وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً

منذ 2023-10-31

قَالُواْ هَـذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ

بسم الله الرحمن الرحيم

قال تعالى في سورة البقرة:

{وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَـذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)}

{{وَبَشِّرِ}} البشارة: أول خبر يرد على الإنسان من خير كان أو شر، وأكثر استعماله في الخير. قالوا: وسمي بذلك لتأثيره في البشرة، فإن كان خيراً أثر المسرة والانبساط واستنارة الوجه، وإن كان شراً أثر القبض والانكماش واسوداد الوجه.

ومناسبة قوله تعالى: { {وَبَشِّرِ..}} لما قبله ظاهره، وذلك أنه لما ذكر ما تضمن ذكر الكفار وما تؤول إليه حالهم في الآخرة، وكان ذلك من أبلغ التخويف والإنذار، أعقب ما تضمن ذكر مقابليهم وأحوالهم وما أعد الله لهم في الآخرة من النعيم السرمدي. وهكذا جرت العادة في القرآن غالباً، متى جرى ذكر الكفار وما لهم أعقب بالمؤمنين وما لهم وبالعكس، لتكون الموعظة جامعة بين الوعيد والوعد واللطف والعنف، لأن من الناس من لا يجذبه التخويف ويجذبه اللطف، ومنهم من هو بالعكس.

{{الَّذِين آمَنُواْ}} بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره؛ لكن ليس الإيمان بهذه الأشياء مجرد التصديق بها؛ بل لا بد من قبول وإذعان؛ وإلا لما صح الإيمان.

{{وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ}} وهي الصادرة عن محبة، وتعظيم لله عزّ وجلّ المتضمنة للإخلاص لله، والمتابعة لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ فما لا إخلاص فيه فهو فاسد؛ وما لم يكن على الاتِّباع فهو مردود لا يقبل

وفيه دليل على أن الذين أمر الله بأن يبشروا هم من جمعوا بين الإيمان والأعمال الصالحات، وأن من اقتصر على الإيمان فقط دون الأعمال الصالحات لا يكون مبشراً.

{{أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ}} الجنة: البستان الذي سترت أشجاره أرضه لكثرتها وكثافتها، وكل شيء ستر شيئاً فقد أجنه، ومن ذلك: الجنة والجنة والجن والمجن والجنين. فإن كان فيه كرم فهي فردوس. وذلك من وسائل التنعم والترفه عند البشر قاطبة لاسيما في بلد تغلب عليه الحرارة كبلاد العرب قال تعالى: {{وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً}} [النبأ:16]

والمراد بالجنة شرعاً: الدار التي أعدها الله للمتقين، وفيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

وجنات جمع جنة، وهو جمع قلة، والجنان أنواع فروي عن ابن عباس أنها سبع جنات، وروى البخاري عن عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «(جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلَّا رِدَاءُ الْكِبْرِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ)» .

{{تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}} من أسفلها، أي من بين أشجارها وقصورها؛ وليس من تحت سطحها؛ لأن جريانها من تحت سطحها لا فائدة منه؛ وأكمل محاسن الجنات جريان المياه في خلالها وذلك شيء اجتمع البشر كلهم على أنه من أنفس المناظر لأن في الماء طبيعة الحياة ولأن الناظر يرى منظرا بديعا وشيئا لذيذا.

وسمي النهر «نهراً» لاتساعه، ومنه "النهار" لاتساع ضوئه. ولم يبين هنا أنواع هذه الأنهار، ولكنه بين ذلك في قوله: {{فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً}} [محمد:15].

ولما كانت الجنة لا تشوق، والروض لا يروق إلا بالماء الذي يقوم لها مقام الأرواح للأشباح، ما كاد مجيء ذكرها إلا مشفوعاً بذكر الأنهار، مقدماً هذا الوصف فيها على سائر الأوصاف.

وقد روي عن مسروق: أن أنهار الجنة تجري في غير أخاديد، وأنها تجري على سطح أرض الجنة منبسطة.

وإذا صح هذا النقل، فهو أبلغ في النزهة، وأحلى في المنظر، وأبهج للنفس. فإن الماء الجاري ينبسط على وجه الأرض جوهره فيحسن اندفاعه وتكسره، وأحسن البساتين ما كانت أشجاره ملتفة وظله ضافياً وماؤه صافياً منساباً على وجه أرضه، لاسيما الجنة، حصباؤها الدر والياقوت واللؤلؤ، فتنكسر تلك المياه على ذلك الحصى، ويجلو صفاء الماء بهجة تلك الجواهر، وتسمع لذلك الماء المتكسر على تلك اليواقيت واللآليء له خريراً.

{{كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَـذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ}} لأنه يشبه ما سبقه في حجمه ولونه وملمسه.. وغير ذلك من صفاته؛ فيظنون أنه هو الأول؛ ولكنه يختلف عنه في الطعم والمذاق اختلافاً عظيماً؛ ولهذا قال:

{{وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً} } قال الحسن ومجاهد: يرزقون الثمرة ثم يرزقون بعدها مثل صورتها، والطعم مختلف، فهم يتعجبون لذلك ويخبر بعضهم بعضاً.

وقال ابن عباس: ليس في الجنة شيء مما في الدنيا سوى الأسماء، وأما الذوات فمتباينة.

ويحتمل أن في ذلك تعجيبا لهم والشيء العجيب لذيذ الوقع عند النفوس ولذلك يرغب الناس في مشاهدة العجائب والنوادر. وهذا الاحتمال هو الأظهر من السياق.

{{وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ} } ولما كانت مجامع اللذات في المسكن البهي والمطعم الشهي والمنكح الوضي، ذكرها الله تعالى فيما يبشر به المؤمنون. وقد بدأ بالمسكن لأن به الاستقرار في دار المقام، وثنى بالمطعم لأن به قوام الأجسام، ثم ذكر ثالثاً الأزواج لأن بها تمام الالتئام.

والأزواج جمع "زوج"، وهو من جموع القلة، لأن زوجاً جمع على "زوجة" نحو: عود وعودة، وهو من جموع الكثرة، لكنه ليس في الكثير من الكلام مستعملاً، فلذلك استغنى عنه بجمع القلة توسعاً وتجوزاً. وفي حديث أنس -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «(إنها زوجتي)» أ [خرجه مسلم] .

وهو شامل للأزواج من الحور، ومن نساء الدنيا؛ ويطلق "الزوج" على الذكر والأنثى؛ ولهذا يقال للرجل: "زوج"، وللمرأة: "زوج"؛ لكن في اصطلاح الفرضيين صاروا يلحقون التاء للأنثى فرقاً بينها وبين الرجل عند قسمة الميراث.

{{مُّطَهَّرَةٌ}} يشمل طهارة الظاهر، والباطن؛ فهي مطهرة من الأذى والقذر: لا بول، ولا غائط، ولا حيض، ولا نفاس، ولا استحاضة، ولا عرق، ولا بخر، مطهرة من كل شيء ظاهر حسي؛ مطهرة أيضاً من الأقذار الباطنة، كالغل، والحقد، والكراهية، والبغضاء، وغير ذلك.

ومجيء هذه الصفة مبنية للمفعول، ولم تأت {طاهرة أو طاهرات}، أفخم لأنه أفهم أن لها مطهراً وليس إلا الله تعالى. فهنّ مطهرات ظاهرا وباطنا من كل ما يشين، لأن من طهره الله تعالى ووصفه بالتطهير كان في غاية النقاء والنظافة والوضاءة.

ولم يبين هنا سائر صفات تلك الأزواج، ولكنه بين صفاتهن الجميلة في آيات أخر كقوله: { {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ}} [الصافات:48]، وقوله: {{كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} } [الرحمن:58]، وقوله: {{وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ الْلُؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ}} [الواقعة:23-22]، وقوله: {{وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً}} [النبأ:33]، إلى غير ذلك من الآيات المبينة لجميل صفاتهن.

{{وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}} احتراس من توهم الانقطاع بما تعودوا من انقطاع اللذات في الدنيا لأن جميع اللذات في الدنيا معرضة للزوال وذلك ينغصها عند المنَعم عليه.

فلما ذكر تعالى مسكن المؤمنين ومطعمهم ومنكحهم، وكانت هذه الملاذ لا تبلغ درجة الكمال مع توقع خوف الزوال أعقب ذلك تعالى بما يزيل تنغيص التنعم بذكر الخلود في دار النعيم.

وفيه أن جزاء المؤمنين العاملين للصالحات أكبر بكثير مما عملوا وأعظم؛ لأنهم مهما آمنوا وعملوا فالعمر محدود وينتهي؛ لكن الجزاء لا ينتهي أبداً؛ هم مخلدون فيه أبد الآباد؛ كذلك أيضاً الأعمال التي يقدمونها قد يشوبها كسل؛ قد يشوبها تعب؛ قد يشوبها أشياء تنقصها، لكن إذا منّ الله عليه، فدخل الجنة فالنعيم كامل.

جمع وترتيب

د/ خالد سعد النجار

alnaggar66@hotmail.com

 

خالد سعد النجار

كاتب وباحث مصري متميز