فتنة الإلحاد والحلقة الشيطانية المفرغة
فقد انتشرت في الآونة الأخيرة فتنة حرق القرآن وكلمة أنا ملحد، التي فاجأنا بها بعض من كان ينتمي إلى ملة الإسلام، فأوغروا بها قلوب المسلمين، وأصمُّوا بها آذانهم...
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
فقد انتشرت في الآونة الأخيرة فتنة حرق القرآن وكلمة أنا ملحد، التي فاجأنا بها بعض من كان ينتمي إلى ملة الإسلام، فأوغروا بها قلوب المسلمين، وأصمُّوا بها آذانهم، وقد لاحظنا في أكثر من حادثة ارتباط الإلحاد والمثلية وحوادث حرق القرآن، وكأنها حلقة مفرغة تسجن مَن داخلها بين أسوار الشيطان، وتجعله يتخبط من غيٍّ إلى غيٍّ، ومن كبيرة إلى أخرى حتى ينتهي به الأمر إلى الكفر والإلحاد، ورأينا في الإعلام من يعلن ارتداده عن الإسلام، ويتحدث عن العنف في القرآن كما يسميه الخاسئ، ثم نُفاجأ به بين جموع المثليِّين وأصحاب الألوان، ومن المؤسف أن تسمعه يُردِّد آيات من القرآن بغرض النقد، ولكن ترديده يعكس حفظه للقرآن والمجهود الذي بذله معه والداه ليتعلمه، فكان حريًّا به أن يفهم الإسلام على حقيقته، وأنه دين سلام لا إرهاب فيه، ولكنه أخلد إلى الأرض واتَّبَع هواه، وكان أمره فُرطًا، فلم ينتفع بتلك الآيات التي تعلمها ولم يحترم قُدسيَّتها، فيا للعجب! وما يمكن أن يصل إليه الإنسان في تفكيره، لا سيما بتأثير البيئة المحيطة به، ويمر على الخاطر من حاله قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص: 56]،
فها هو يعتدي على كتابنا المقدس الشريف بالحرق والدهس والإساءة، كالثور الهائج الذي يملؤه الكبر والغرور، والله سبحانه وتعالى ليس بغافل عنه، ولكنه يمده في غيِّه حتى يأخذه في أشد ظلمة، ويحشره على نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها، وهي حسبه ومأواه، ولا يظلِمُ ربُّك أحدًا، قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} [المنافقون: 3]،
فهذا ما قدمت له يداه، وما أرداه فيه غروره وجهله بالله وبقدرته، وبأنه يمكنه أن يقضي عليه في لمح البصر، وكذا هو برحمته سبحانه يمهل ولا يهمل... ويعطي الفرص والإشارات والإنذارات، لعل ذلك المغرور يتوب أو يرجع قبل أن يأخذه بعذابه أخذ عزيز مقتدر، قال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38]،
وأمَّا إن أصَرُّوا وتمادوا وازدادوا في كفرهم وردتهم حتى يدركهم الموت فلهم عذاب أليم، لا ينتهي ولا يُفتَّر عنهم، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [آل عمران: 90، 91].
وقد توالت الأحداث في الآونة الأخيرة، وتكررت حوادث الإساءة إلى الإسلام بما فيها حرق القرآن، والإساءة إلى الرسول والمسلمين في أوربا وفرنسا والسويد وألمانيا وغيرها، وجرَّت وراءها ما جرَّت من الشغب والهرج للمسلمين وغير المسلمين؛ بل وأدت إلى العنف الداخلي في بعض منها حتى غدت حكومات بعض تلك الدول تحاول إيقاف تلك الأعمال التي تسيء إلى أديان الناس ومعتقداتهم بما فيهم المسلمون؛ لما جرَّته لهم من المظاهرات والحركات المعارضة. وتفعل ذلك لا حُبًّا في المسلمين، ولكن لحفظ الأمن والاستقرار في بلادهم، وللفوضى التي انتشرت بسبب أعمال هؤلاء المرتدين فيها واعتداءاتهم المتوالية، وكل هذا من عمل الشيطان الذي أغواهم لارتكاب الردة والكفر.
وما كان ذاك الهرج والشغب كما يسمونه في تلك الدول إلا ثورة الغيورين من المسلمين على دينهم لنصرة الله ورسوله، فتقبَّل الله منهم وأثابهم على غيرتهم، ولكن على المسلمين أيضًا الانتباه إلى أن المرتدين وأعداء الإسلام لم يستمروا بعمل هذه السخافات إلا بعد أن رأوا كيف أن هذه الأفعال تثير حفيظة المسلمين وتغيظهم، فزادوا فيها وتمادوا في الظلم والإساءة لإغاظة المسلمين وتحقيرهم وإثارة البلبلة والضوضاء حولهم، والإساءة لسمعتهم، وتزييف الحقائق وتلوينها حتى ينتشر بين الناس أن المسلمين إرهابيون ومصدر للمشكلات والعنف. وكل هذا يسيء إلى سمعة الإسلام قبل المسلمين، ويعود بالضرر على مسيرة نشر هذا الدين، وربما لو أن المسلمين تجاهلوهم ولم يُعيروهم بالًا أو يعطوهم وزنًا لما استمروا في هذا الظلم والاعتداء، ولتوقفوا عن الإساءة للإسلام ويأسوا وانصرفوا، ويذكرنا هذا الحال بالمثَل الذي يقول: الكلاب تنبح والقافلة تسير،
وقد تمت الإساءة إلى الإسلام والنبي صلى الله عليه وسلم في عهده كثيرًا، ولكنه -صلوات الله وسلامه عليه- لم يُضيِّع وقته بسباب المعتدين وشتمهم بالمثل والقيل والقال والجِدال والمناورات التي تضيع الجهد والوقت؛ بل استمرَّ في دعوته ومسيرته، حتى أيَّده الله بنصره، وأذِن له بالهجرة، وفتح له مكة، وليس ذلك فحسب؛ بل مَدَّ نصره في مشارق الأرض ومغاربها، وفتح له بلاد الشام والفرس والروم، وجعله سيد ملوك الأرض وقائدهم، ورفعه فوق رؤوس المعتدين ونصره عليهم، قال الله تعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 62]،وكل ذلك بفضل الله تعالى ثم بحكمته صلى الله عليه وسلم وحلمه وحسن تدبيره، واستعمال الحكمة والعقل كان من الوسائل التي استعان بها النبي صلى الله عليه وسلم في تعامله مع الأعداء.
وأما عقاب هؤلاء المرتدين في الآخرة فهو الخلود في النار إن لم يتوبوا؛ لأن الردة هي الخروج من الإسلام والدخول في الكفر، والكفار عقابهم نار جهنم، هي حسبهم وبئس القرار، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ} [إبراهيم: 28، 29]، وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54]، وقد أكَّد الله تعالى أنه لن يقبل أي دين غير الإسلام بعد إرسال محمد عليه الصلاة والسلام، وأن من يتخذ غير الإسلام دينًا سيكون من الخاسرين حتى ولو عمل ما عمل من الصالحات، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]،
فإن كان سبحانه لا يقبل الأديان الأخرى بعد الإسلام، فإن الردة أسوأ من تغيير الدين، فالملحد لا يؤمن بالله، ويكفر بجميع الأديان، والردة من كبائر الذنوب التي تستوجب اللعن والطرد من رحمة الله، قال تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 86]،
وقال العلماء: إن عقوبة الردة في الدنيا القتل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: من بدَّل دينه فاقتلوه[1]، وقوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 5]، والمتعارف عليه أن القتل يكون بيد سلطان المسلمين، أو من ينوب عنه في ظِلِّ الدولة الإسلامية، حتى لا تنتشر الفوضى وتعم، وقد حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه سيكون أقوام يقرءون القرآن ومع ذلك يخرجون من الدين ويرتدون عنه، وذلك في قوله: «سيكون في أُمَّتي اختلاف وفرقة، قوم يحسنون القيل، ويسيئون الفعل، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، لا يرجعون حتى يرتد على فوقه، هم شرار الخلق والخليقة، طوبى لمن قتلهم وقتلوه، يدعون إلى كتاب الله وليسوا منه في شيء، من قاتلهم كان أوْلَى بالله منهم، سيماهم التحليق» [2].
وهذا يعكس تمامًا ما يحدث في واقعنا اليوم، فتجد هؤلاء المرتدين يعلمون ما جاء في القرآن؛ بل وبعضهم يحفظون منه السور والآيات، ثم يأتي بكفره وإلحاده، فلم تنفعه تلك المعرفة لتكبُّره واستكباره على خالقه، وهو في ذلك أشدُّ من كُفَّار قريش حيث يقوم بحرق القرآن على الملأ... تحقيرًا له والعياذ بالله، فهو تمادى وتجرَّأ على مُحرَّمات الله... وليس كالكافر العادي الذي ولَّى ولم يُبالِ، فقد أخذ خطوات وخطوات في الاعتداء والشر والتجرؤ على الله؛
ولذا كثيرًا ما يأتي هؤلاء وأمثالهم العقاب حاضرًا في الدنيا قبل الموت، فمنهم من مات محروقًا، ومنهم من مات مريضًا، ومنهم من قُتِل بأيدي الناس وغيره، وهذا غير ما ينتظرهم من عذاب جهنم وسعيرها، ولا يجوز الترحُّم عليهم، فهم أعداء الله وجبابرة الأرض، ماتوا على الكُفْر والردة في أبشع صورها وأشدها شرًّا، قال صلى الله عليه وسلم: «أنا فرطكم على الحوض، فمن ورد أفلح، ويؤتى بأقوام، فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: أي رب، فيقال: ما زالوا بعدك يرتدون على أعقابهم» [3]، فهلا يتوب الأحياء منهم قبل أن تصيبهم مصيبة الموت، فبفضل الله تعالى ورحمته بعباده أنه أبقى باب التوبة مفتوحًا للإنسان ما لم يغرغر، وقال تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 89].
ولا شك أن الفتن تتكاثر على الناس من كل ناحية في هذا العصر، لا سيَّما الشباب، والغاوون في كل مكان ينشرون أفكارهم الفاسدة في أوساط الإعلام وصياحه، فيتبعهم الناس برؤوس جُهَّال تمامًا كما أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بحدوثه؛ ولذا على المسلم أن يُحصِّن نفسه ويُسلِّحها بالعلم وقراءة القرآن والسنة، وحضور حلقات العلم ودروس العقيدة والتوحيد، وحضور الشباب والصغار لهذه الدروس فيه فائدة كثيرة لهم، لا سيَّما في بلاد الغرب، وكذلك الاستعاذة من الردة والإلحاد، وكان صلى الله عليه وسلم يستعيذ من الكفر في دعائه ويقول: «اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر وعذاب القبر» [4]،
وقد دعا ابن مسعود رضي الله عنه بقوله: اللهم إني أسألك إيمانًا لا يرتد، ونعيمًا لا ينفد، ومرافقة محمد صلى الله عليه وسلم في أعلى جنة الخلد[5]، ثم علينا بالصبر ومجاهدة النفس، فإن أجر من صبر منا وتمسك بدينه أعلى من أجر من قبلنا؛ وذلك لشدة الفتن، قال صلى الله عليه وسلم: «يأتي علَى النَّاسِ زمانٌ الصَّابرُ فيهِم على دينِهِ كالقابِضِ على الجمرِ» [6]، وهذه بشارة لنا بفضل الله تعالى، وقد عانت الأمم قبلنا ما هو أشد وأدهى في فتن أعداء الدين، ولكنهم صبروا ولم يرتدوا عن دينهم،
فعن خباب بن الأرت -رضي الله عنه- قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع تحت شجرة، واضع يده تحت رأسه، فقلت: يا رسول الله، ألا تدعو الله على هؤلاء القوم الذين قد خشينا أن يردوننا عن ديننا، فصرف عني وجهه ثلاث مرات، كل ذلك أقول له، فيصرف وجهه عني، فجلس في الثالثة فقال: «أيها الناس، اتقوا الله واصبروا، فوالله إن كان الرجل من المؤمنين قبلكم ليوضع المنشار على رأسه، فيشق باثنتين وما يرتد عن دينه، اتقوا الله؛ فإن الله فاتح لكم وصانع» [7]. فلنتأسَّ بهم، ونحْذُ حذوهم، ونخطُ خطاهم حتى نصل لطريق الجنة بإذن الله، نسأله سبحانه أن يثبتنا جميعًا على ديننا، ويجيرنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، ويقبضنا إليه مسلمين، غير مرتدين ولا مشركين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
[1] أخرجه البخاري (3017).
[2] أخرجه الألباني في صحيح الجامع (3668)، وصحَّحه عن أبي سعيد الخُدْري وأنس بن مالك وأوس.
[3] أخرجه من طرق البخاري (3349)، ومسلم (2860)، والترمذي (2423)، والنسائي (2087) بنحوه مطولًا، وأحمد (2327) واللفظ له.
[4] أخرجه ابن جرير الطبري في مسند عمر (2/ 575).
[5] أخرجه ابن حبان في صحيحه (1970)، وأخرجه أحمد (4340)، والطبراني (9/ 62) (8417) باختلاف يسير، والنسائي في السنن الكبرى (10705) مختصرًا.
[6] أخرجه الترمذي (2260) واللفظ له، وابن عدي في الكامل في الضعفاء (5/ 55)، وابن بطة في الإبانة الكبرى (31)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، وحكم عليه بأنه صحيح.
[7] أخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين (5750)، وحكم عليه بأنه صحيح الإسناد.
__________________________________________________
الكاتب: د. منال محمد أبو العزائم
منال محمد أبو العزائم
أستاذ مساعد بقسم القرآن الكريم وعلومه بالجامعة الاسلامية بمينيسوتا.
- التصنيف: