اللهم إني أعوذ بك من الحور بعد الكور

منذ 2023-12-02

قد تنوَّعت الفتن في هذا العصر، واشتدت فتن الشهوات والشبهات؛ منها فتن العقائد بانتشار الفِرَقِ والمذاهب الباطلة، وكثرة الخلاف والفرقة بين المسلمين، ومنها فتن المال والدنيا، التي زحفت بجميع زينتها وسِحْرِها، ومنها فتن الأهواء والأفكار ...

الحمد لله، يهدي من يشاء فيوفِّقه بفضله، ويضل من يشاء فيخذُله بعدلِهِ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه؛ أما بعد:

فقد روى ابن ماجه في "سننه" عن عبدالله بن سرجس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم إني أعوذ بك من الحَور بعد الكَور».

 

قال الإمام السندي في حاشيته: "والكور لفُّ العِمامة وجمعُها، والحَور نقضها، والمعنى: الاستعاذة بالله من فساد أمورنا بعد صلاحها، كفساد العمامة بعد استقامتها على الرأس"[1].

 

وفسَّر الإمام الترمذي (الحور بعد الكور) بالرجوع من الإيمان إلى الكفر، أو من الطاعة إلى المعصية؛ وقال المباركفوري: "أي: النقصان بعد الزيادة، وفساد الأمور بعد صلاحها"[2].

 

وقال الإمام المازري: "معناها: أعوذ بك من الرجوع عن الجماعة بعد أن كنا فيها، يُقال: كار عمامته إذا لفَّها، وحارها إذا نقضها".

 

ولا شك أنها كلها تصُبُّ في معنًى واحدٍ؛ وهو الرجوع من الإيمان إلى الكفر، أو من الطاعة إلى المعصية، وتبدُّل حال المؤمن من الحسن إلى السيئ، ومن الاستقامة أو الزيادة إلى ضعف الإيمان، ونقصان العمل الصالح الذي اعتاد عليه.

 

وقد أمر الله عباده المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله، ونهاهم عن إبطال أعمالهم بمعصيته ومعصية رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33]، وكان صلى الله عليه وسلم يقول: « «اللهم يا مقلِّبَ القلوب، ثبِّت قلوبنا على دينك» »[3].

 

وقد تنوَّعت الفتن في هذا العصر، واشتدت فتن الشهوات والشبهات؛ منها فتن العقائد بانتشار الفِرَقِ والمذاهب الباطلة، وكثرة الخلاف والفرقة بين المسلمين، ومنها فتن المال والدنيا، التي زحفت بجميع زينتها وسِحْرِها، ومنها فتن الأهواء والأفكار الدخيلة الفاسدة التي يسعى لترسيخها بعض المأجورين وأصحاب المصالح الدنيوية الرخيصة، ومنها تسلُّط أعداء الدين وتكالُبُهم على أمَّة الإسلام بإشعالهم نار الحرب، وبما يتعمدونه، من بثِّ الشُّبُهات، وإثارة الشكِّ في تعاليم ديننا الحنيف وقِيَمه، وإلصاق تهم التخلُّف والرجعية به، وإلباسهم في المقابل مناهجَهم الدخيلة وأفكارَهم الهدَّامة ثوبَ العلم والتقدم؛ ما جعل كثيرًا من شباب الإسلام يغترُّ بهم ويسير وراءهم.

 

ولا شك أن من أعظم الفتن وأشدها شرًّا وخطرًا على الإسلام وعلى المسلمين فتنةَ الهَرْجِ والقتل، التي استحرَّت بين المسلمين؛ فقد سُفِكَتِ الدماء، وأُزْهِقَتِ الأرواح، واستُبيحت الحُرُمات.

 

وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: «ويلٌ للعرب من شرٍّ قد اقترب؛ فتنًا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، يبيع قوم دينهم بعَرَضٍ من الدنيا قليلٍ، المتمسك فيهم يومئذٍ بدينه كالقابض على الجمر»[4].

 

وما يحدث في زماننا من الفتن العظيمة والابتلاءات الشديدة في بعض البلاد، قد يجعل بعض الشباب المسلم يتردَّى وينقض أعماله الصالحة بأعمال سيئة، ومنهم من قد يضعُف إيمانه فيهجُر المساجد ودور العبادة، أو يهجر إخوانه المؤمنين ويبعَد عنهم، ومنهم من قد ينزلق ويتردى في ظلمات الذنوب والمعاصي؛ فقد نسمع أحيانًا عن أخٍ قد تردَّى هنا، أو أختٍ نزعت عنها حجاب العفاف هناك، وتعرَّت من لباس الحياء، وآخر كان متعهدًا لكتاب ربه يعمُر به مجالسه وينير به ظلام ليله فترَكَه وهَجَرَه، وآخر كان لا يستمع للموسيقى والغناء، فما باله اليوم صار عليها من المدمنين؟

 

لست أعني هنا الغافلين من الذين لا خَلَاق لهم ولا أقصدهم؛ أولئك الذين لا يُصلُّون ولا يُزكُّون ولا يعبدون الله أبدًا، وما أكثرهم في هذا الزمان! فهؤلاء قد ضرب الله لهم مثلًا في كتابه الكريم؛ قال سبحانه: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 176]، وفي التفسير الميسر: "ولو شئنا أن نرفع قدره بما آتيناه من الآيات لَفَعَلْنا، ولكنه ركن إلى الدنيا واتبع هواه، وآثَرَ لذَّاتِه وشهواته على الآخرة، وامتنع عن طاعة الله وخالف أمره، فمثل هذا الرجل مثل الكلب، إن تطرده أو تتركه يُخرِج لسانه في الحالين لاهثًا".

 

وقال الإمام البغوي في هذه الآية: "إن وعظتَه فهو ضالٌّ، وإن تركته فهو ضال، كالكلب"، ولئن لم يتعهد هؤلاء أنفسهم، ويثوبوا لرشدهم ويتوبوا لربهم، يوشكوا أن يخسروا الدنيا والآخرة.

 

واعلم - أخي - أن الابتلاء من سُنَنِ الله تعالى لعباده المؤمنين؛ ليتبين له الذين صدقوا ويعلم الكاذبين: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 2، 3]، ولأن عبودية الله وحده هي غاية خلق العباد: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]؛ اقتضت منا هذه الغاية أن تكون عبوديتنا لله تعالى في السراء والضراء، وفي اليُسْرِ والعُسر، وفي المحابِّ والمكارِه، وفي جميع الأحوال؛ فالمسلم الصادق هو الذي يستقيم على طاعة ربه مهما اشتد البلاء، ومهما كثُرت الفتن وتلاحقت المحن، وقد بيَّن صلى الله عليه وسلم جزاءَ المتمسك بدينه، الصابر عليه في مثل هذه الأيام؛ حين قال: «إن من ورائكم أيامَ الصبر، للمتمسك فيهن يومئذٍ بما أنتم عليه أجرُ خمسين، قال: يا نبي الله منا أو منهم؟ قال: بل منكم».

 

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر قال: «اللهم إني أعوذ بك من وَعْثَاء السَّفَر، وكآبة المنقلب، والحَور بعد الكَور، ودعوة المظلوم، وسوء المنظر في الأهل والمال»، وفي بعض الروايات: ( «الكون» ) بالنون بدل (الكور)[5].

 

ولا شكَّ أن الفوز الحقيقي لمن أنجاه الله من الفتن والبلايا، فيخرج من هذه الدنيا سالمًا إلى جنة عرضها السماوات والأرض؛ قال سبحانه: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185].

 

ومن أهم أسباب الفوز وضمانات النجاة من المحن والفتن:

• التوبة الصادقة، وأن يسعى المسلم قبل كل شيء لإصلاح نفسه وإنقاذها، وإنقاذ المقربين من أهله وعشيرته؛ قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرعد: 11]، وأن يتمسك بدينه ويعَضَّ عليه بالنواجذ، ويواظب على صلاته وجماعته، وعلى ما اعتاده من تلاوة لكتاب ربه، ومن ذكر ودعاء، وأمر بمعروف، ونهي عن منكر، وكل أعمال البر والتقوى، وأن يبتعد عن محارم الله ويجتنبها، ويأخذ بأسباب الثبات حتى الممات.

 

• أن يجتنب المؤمن كل الفتن، ويبتعد عنها، وخاصة منها تلك الفتن الملتبسة التي لا يُعلَم الحق فيها فيجتنبها بأيِّ ملجأ، ويتجنب الدخول فيما لم تتبين عواقبه، وأن يتحلى بالصبر والحكمة، ويحذر أن تأخذه العاطفة البعيدة عن العقل، أو تجرفه المثيرات من وسائل الإعلام، ومن الشباب المتحمِّس الذي لا عِلْمَ له، والذي لا يقيس العواقب؛ قال صلى الله عليه وسلم: «ستكون فتنٌ، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرَّف لها تَسْتَشْرِفه، فمن وجد فيها ملجأً أو معاذًا، فلْيَعُذْ به»[6].

 

• الرجوع إلى علماء السنة، ولزوم مجالسهم والسير على خُطاهم، واستفتاؤهم في كل ما يطرأ علينا، وخاصة في الحوادث والوقائع المستجَدَّة؛ قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7]، فلا يعلم طريق الحق عند الفتن إلا العلماء، فلا بد من إرجاع الأمر إليهم؛ قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: "إن الفتنة إذا أقبلت عَرَفها العالِم، وإذا أدبرت عرَفها كل جاهل".

 

• التفقُّه في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومعرفة منهج سلف الأمة من الصحابة رضي الله عنهم، ومن سلك سبيلهم من أئمة الإسلام ودعاة الهدى، فلا تخلص من الفتن بكل أنواعها، ولا نجاة منها، إلا بالعلم، "ومن لا يعرف الشر يقع فيه".

 

• الإقبال على العبادة؛ قال صلى الله عليه وسلم: «العبادة في الهَرْجِ كهجرة إليَّ»؛ (رواه مسلم)؛ قال الإمام النووي في شرح هذا الحديث: "المراد بالهرج هنا الفتنة واختلاط أمور الناس".

 

• الإكثار من الدعاء والتضرع لله تعالى؛ قال صلى الله عليه وسلم: «ستكون أَثَرَةٌ وأمور تنكرونها، قالوا: يا رسول الله، فما تأمرنا؟ قال: تؤدون الحقَّ الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم»[7]، وقال تعالى: {فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45].

 

اللهم أعِذْنا من الفتن، ما ظهر منها وما بطن، اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، واجمع كلمتهم على الحق والهدى المبين، وأعِنْهم على طاعتك والعمل بسُنَّة رسولك، والحمد لله رب العالمين.

 


[1] حاشية السندي على النسائي.

[2] تحفة الأحوذي، شرح جامع الترمذي، لمحمد بن عبدالرحمن المباركفوري.

[3] رواه الترمذي وأحمد والحاكم، وصححه الألباني.

[4] رواه الإمام أحمد في المسند.

[5] رواه الإمام مسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وصححه الألباني.

[6] رواه البخاري، ومسلم، وأحمد، والبيهقي، وابن حبان.

[7] رواه البخاري ومسلم.

________________________________________________________________
الكاتب: زهير رزق الله