فلسطين وكذبة حقوق الإنسان

منذ 2023-12-27

لهذا نُسائِل الغرب الذي يُنصِّب نفسه «حارس قِيَم وحقوق الإنسان»، ويتشدّق علينا في خطاباته بـ «حقوق الإنسان» الكونية، أليس الفلسطينيون ناسًا؟!

عادةً ما يزيد الاهتمام بخطاب «حقوق الإنسان» عندما يتعرض شعبٌ من الشعوب أو جماعة بشرية في بقعةٍ ما، لانتهاكات واعتداءات على حقوقهم الطبيعية. ويتعاظم هذا الاهتمام أكثر، حينما تُصوّر وتُذاع تلك المَشاهد على الشاشات والصحف العالمية. وهو ما يؤدي إلى تدويل ذلك الخبر على نطاق أوسع، فيتحول مِن ثَم، من مشكلة محلية أو إقليمية إلى قضية دولية، تعني كافة المجتمع الدولي والمنظمات ذات الصلة بالموضوع، بل إن ذلك يصبح يعني كل إنسان كذات فردية، يمسّها في إنسانيتها وشعورها وكرامتها وحقوقها الطبيعية المكفولة شرعًا وقانونًا.

ويتم التعبير عن هذا الشعور الجماعي الإنساني، من خلال المظاهرات والاحتجاجات الشعبية الجماعية، التي تجوب الشوارع للتنديد والشجب، والتعبير عن الغضب الإنساني؛ بسبب ما تتعرض له الإنسانية من بشاعة القتل والحرمان والتدمير... إلخ في ذلك الإقليم.

والحقيقة التي لا يجادل فيها أحد؛ هي أن فلسطين تُعدّ أكثر القضايا إثارةً للرأي العام العالَمي؛ لقاءَ ما يُمارَس عليها من بشاعات ووحشيات لا إنسانية، تضرب في صميم «الحقوق الإنسانية» و«الضمير الإنساني الحي».

يُضاف إلى ذلك كونها القضية التي ما فتئت تُلِحّ على المجتمع الدولي والمنظمات الأممية المسؤولة، وتؤكد فشلهم، أو بالأحرى «عدم جديتهم وإرادتهم» في إيجاد حل نهائي للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وتأسيس الدولة الفلسطينية الحرة والمستقلة، على غرار باقي شعوب ودول العالم. هل هذا صعب للغاية؟ وإذا كان كذلك، فلِمَ لَمْ يكن الحال كذلك عندما مُكِّنَ الكيان الصهيوني من تأسيس وطن قومي بفلسطين، والمسارعة إلى الاعتراف به ومساندته كدولة «مشروعة»؟!

الغرب وأسطورة حقوق الإنسان

من المعلوم أن «حقوق الإنسان» مقولة غربية بامتياز. لم تكن الغاية منها -كما يدّعي الغرب- المُنافَحة الأخلاقية والقانونية عن حقوق الإنسان المقهور في الدول الأخرى؛ ولكن الواقع أن حقوق الإنسان، تُعدّ ورقة سياسية وأيديولوجية، للتدخل في الشؤون الداخلية والسيادة الوطنية للدول، خاصةً تلك الرافضة للتوجيهات والإملاءات والسياسات الغربية، والتي تسمى بـ«الدول المارقة»؛ بهدف ترويضها وتركيعها واستتباعها للنظام الغربي، «إنها بالتأكيد سلاح أيديولوجي وسياسي نافذ لفرض الهيمنة وإقرار حق التدخل»[1].

بيد أن ثمة ملاحظة جديرة بالذكر، وهي أن الغرب يتناول خطاب حقوق الإنسان بسياسة «ازدواجية المعايير»؛ فعندما يتعلق الأمر بالدول الغربية و«حلفائها الحقيقيين» مثل أوكرانيا وإسرائيل وغيرهم، يسارع الغرب إلى إشهار ورقة حقوق الإنسان، وإلصاق التُّهَم والملصقات الجاهزة بالطرف الآخر، وهو ما حصل ويحصل فعلاً، في موقف الغرب من الأزمة الأوكرانية؛ حيث يتمّ نَعْت العمليات العسكرية الروسية بـ«الإرهابية» و«جرائم الحرب»، والدعوة لتصنيف الرئيس بوتين بـ«مجرم حرب»، فيما يُسوّغ للأوكرانيين حق الدفاع عن النفس بكافة الأسلحة والطرق، والأمر نفسه كذلك يتكرر في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، عندما تفسّر كل الهجمات الصهيونية البشعة والمقززة بأشد الأسلحة دمارًا وفتكًا وسُمِّيَّة، على المدنيين والأطفال والمستشفيات والمدارس والبنيات التحتية... إلخ، على أنها حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها! في مقابل -وهذا هو الأنكى- اعتبار المقاومة الفلسطينية منظمة «إرهابية»! فأيّ عدالة دولية هذه؟! وبأي منطق يفكر الغرب؟! غير منطق التعصب والانحياز والأيديولوجيا والازدواجية المفضوحة!

لهذا نُسائِل الغرب الذي يُنصِّب نفسه «حارس قِيَم وحقوق الإنسان»، ويتشدّق علينا في خطاباته بـ «حقوق الإنسان» الكونية، أليس الفلسطينيون ناسًا؟! أليسوا بشرًا لهم حق العيش، وحق الحياة، وحق الحرية، وحق العدالة، وحق المساواة، وحق التعبير، وحق الدفاع عن النفس... إلخ؟!

لماذا تنتفي الموضوعية في خطاب حقوق الإنسان، عندما يتعلق الحال بفلسطين، وتتكالب عليها الآلة الصهيونية المتوحشة، وتُستباح الدماء والحرمات، وتُدمّر المقدسات الدينية، وتُهضَم الحقوق التاريخية حول قضية أرض وهوية؟! ألسنا هنا إزاء سياسة الانتقائية والعنصرية واللاديمقراطية يا «عواصم الديمقراطية»؟!

أين الشعب الفلسطيني من مفاهيم الحرية والعدل وحق تقرير المصير؟ لماذا يسود صمت رهيب وردود «باردة»، تجاه ما يلحق هذا الشعب الغارق في دمائه منذ 1948م، من سطوٍ على ترابه، وتهويدٍ لمُقدّساته، وقَصْف لصدور شبابه وأطفاله، وتدمير لمؤسساته المدنية؟ هل مات ضمير العالم يا ترى؟ وبأي معنى نتحدث عن حوار الأديان والثقافات والحضارات وإشاعة السلام العالمي، وثمة شعب أعزل، لا يزال يُذبح ويُقتل ويُنكَّل به، على مرأى ومسمع من «العالم المتحضر»، وهناك أرض ما يزال الاستعمار الصهيوني جاثمًا عليها؟

هكذا يبدو أنه كلما تعلّق الأمر بإسرائيل، غُيِّب خطاب الديمقراطية وحقوق الإنسان، وبرز «خطاب الدفاع عن النفس»!، فوَفْق هذه المعدلة التي تُدار ويتم اختيار أرقامها من الغرب، يصبح المظلوم ظالمًا، والمعتدي بريئًا! والعكس صحيح.

فلسطين وحق تقرير المصير (Right of Self-Determination): السؤال العالق

بادئ ذي بدء، نشير إلى أن قانون حقوق الإنسان، يعلو على جميع القوانين الدولية والوطنية. وبالتالي فإن الدول المُخالِفة لهذا التشريع، تُوضَع موضع «المساءلة أمام الأمم المتحدة من ناحية، وأمام مؤسسات دولية رقابية، سواء أكانت هذه المؤسسات عالمية؛ مثل مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة، واللجنة المعنية بحقوق الإنسان... أو اللجان والمحاكم الإقليمية ...»[2].

بطبيعة الحال، يندرج مبدأ وحق تقرير المصير ضمن المبادئ التي ينص عليها قانون حقوق الإنسان؛ إذ تنص المادة الأولى من العهدين الدوليين على أن «لكافة الشعوب الحق في تقرير المصير. ولها، استنادًا لهذا الحق، أن تقرّر بحُرّية كيانها السياسي، وأن تُواصل بحُرّية نموها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، كما لها، أن تتصرف بحُرّية في ثروتها ومواردها الطبيعية. كما أن على جميع الدول الأطراف في الاتفاقية الحالية، بما فيها المسؤولة عن إدارة الأقاليم التي لا تحكم نفسها بنفسها، أو موضوعة تحت الوصاية؛ أن تعمل من أجل تحقيق حق تقرير المصير، وأن تحترم ذلك الحق تماشيًا مع نصوص ميثاق الأمم المتحدة»[3].

وقد أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1960م، مَنْح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمَرة. وفي عام 1961م، أُنشئت لجنة لتصفية الاستعمار، وشجَّعت الشعوب المستعمَرة على التحرر بكل الوسائل بما في ذلك استخدام القوة، وسوَّغت لها أيضًا نَهْج الكفاح المُسلَّح من أجل نَيْل حريتها، وإنشاء دولها المستقلة ذات السيادة.

وتجدر الإشارة إلى أن حق تقرير المصير، كان مثار صراع ونقاش طويل في المفاوضات الإسرائيلية- العربية حول حقّ فلسطين في تقرير مصيرها وبناء الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود 1967م. وما يزال هذا المطلب محل تجاذب بين الإسرائيليين والفلسطينيين، الذين يجدون فيه الملاذ والحق الذي يكفله القانون الدولي للشعوب المُستعمَرة والمقهورة. 

غير أنَّ هذا الحق يُواجه إشكالية التنزيل والتجسيد العملي، بسبب تعنُّت الطرف الإسرائيلي، وعدم جدّيته في إنهاء الصراع على أساس حلّ الدولتين، القائم على التوافق والتراضي. 

والحقيقة أن المجتمع الدولي أيضًا، لا يريد حلّ القضية الفلسطينية، وإحلال السلام في الشرق الأوسط، لو أراد بالفعل إنهاء وتسوية هذه المسألة، لفعل ذلك منذ أمَدٍ، ولنفَّذت إسرائيل ما يُطلَب منها وهي صاغرة ذليلة. فليس من المنطقي أبدًا، أن تعجز الدول العظمى، التي تدير خيوط النظام العالمي بدقة ومنهجية وبالقوة أحيانًا، عن إنهاء هذه القضية!

والحال أن موقف الغرب من القضية الفلسطينية، هو موقف مبني على سبق إصرار وترصُّد؛ كما يقال بين أهل القانون. إنه موقف مبني على النفاق السياسي وعلى ازدواجية المعايير. لنَعُد قليلًا إلى التاريخ، لنستخلص أنه لا يمكن أن ننتظر من دولة عظمى كالولايات المتحدة الأمريكية، التي كانت سبّاقة إلى الاعتراف بإسرائيل عام 1947م، ومساندتها والتمكين لها في المنظمات الدولية، أن تدعم فلسطين وتنافح عن حقوقها المشروعة أمام «الابنة المُدلّلة» للغرب إسرائيل! هذا درس تاريخي ينبغي لنا أن نَعِيه جيدًا، في نظرتنا وتقديرنا لموقف الغرب من فلسطين. إن الولايات المتحدة الأمريكية هي «حصان طروادة» بالمنطقة عبر إسرائيل التي تشرع لها الباب للتدخل والحضور الدائم في المنطقة.

على سبيل الختام:

إن حقوق الإنسان ليست سوى «موضة سياسية»، وصناعة غربية تتغيَّا ممارسة نوع من «الاستغمائية على كل مَن يحاول أن يكشف سرّها. فهي تارة قطعة نرد أساسية في استراتيجية المصالح، وهي تارة أخرى مقولة أخلاقية خلاصية طهرية مُوجَّهة لإنقاذ العالم، ولإضفاء طابع رحيم على أنياب السياسة وتغليف مخالب ذئابها بجدائل من الحرير المزركش»[4]. وليس الموقف الغربي من إسرائيل وفلسطين إلا تعبير صريح عن هذه الازدواجية. 


[1] سبيلا، محمد، حقوق الإنسان والديمقراطية، سلسلة شراع، العدد 19، سبتمبر 1997م، 54.

[2] الشافعي، محمد بشير، قانون حقوق الإنسان: مصادره وتطبيقاته الوطنية والدولية، منشأة المعارف، الطبعة السادسة 2009م، 14.

[3]  الشافعي، محمد بشير، قانون حقوق الإنسان، مرجع سابق، ص 125- 126.

[4] سبيلا، محمد، حقوق الإنسان والديمقراطية، مرجع سابق، ص 57.