخَلق والتدبير، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، وصَفيُّه من خَلْقه وحبيبه.
أمَّا بعدُ:
أتحدَّثُ في هذا المقال عن الفارِق الكبير بين الفتْح الإسلامي للبلدان، وهو الاستعمار بمعناه الحقيقي، وبين الاستدمار الغربي للبلدان الذي هو استنزاف لثروات البلاد وطاقاتها لصالح المحتل، بل وقتْل أبناء هذه البلاد وتشريدهم.
أبدأ بالفتح الإسلامي للبلدان، وكيف استغلَّ المسلمون هذه الفتوحات لنشْرِ الدين الإسلامي ونشر العلم والحضارة.
أولاً: في عهْد النبي صلى الله عليه وسلم وإلى حين وفاته، تَمَّ فتْحُ السواد الأعظم من الجزيرة العربية، وأصبحتْ قبائل الجزيرة تحت لواء الإسلام، وكانتْ فتوحات النبي صلَّى الله عليه وسلَّم في هذه الحقبة مثلاً أعْلَى في الرأْفة والتعاطُف والتسامُح؛ فلم يشرِّد الأطفال، ولم يقتل الشيوخ ولا النساء، ولكنْ كان يُرْسِل إلى حاكم المكان الذي يريد فتْحَه، يَعرِض عليه الإسلام، فإن أبَى فالجزية، فإنْ أبَى فالحرب، فكانت الحرب آخر الخيارات عند النبي صلَّى الله عليه وسلَّم وكذلك خلفاؤه.
وبعد وفاة النبي صلَّى الله عليه وسلَّم وتولِّي أبي بكر الصِّدِّيق الخلافة، اتَّسعتْ دائرة الفتوحات، لتشملَ ما حول الجزيرة؛ بلاد الشام والعراق، ولقد سار الخليفة أبو بكر الصديق على نفْس النهج والطريق، كيف لا وهو الصِّدِّيق والرفيق في الغار؟ واتَّسع نطاق هذه الفتوحات في عهْد سيدنا عمر؛ حيث تَمَّ فتْحُ بلاد الشام والعراق كلِّها، وترسَّم المسلمون خُلق النبي صلَّى الله عليه وسلَّم في فتْح البلاد، وطبَّقوا وصيَّة النبي صلَّى الله عليه وسلَّم لهم التي كان يقولها لهم عند خروجهم للقتال والغزو، وهي قوله: «اغْزُوا باسم الله، وفي سبيلِ الله، وقاتلوا مَنْ كفَرَ بالله، اغْزُوا ولا تَغْدِرُوا، ولا تَغُلُّوا، ولا تُمَثِّلُوا، ولا تَقْتُلُوا وَلِيدًا».
هذه مبادئ الإسلام في الغزو والفتْح التي تربَّى عليها الصحابة الكِرام، ولقد وجَدَ أهل هذه البلاد المفتوحة السماحة والرحمة عند المسلمين؛ حيث أخَذَ المسلمون يُقبلون على الناس يَعرضون عليهم الإسلام بالرأفة واللين لا بالإكراه، كما فَعَل إيفان الرهيب قيصر روسيا عندما كان يُكْرِه المسلمين على دخول النصرانية بعد استيلائه على بلاد القوقاز، وكان دستورهم في ذلك قول الله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256].
مما جعلهم يقبلون على الإسلام جماعات؛ لما آنسوه من سماحة ويُسرِ الإسلام والمسلمين، ولِمَا وجدوه من الخلاص من استبداد وظُلم الروم والفُرس الذين أذاقوهم الذلَّ والاستعباد، واستنزاف الثروات، وتسخير الشعوبِ لصالح الدولة الغازية، وهذا ما يفعلُه الغربُ الآن في كل مكانٍ، وخاصة بلاد المسلمين.
واتَّسعتْ رقعة الفتوحات الإسلامية لتشمل مصر، وبلاد ما وراء النهر، وبلاد السودان، وبعض الفتوحات الصغيرة في بلاد المغرب - بَرْقَة وطرابلس - ولقد عمَّر المسلمون هذه البلاد بالعِلم والحضارة، وقبل كل ذلك بالإسلام والقرآن؛ حيث أقبل السوادُ الأعظم من أهل هذه البلاد على الإسلام؛ لِمَا وجدوا فيه من سماحة وعدل ومساواة، لا ذُلَّ، لا استعباد، لا استنزاف للثروات، ومَن بَقِي منهم على دينه، لم يُعذَّب ولم يُضطهَدْ، يبقى تحت حماية الدولة الإسلامية مقابل الجزية، وهؤلاء هم أهل الذِّمَّة.
ومع قيام الدولة الأموية واستئناف الفتوحات تَمَّ فتح بلاد المغرب كلها وباقي بلاد ما وراء النهر، بل امتدَّ الفتح ليشمل أوروبا - البرتغال وإسبانيا - بلاد الأندلس، منبع العلم والحضارة، تحوَّل شعوب هذه البلاد إلى الإسلام لِمَا ذكرته آنفًا، وبعد أنْ كانوا قبائل متفرِّقة يعيشون بقانون الغابة، يأكل فيهم القوي الضعيفَ، أصبحوا من رعايا الدولة الإسلامية وتحت حمايتها، لهم حقوق وعليهم واجبات، فأحسوا بالاستقرار، وإذا وُجِد الاستقرار وُجِدت الحضارة والمدنيَّة، فأقبلوا على العلم ودراسة القرآن وعلوم الدين الإسلامي واللغة العربية؛ حتى خرَج منهم علماء في كلِّ الفنون أضاؤوا ظلامَ الجهلَ بعِلمهم إلى اليوم.
وكان المسلمون يُرسلون الدُّعاة بل التجار - الذين كانوا يعملون بالتجارة والدعوة إلى الله - إلى البلاد البعيدة لدعوة أهْلها إلى الإسلام، مثل: بلاد الهند وإندونيسيا، والفلبين وماليزيا، وجزر سيلان وبنجلادش، فانتشرَ الإسلام في هذه المناطق على يد التجار المسلمين، بل أصبحَ الإسلام الديانة الرسميَّة لهذه البلاد فيما بعد؛ هكذا الإسلام.
كذلك حدَثَ هذا في بلاد إفريقيا؛ حيث انتشر الإسلام هناك عن طريق الدُّعاة المسلمين والتجار، فدخل معظمُ شعوب إفريقيا الإسلام، فأصبح الإسلام الدينَ الرسمي لكثيرٍ من شعوب المنطقة، مثل: نيجيريا، السنغال، مالي... إلخ، وانتشرَ العلم والحضارة في هذه البلاد، وتحسَّنتْ أحوال الناس؛ الفِكرية والمعيشيَّة.
وعندما تخلَّى المسلمون عن عقيدتهم الإيمانيَّة خذَلَهم الله، فأخَذَ بعض ما في أيديهم، وأعطاه لأعدائهم، فتدهورتْ أحوال المسلمين، وخاصة بعد ظهور قُوَى أوروبيَّة؛ مثل: البرتغال وإسبانيا في القرون الوسطى، فعمدوا إلى إقصاءِ المسلمين عن بلادهم، وقاموا بطرْدِ المسلمين من الأندلس وسط مذابح عظيمة راحَ ضحيَّتها آلاف المسلمين؛ من النساء والأطفال والشيوخ، كذلك فعَلَ الرومان عندما طردوا المسلمين من جزيرة "صقلية"، التي فتَحَها أسد بن الفرات.
ليت الأمرَ اقتصر على طرْد المسلمين من بلاد الغرب فحسب، بل عمدوا إلى طرْدِ المسلمين من البلاد الأخرى التي كانت معهم، وعملوا على محو المعالم الإسلاميَّة التي كانتْ قد استقرَّت في هذه البلاد، فقاموا بسياسات عِدَّة؛ منها: تغيير كل الأسماء الإسلاميَّة التي كانتْ تُطلق على البحار والأماكن؛ مثل: بحيرة فيكتوريا، إذ كانتْ تُسَمَّى البحيرة الإسلاميَّة، ولقد استطاع الغرب آنذاك أن يمحو بعضَ المعالم الإسلاميَّة من هذه البلاد بسبب تخاذُل المسلمين عن نُصرة إخوانهم، فنجد الأسبان قد قاموا بتحريف معظم أسماء المدن في الأندلس، وكذلك فعلت البرتغال بعد السيطرة شبه الكاملة على بلدان إفريقيا، وخاصة عند اكتشافهم طريقس رأْس الرجاء الصالح الذي حوَّل مجرى التجارة العالمي من بلاد الإسلام إلى المستعمرات التابعة للبرتغال، وطريق رأْس الرجاء الصالح المقصود به: طريق يربط إفريقيا بأوروبا، ونقطة الربط هذه موجودة اليوم عند مدينة "كيت داون" في جنوب إفريقيا نقطة الْتقاء المحيط الأطلسي بالمحيط الهندي.
أما في العصر الحديث، فقد قامتْ إمبراطوريَّات ضخمة؛ مثل: إمبراطورية فرنسا وإنجلترا، وروسيا، وقد اتفقتْ هذه الإمبراطوريَّات على هدفٍ واحد: هو القضاء على الإسلام والمسلمين، فأمعنتْ في احتلال البلاد الإسلامية مِن خارج بلاد العرب، ناهيك عن أعمال القتْل والتعذيب والتشريد والتجويع، فما أشبه اليوم بالبارحة.
وفي العصر الحديث، وفي أواخر الدولة العثمانية عندما تداعتْ عليها الأمم، تَمَّ تقسيم الدويلات الإسلامية بما فيها بلاد العرب ومصر على القوى الاستدماريَّة الكبرى، فراحتْ هذه الدول تُمْعِن في وضْع سياسة تعمل على مَحو العقيدة الدينيَّة من قلوب هذه الشعوب المسلمة؛ عن طريق تهميش الدين، وفَرْض الأحكام العُرفيَّة، وتهميش اللغة العربية وتدريس لغاتهم بدلاً عنها، كذلك سياسة قتْل العلماء، ولا سيَّما علماء الدين؛ حيث الصحوة والجهاد، ناهيك عن سياسة التجويع ونَشْر الأُميَّة والفقر بين ربوع هذه البلاد، كذلك استنزاف ثروات ومُمتلكات هذه البلاد في حروب هذه الدول، وتسخير أهلها لصالِحِ الإمبراطورية، والأمثلة على ذلك كثيرة منها: ما فعله نابليون في مصر، وما فعلتْه روسيا والصين في مسلمي بلاد التركستان، وما فعلتْه إنجلترا بعد ذلك في مصر، وما فعله الاستدمار الفرنسي في تونس والجزائر والمغرب، وما فعلتْه إيطاليا في ليبيا والحبشة - إثيوبيا حاليًّا - وما فعلتْه هولندا بإيعاز من إنجلترا في إندونيسيا، وما فعل ويفعل اليهود في فِلَسْطين.
أما في أواخر القرن العشرين، فظهر الكثيرُ والكثير من جرائم الاستدمار الغربي، منها: جرائم الصرب في البوسنة والهرسك، وجرائم روسيا المستمرَّة إلى الآن في الشيشان، وجرائم أرمينيا بمساعدة أمريكا وروسيا في أذربيجان المسلمة، وجرائم نصارى إثيوبيا بمساعدةِ أمريكا في إريتريا والصومال.
كان الهدفُ من هذه الجرائم واحدًا، وهو محو الدين الإسلامي والْهُويَّة الإسلامية من هذه البلاد وَفْق المخطَّطات اليهودية، وتجويع هذه البلاد واستنزاف ثرواتهم؛ حتى يتسنَّى لهم تنصيرُ هذه البلاد، ولقد نجحتْ هذه الْخُطة في بعض البلاد، وخاصة في بلاد إفريقيا الفقيرة، وبعض بلدان آسيا؛ حيث تراجَعَ عددُ المسلمين في هذه البلاد وقلَّتْ نسبتُهم؛ بفعل التنصير والتبشير تحت ضغط الفقر والجوع والاستنزاف.
وكان من نتيجة هذا الاستدمار آلاف القتْلَى؛ حيث المقابر الجماعيَّة في البوسنة والشيشان، حيث الفتيات المغتصبات، ولقد قام مركز جرائم الحرب التابع "لسراييفو" بِحَصْر جرائم الاغتِصاب فقط، فبلغتْ خمسين ألف جريمة دون مبالغة، ناهيك عن المشرَّدين من الأطفال والشيوخ؛ فأي استعمار هذا، إنه استدمار وسَعْي في الأرض بالفساد.
وبعدُ:
فالبون شاسع والفارق كبيرٌ بين حضارة الإسلام ووحشيَّة الغرب، بين الاستعمار بمعناه الحقيقي، وبين الاستدمار وقتْل الأنفس بغير جُرْمٍ.
فالمسلمون فتحوا البلاد ليس بحدِّ السيف، كما يدَّعي الغرب الآن الذين ينعتون الإسلام العنف والإرهاب، ولكن بالقرآن والعلم والسماحة والرحمة، فكان هدفُ المسلمين هو نشْر الدين والدعوة إليه، وتعمير البلاد وزراعة الأرض، والقضاء على الظلم بأنواعه، وعدم إكراه أحدٍ على الدخول في الإسلام؛ حيث كان شعارُهم: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256].
هذا هو الاستعمار بمعناه الحقيقي؛ لا قتلَ لا تجويع، لا هَتْك للأعراض، لا تشريد للشعوب، لا مقابر جماعيَّة، لا استنزاف لثروات الشعوب ولا استغلال لمواردهم.
هذا هو الإسلام وحضارته، وهذه هي الحضارة الغربية التي قامتْ على الغش والْجُثث، وتشويه الحقائق.
موقع الألوكة
رابط الموضوع:
http://www.alukah.net/Culture/0/34645/#ixzz1XwF7cKQk
- التصنيف:
- المصدر: