السعادة لأهل الثبات (طوبى للغرباء)
طوبى للغرباء: هم أهل الثبات على العقيدة السلمية التي يجب على العبد الثبات عليها، مهما كانت المتغيرات أو الفتن والشبهات والشهوات، ولا يستوحش أحدٌ من الحق لقلة السالكين، ولا تغتر بالباطل لكثرة الهالكين...
مقدمة:
الحمد لله الذي أنزل النُّورَين؛ الكتاب والسنة النبوية؛ ليُخرج الناس من ظلمات الشرك والظُّلم إلى النور، وبعث خير البشر محمد صلى الله عليه وسلم هاديًا ورحمة للعالمين، ووعد المتمسكين بالحق العاملين به بالسعادة في الدنيا والآخرة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود كما بدأ غريبًا، فطوبى للغرباء»؛ (الراوي: أبو هريرة، صحيح مسلم).
((بدأ الإسلام غريبًا)):
العالم قبل البعثة: الغربة الأولى:
نظرة على أحوال الأرض الدينية والاجتماعية المؤثرة أثرًا مباشرًا في حياة الفرد والمجتمع قبل بعثته صلى الله عليه وسلم.
عن عياض بن حمار قال رسول الله صل الله عليه وسلم: «إن الله نظر إلى أهل الأرض، فمَقَتَهم عَرَبَهم وعَجَمَهم، إلا بقايا من أهل الكتاب»؛ (أخرجه مسلم: كتاب الجنة (2865)).
الظلم الاجتماعي والانحراف الديني عن فطرة الله جَلَبَتْ عليهم مَقْتَ الله سبحانه وتعالى، والمقت شدة الكراهية، و(بقايا) معناها: آثار، موحِّدين غير مؤثِّرين في واقع الناس، منهم ورقة بن نوفل.
الوضع في الدولة الرومانية:
دينيًّا: كانوا يعبدون المسيح والخلافات العقدية بين الطوائف أدت إلى الحروب والاضطهاد، المذهب الأرثوذكسي من ناحية، والمذهب الكاثوليكي من ناحية أخرى، وداخل الدولة الرومانية الأرثوذكسية الشرقية الخلافات نفسها بين الطائفة الملكانية التي تعتقد بازدواجية طبيعة المسيح، وطائفة المنوفيسية وهم أهل مصر والحبشة، ويعتقدون بطبيعة إلهية واحدة للمسيح، وكانت طائفة الملكانية تقوم بتعذيب الطائفة الأخرى[1].
اجتماعيًّا: انقسم المجتمع الروماني إلى أحرار (السادة)، وعبيد وهم ثلاثة أضعاف الأحرار، ولا يتمتعون بأي حقوق، وكذلك المرأة، تعد المرأة كائنًا لا نفسَ له، ورجسًا، ولا ترث الحياة الأخروية[2].
الوضع في الدولة الفارسية:
دينيًّا: كانوا يعبدون النار.
اجتماعيًّا: كان الشعب في المجتمع الفارسي يخضع لنظام شديد الطبقية، مقسَّم إلى سبع طبقات، أدناهم عامة الشعب؛ وهم العمال والفلاحون والجنود والعبيد، ليس لهم حقوق، حتى إنهم كانوا يُربَطون في المعارك بالسلاسل، كما فعلوا في موقعة الأبلة[3].
الوضع في أوروبا الشمالية:
دينيًّا: يعبدون المسيح.
اجتماعيًّا: يذكر المؤرخ الفرنسي رينو حال أوروبا قبل الإسلام، فيقول: طفحت أوروبا في ذلك الزمان بالعيوب والآثام، وهربت من النظافة والعناية بالإنسان والمكان، وزخرت بالجهل والفوضى والتأخر، وشيوع الظلم والاضطهاد، وفشت فيها الأمية[4].
حالة العرب في الجزيرة العربية:
دينيًّا: يعبدون الأصنام أولًا شفعاء ووسطاء؛ وقالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، ثم اعتقدوا أنها تملك النفع والضر، والخير والشر، كان لكل مدينة وقبيلة صنم، في مكة أعظمهم (هُبُل)، والطائف أعظمهم (اللات).
اجتماعيًّا: وتفشت عادات سيئة؛ كشرب الخمر، والميسر، والربا، ووأد البنات (دفن البنت حيةً)، والعصبية، والحروب المستمرة بين القبائل على أتفه الأسباب، حروبهم حرب داحس والغبراء، كما كان للزنا صور بشعة، والزنا النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء: ثلاثة منها تدور على الزنا[5].
الغربة الثانية الكاملة:
أنه في آخر الدنيا لا يبقى مسلم إلا القليل، وهذا إنما يكون بعد الدجال ويأجوج ومأجوج عند قرب الساعة، وحينئذٍ يبعث الله ريحًا تقبض روح كل مؤمن ومؤمنة ثم تقوم القيامة.
الغريب: البعيد عن الوطن، شخص أو مجموعة له صفات تختلف عن صفات المحيطين به، يُقال: غريب الأطوار، غريب في ملبسه في أفعاله في كلامه، إما بصلاحه بين المفسدين أو بفساده بين الصالحين.
دعوة الإسلام (صفات الغريب):
بُعِثَ الحبيب صلى الله عليه وسلم للناس عامة، وكل من قبله لقومه خاصة، بُعِثَ بالتوحيد، وحسن الخلق، وإعادة الفطرة السليمة، وإصلاح المعاملات المالية والاجتماعية، والمساواة، ونشر الأخوة بين الناس، آخى بين أبي بكر القرشي، وبلال الحبشي، وصهيب الرومي، وسلمان الفارسي، وبين المهاجرين والأنصار، ونبذ العصبية الجاهلية، والتفضيل بالتقوى.
خطاب جعفر بن أبي طالب مع النجاشي ملك الحبشة:
وبدأ جعفر خطابه قائلًا: "أيها الملك، كنا قومًا أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، يأكل القوي منا الضعيف... فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولًا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه"، وهنا يشير جعفر إلى أن الذي جاء بهذا الدين الجديد صادق أمين، "دعانا إلى الله لنوحِّده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئًا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام... فصدقناه، وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به، فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئًا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا".
حوار دار بين الصحابي الجليل ربعي بن عامر ورستم قائد الفرس:
رستم: ما جاء بكم؟
ربعي: لقد ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جَورِ الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، فمن قبِلَ ذلك منَّا قبِلنا منه، وإن لم يقبل قبلنا منه الجزية، وإن رفض قاتلناه حتى نظفَرَ بالنصر.
رستم: قد تموتون قبل ذلك.
ربعي: وعدنا الله عز وجل أن الجنة لمن مات منا على ذلك، وأن الظَّفَرَ لمن بقِيَ منا.
انتشر الإسلام الحنيف لفترات لم يكن غريبًا.
قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «خيركم قرني، ثم الذين يَلُونهم، ثم الذين يلونهم» - قال عمران: لا أدري: ذكر ثنتين أو ثلاثًا بعد قرنه - «ثم يجيء قوم، ينذرون ولا يُوفون، ويخونون ولا يؤتمنون، ويشهدون ولا يستشهدون، ويظهر فيهم السِّمَن»؛ (الراوي: عمران بن الحصين، المحدث: البخاري).
عصر النبوة وعصر الخلفاء الراشدين وعصر التابعين:
فهكذا يتغرب في كثير من الأمكنة والأزمنة، ثم يظهر حتى يقيمه الله عز وجل، كما كان عمر بن عبدالعزيز لما وَلِيَ قد تغرب كثير من الإسلام على كثير من الناس، حتى كان منهم من لا يعرف تحريم الخمر، فأظهر الله به في الإسلام ما كان غريبًا.
انتشرت الفرق والفتن، والشبهات والشهوات، اتُّهم الإسلام بالإرهاب، الطعن في صحة القرآن والأحاديث من غير المسلمين، وانتشر في بعض المسلمين الجهل بالدين، والانحراف عن القرآن والسنة، والتشكيك في الثوابت والأحكام، من يتهم أن أحكام الميراث فيها ظلم للنساء، وينكر أن حجاب المرأة فريضة، وعاد بعض الناس للعادات الجاهلية؛ من شرب الخمر، والزنا، والغش في المعاملات، والتفريط في العبادات؛ كالصلاة والزكاة، والحج والصيام.
غربة الدين ما هي إلا مرحلة عارضة تمر بها الأمة، ولا تستقر فيها، ولا تدوم عليها، ثم تعود إلى المرحلة الطبيعية التي هي الانتشار بمن يقيمون تعاليم الدين، ويحيون سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهم الغرباء، وقوله صلى الله عليه وسلم: «بشِّر هذه الأمة بالسَّناء والنصر والتمكين في الأرض»؛ (رواه أحمد)، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها»؛ (رواه أبو داود)، والتجديد إنما يكون بعد الدروس، وذاك هو غربة الإسلام.
طوبى للغرباء:
هم أهل الثبات على العقيدة السلمية التي يجب على العبد الثبات عليها، مهما كانت المتغيرات أو الفتن والشبهات والشهوات، ولا يستوحش أحدٌ من الحق لقلة السالكين، ولا تغتر بالباطل لكثرة الهالكين، وإن كنت غريبًا في الأرض، فأنت مشهور في السماء، مذكور عند الله والملائكة.
هناك رواية لبقية الحديث: ((قيل: من هم؟ قال صلى الله عليه وسلم: «الذين يصلحون إذا فسد الناس»، وفي رواية: «الذين يصلحون ما أفسده الناس من سنتي».
هذا ولقد بشرنا النبي صلى الله عليه وسلم بأن الحق لن يزال ظاهرًا حتى في زمن غربة الإسلام على يد طائفة منصورة، فقال: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله»؛ (رواه مسلم).
وطوبى شجر في الجنة، وفي الدنيا، من الطِّيب؛ قال تعالى: {طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} [الرعد: 29]، فإنه يكون من جنس السابقين الأولين، الذين اتبعوه لما كان غريبًا؛ وعن ابن عباس أن معناه فرح وقرة عين، وقال عكرمة: نعمة لهم، وقال الضحاك: غبطة لهم، وقال قتادة: حسنى لهم.
طرق الثبات:
الدعاء بالتثبيت:
حدثنا أبو داود قال: حدثنا أبو كعب، عن شهر بن حوشب، قال: دخلت على أم سلمة، فقلت لها: أخبريني بأكثر ما كان يدعو به النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: ((كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «يا مُقلِّب القلوب، ثبِّت قلبي على دينك» ، فقلت: يا رسول الله، إنك تكثر أن تدعو بهذا؟ فقال: «إن قلب ابن آدم بين إصبعي الرحمن عز وجل، ما شاء أقام، وما شاء أزاغ».
الاستقامة والاتباع:
عن أبي نجيح العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: ((وَعَظَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظةً وجِلت منها القلوب، وذرَفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله، كأنها موعظة مودِّعٍ فأوصِنا، قال: «أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن تأمَّر عليكم عبدٌ، فإنه من يعِشْ منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدَثاتِ الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة»؛ (رواه أبو داود رقم: 4607، والترمذي رقم: 266، وقال: حديث حسن صحيح).
الصحبة الصالحة:
قال عز وجل: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28].
[1] ألفرد. ج. بتلر: فتح العرب لمصر ص37، 38.
[2] شلبي: مقارنة الأديان (2/ 188)، عفيف طيارة: روح الدين الإسلامي، ص271.
[3] وهي بلدة على شاطئ دجلة البصرة، جَرَتْ فيها موقعة تسمى ذات السلاسل بين المسلمين والفرس؛ [انظر: معجم البلدان (1 /43)].
[4] جوزيف رينو: تاريخ غزوات العرب، ص 295.
[5] البخاري: كتاب النكاح، باب من قال: لا نكاح إلا بولي (4834).
______________________________________________________
الكاتب: أحمد محمد يوسف
- التصنيف: