نظرة أوسع على ميدان التحرير
من أوائل التمارين التي يجب تدريب طلاب العلوم السياسية (Political Science) عليها وبالتحديد في مجال العلاقات الدولية، أن يمسك الطالب بخريطة ويمعن النظر فيها ويدرسها، متجاهلًا الحدود السياسية الموجودة عليها، حتى يتسنى له رؤية الوضع الحقيقي للعلاقات الدولية، و تطوير قدراته التحليلية.
وفي هذا المقال عزيزي القارىء، أطلب منك صراحة أن تنظر إلى أفق أوسع من مجال التحرير وتبتعد للحظات عن شاشة التلفاز حيث تذاع أخبار القتلى والمصابين لتدرك ما وراء الحدث. سنبدأ بتحليل الأمر قطعة قطعة حتى نصل إلى صورة واضحة كاملة نحاول أن نفهم منها ما وراء الأحداث.
أولًا: القوى العالمية وتوازنات المنطقة
بعض الدول تتحقق فيها عناصر معينة مثل تميز جغرافية الموقع والتاريخ القيادي و حجم القوة البشرية. هذه الدول ذات التأثير الإقليمي لا يمكنك أن تقف عند حدودها السياسية وتقول هنا ينتهي التأثير.
وبدراسة منطقة الشرق الأوسط يوجد به ثلاث دول تمثل مراكز القيادة الإقليمية: مصر وتركيا وإيران.
وبدراسة التاريخ ستجد أن الغرب منذ أن استولى على قيادة العالم لم يكن يسمح قط إلا بمواجهة دولة واحدة من الدول الإقليمية، ذلك أن تحالف دولتين خارج المنظومة الغربية يمثل تهديدا خطيرا تنوء بحمله الكواهل.
ومن الأمثلة على ذلك: في العهد الذي مثلت فيه مصر الناصرية مشروعا مختلفا عن المشروع الغربي، كان الغرب قد ساهم في تطوير نوع من التحالف بين تركيا وإيران. وعندما قامت الثورة الإيرانية، حدث نوع من التقارب بين مصر وتركيا بعد أن انضمت مصر تحت العباءة الأمريكية من خلال اتفاقية كامب ديفيد.
أما عن الوضع الآن: فهو مشروع إيراني شيعي خارج السيطرة الغربية وله أهداف واضحة في المنطقة، ومشروع تركي تنكوي يسعى لاستعادة مكانة أسلافه العثمانيين في المنطقة، ومشروع مصري ثوري أفصح تماما عن نواياه بأنه لن يدخل مجددا تحت العباءة الأمريكية إذا سارت الأمور على ما يرام.
هذا يعني أن الغرب يرى المنطقة تكاد تفلت من بين يديه بشكل كامل ولم يبقى إلا بضع دول ضعيفة من الممكن أن تسقط أنظمتها إن نجح النموذج المصري تحديدًا. إن أدركت هذا ستفهم أهمية التدخل في الشأن المصري بالنسبة للولايات المتحدة وقد أتى تعيين تايلور منسقًا لعملية التحول في الشرق الأوسط لتنفيذ تلك الرغبة، وهو من تولى ذات المنصب في أفغانستان بعد الاحتلال، وفي أوكرانيا بعد الثورة البرتقالية.
ثم ستفهم شيئا آخرا أيضا وهو محاولة دفع الصراع مع إيران لتوريط العرب في معركة غير مرغوبة في الوقت الحالي يضطرون من خلالها للعودة من جديد تحت العباءة الأمريكية.
الخلاصة، نحن أمام أسد أمريكي جريح يسعى لاستعادة السيطرة على الشرق الأوسط بكل طريقة ممكنة، ومصر هي ورقته الأهم في الوقت الحالي.
ثانيا: سياسة التوتر المحسوب وفن تجميد الأزمات
لابد لنا أن نستوعب هذه النقطة تماما لأننا سننطلق منها إلى ما بعدها. من يعرف مبادىء اللعبة السياسية، سيعرف تماما ما هو المقصود بسياسة التوتر المحسوب "Calculated Risk". هذه السياسة تعني افتعال أزمة في توقيت محدد والحشد لها بغرض تحقيق مكاسب على الأرض تصب في مصلحة من أشعلها، ولكن هذه السياسة في بعض الأحيان قد تنقلب على من أشعلها. أكاد أسمع البعض يتلو كلام الله سبحانه وتعالى: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّـهُ} [المائدة: 64].
ودعني أعطك مثالًا من واقعنا الحديث، عندما بدأت إسرائيل مسيرة السلام المزعومة لم تكن حقيقة تسعى إلى شيء إلا إلى تقرير وضعية الاحتلال في الشرق الأوسط مع بعض تعديلات أو روشتة بسيطة، والحصول على الاعتراف العربي والدولي مما يسمح بتدفق الاستثمارات إلى الكيان الصهيوني حيث قد زال شبح الحروب عن هذا الكيان الغاصب. وبعد أن حققت إسرائيل رغباتها من خلال اتفاق غزة - أريحا، لم تعد هناك رغبة حقيقية في المسير قدمًا إلا من خلال دولة هيكلية مضحكة لا يرضاها أحد، ولكن حتى يكون هناك مبرر أمام الرأي العام العالمي لعدم إتمام عملية السلام تم افتعال أزمة عن طريق شارون.
فقام السفاح شارون جزار صبرا وشاتيلا باقتحام باحة المسجد الأقصى وسط قوة أمنية تجاوزت الألف جندي، وكان هدفهم هنا واضحا: قياس ردة الفعل الإسلامية.
فإن لم يثر المسلمون فقد ضاع الأقصى وضاعت فلسطين، وستجد السلطة الفلسطينية نفسها بغير ضغوط حقيقية من أهل فلسطين ومن المجتمع الإسلامي وعندها ستزيد احتمالات موافقتها على أي اتفاقية حتى وإن كانت هزلية، وتضحي حتى بالقدس الشرقية.
وإن ثار المسلمون وحدثت بعض الاحتجاجات تكون مبررًا لتوقف مسيرة السلام المزعومة وتجميد الأزمة كما حدث في البوسنة والهرسك مثلا.
هكذا كانوا يظنون، ولكن {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّـهُ ۖ وَاللَّـهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]. لقد انفجرت الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وأشعلت الأرض تحت أقدام اليهود. هذه الانتفاضة المباركة هي التي فضحت الأنظمة العربية وقامت بتعريتها مما مهد الطريق لإزالتها بعد ذلك تمهيدًا لاستعادة فلسطين والمسجد الأقصى الحبيب بإذن الله. بل وتعاطف الكثير من الأوروبيين مع القضية الفلسطينية كنتيجة طبيعية للعنف المفرط، وانقلب التوتر المحسوب على صاحبه تمامًا.
إلى هنا انتهى الحديث عن سياسة التوتر المحسوب، ورجاءً أعد قراءتها لأنها تمهيدًا لما بعدها بإذن الله.
ثالثًا: المجلس العسكري وإدارة الوضع الداخلي
كان الجو العام قبل ثلاثة أسابيع في مصر يسير في اتجاه إجراء الانتخابات، وكل المؤشرات تشير إلى احتمال فوز التيار الإسلامي بأغلبية مريحة في البرلمان تمكنه من الوصول إلى الحكم في دولة يتم تصنيفها كقائدة للعرب و من أكثر الدول فاعلية في منطقة الشرق الأوسط. ومن هنا كان الفيتو الأمريكي الواضح بأن الأمور لا يمكن أن تسير بهذا الشكل. فكان لابد من وضع خطة للسيطرة على هذا الوضع بإثارة نوع من التوتر المحسوب. من هنا جاءت وثيقة السلمي في هذا التوقيت بالتحديد.
فإما أن يقبل الشارع المصري تحت ضغط الرغبة في مرور الانتخابات على خير بأن يصبح تحت سيطرة المجلس الأعلى للقوات المسلحة بغير أي نوع من أنواع الرقابة أو المحاسبة لهم، وبغير وجود آلية تختار قياداته، وهو ما يعني استبدال شكلي لسلطة مبارك السابقة.
وإما أن يقوم الشعب المصري بالاعتراض على الوثيقة وطالب المجلس بإعلان انتخابات الرئاسة قبل نهاية أبريل 2012، وعندها ينبغي السيطرة على هذا التوتر وتوجيهه لتحقيق أغراض معينة. فكان أن اختار الشعب المصري حريته، وقام بمظاهرات مليونية غطت أرجاء الوطن بأكمله، وهو ما يعني أن الوثيقة مرفوضة شعبيا في رسالتين واضحتين للمجلس العسكري أولهما "حطوا على الوثيقة سكر، عشان لما تبلوها وتشربوا ميتها يبقى طعمها حلو"، وثانيهما "لم نعد نثق بكم، ونريد موعد محدد لانتخابات الرئاسة".
ثم كان القرار الواضح للغالبية بعدم الاعتصام في هذه الليلة لإضاعة الفرصة على من يريد إشعال الموقف، فكان أن قامت السلطات باستخدام للعنف مبالغ فيه جدا ضد عدد قليل من المعتصمين، مما أثار الجماهير للدفاع عن هؤلاء العزل. ثم تطورت الأوضاع إلى قتل متعمد وغاز وقنابل مسيلة للدموع أمام شاشات التلفاز مما وصل بالأمر إلى ما أطلق عليه البعض "ثورة التحرير الثانية".
والسؤال ما الهدف هنا من إثارة هذا "التوتر المحسوب"؟
هنا هدفان حقيقة، أولهما قياس ردة فعل الجماهير وتحملها لهذا النوع من العنف المفرط فإن هربت الجماهير من الميدان علم المجلس أن الروح الثورية قد انتهت وأن الجماهير أصبح من اليسير السيطرة عليها. ولن تقوم بثورة إن تم إلغاء الانتخابات خاصة وأن الانتخابات على ثلاثة مراحل وتستمر لمدة 50 يومًا، مما قد يفتح أبوابا من الفرص لا حصر لها أمام من يريد إشعال الموقف.
وثانيهما، إن اشتعل الموقف أصبح مبررًا جيدا للمجلس العسكري لإيقاف الانتخابات من البداية، وتشكيل حكومة جديدة بدعوى تحقيق الاستقرار تحكم البلاد إلى ما شاء الله. أي أن الانتخابات كان يخطط لإلغائها في الحالتين من وجهة نظري المتواضعة.
ولكن ردة فعل الشعب كانت مفاجئة، فقد ثار الشعب وأظهر ردة فعل قوية جدًا أعادت للميدان روح ثورة يناير، وأثبت للمجلس العسكري بما لا يدع مجالا للشك أنه لا يقبل التلاعب به بحال من الأحوال. وأصر الشعب على أن تكون الانتخابات في موعدها، وأعلن بوضوح أن أي تأجيل مفهوم تماما أن مقصده التجميد وعندها ستعود الملايين إلى الميادين للدفاع عن حقوقها، وعزل المجلس العسكري، خاصة وقد بدأ بعض ضباط الجيش ينضمون للثوار وهذا يعني أن هناك نوع من التعاطف مع الشعب.
ولا أظن الهدوء بدأ يسود اليوم إلا بعد أن كانت غضبة الجماهير مفاجئة للمجلس العسكري، مما جعله يلجأ للهدوء قليلا حتى لا يخسر كل شيء من أجل عيون أمريكا التي ثبت أنها تبيع أقرب المقربين إليها بغير ثمن.
ومن هنا أحمل المسئولية كاملة للمجلس العسكري عن تدهور الوضع الأمني في البلاد بغرض تعطيل الانتخابات والبقاء في السلطة، إذ لا يمكنني أن أغض الطرف أبدا عن التوقيت الذي تم فيه طرح وثيقة السلمي، ولا يمكنني أن أغض الطرف أبدا عن الاستخدام المفرط للعنف في هذا التوقيت بالتحديد، ولا يمكنني أن أغض الطرف أبدا عن محاولات إشعال الموقف المستمرة بعد التهدئة، ولا يمكنني أبدا أن أقتنع بحال من الأحوال أن القوات المسلحة لا تستطيع أن تقوم بنشر الأمن في شارع واحد عن طريق عزل الطرفين، ولا يمكنني أن أغض الطرف أبدا عن التقرير الذي سربته أمريكا عن عنان كنوع من الضغط على المجلس العسكري بكشف أوراق لهم قد تودي بهم في السجون إن تمت انتخابات نزيهة.
فما الحل الآن في هذه الأزمة الحالية؟
لقد لخص لنا أحد الإخوة الحلول المتاحة فكتب:
• أن هناك فئة ترى رحيل المجلس العسكري وتسليم الحكم لسلطة مدنية مؤقتة، فهم يرون المجلس العسكري فاسدًا مفسدًا جزءًا من نظام مبارك، ولا يمكن أن يؤتمن بحال من الأحوال. وإن كنت أتفق معهم عن حال المجلس إلا أني أخشى أن يؤدي هذا لإشعال الموقف.
• و فئة ترى بقاء المجلس العسكري كقوة لها هيبة تحفظ الأمن وأن الانتخابات ستمكن للصالحين. وهذه الفئة ليس لديها وعي سياسي كافي بأي حال من الأحوال.
• وفئة ثالثة بين الفئتين السابقتين تمثل رأي الشيخ حازم صلاح، وهي بقاء المجلس العسكري شكلًا كقوة تمنع الفوضى مع تقليم أظفاره، بوضع لجان نزيهة يرتضيها الشعب تشرف على قرارات وزارات الداخلية والإعلام والتشريعات كما يقولون. وأجدني متعاطفا مع هذه الفئة وأتفق معها في الرأي في الوقت الحالي.
وأشدد على:
• أهمية حراسة الشعب للشهرين القادمين حتى تنتهي تلك الانتخابات على خير، وتنال مصر حريتها الحقيقية بعد عهود طويلة من الاستعمار المباشر أو غير المباشر.
• أهمية منح عفو عام لأعضاء المجلس العسكري حقنا للدماء، بل وحتى تكريمهم وغض الطرف عما فات. حتى وإن اتهمني البعض بالخيانة، إلا أنني أرى المصلحة في هذا الأمر قبل أن تخسر مصر دماءً أكثر.
وأختم بكلمة لداعية الحريات فريدريك دوجلاس: "إن الذين يدعون رغبتهم في ممارسة الحرية، ولكنهم يرفضون ما تثيره من توتر وهياج للمجتمع هم كمن يريدون المحاصيل الزراعية دون حرث للأرض، وكمن يريد المطر من غير رعد وبرق، وكمن يريد المحيط من دون الجلبة التي يحدثها تلاطم مياهه. قد يكون الصراع أخلاقيًا، وقد يكون جسديًا ماديًا، وقد يكون كليهما، ولكن لابد من أن يكون صراعًا. إن السلطة لا تسلم الحقوق دون أن يكون هناك مطالبون لها، فهي لم يسبق لها أن فعلت، ولن تفعل أبدًا. علينا جميعًا أن نستمر في المطالبة، والنضال، والإرعاد، والحرث، والهتاف، والكفاح حتى تقام العدالة."
هذا ما عندي في هذه الأزمة، فما كان فيه من صواب فهو من الله سبحانه وتعالى وحده، وما كان من خطأ فمن نفسي ومن الشيطان. ولا داعي للتعصب لهذا الرأي أو ذاك، فهذه المرة الأزمة أصعب بكثير من ثورة يناير، والأمور أكثر التباسا.
اللهم دبر لنا فإنا لا نحسن التدبير.
وصلي اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
- التصنيف: